بعد مرور حوالي ثلاثة أشهر على كارثة انفجار بيروت تلقّى عدد من أسر الشهداء اتصالاتٍ من الهيئة العليا للإغاثة تدعوهم لاستلام شيكاتٍ مصرفيةٍ بقيمة 30 مليون ليرة لكلّ أسرة خسرت أحد أفرادها. ووضع الأمين العام للهيئة العليا للإغاثة اللواء محمد خير هذا المبلغ تحت خانة “المساعدة” للعائلات وفق ما قاله لـ”المفكرة القانونية”. استلمت العائلات شيكاتها المصرفية وتوجّهت إلى مصرف لبنان لقبضها، لكن الإدارة طلبت ممن يملكون حساباتٍ مصرفية قديمة إيداع شيكاتهم فيها، أو فتح حساباتٍ جديدة لمن لا يملكون حساباً، الأمر الذي يعتبر اليوم شبه مستحيلٍ في ظل القرارات المصرفية الأخيرة، بحيث ترفض المصارف فتح أي حساباتٍ جديدة. أما من لديه حساب فيحق له سحب مبلغ مليون ليرة كحدٍ أقصى شهرياً، “وفق السياسات المصرفية الجديدة”، حسب ما أكد أكثر من مصرف ليوسف المولى، والد الشهيد قاسم المولى. وعليه لم ينل هؤلاء سوى حبراً على ورق حتى الآن. مع العلم أنّ السقوف الشهرية للسحب من الحسابات بالليرة اللبنانية هي أكثر من مليون ليرة بالشهر، وتكون المصارف هنا تميّز سلباً تجاه أسر ضحايا مجزرة بيروت.
ما يزيد الطين بلّة، أنّ معظم الضحايا الشهداء كانوا معيلين لأسرهم، وتؤكد عائلات كثيرة أنها بأمسّ الحاجة إلى هذه المساعدة، ولو أتت متأخّرة، بخاصّة وأنّ خسائرهم المادية والعينية كبيرة أيضاً، ويعيش العديد منهم بالإيجار، وقد دمّر الانفجار أثاثهم وممتلكاتهم وسياراتهم وكثر منهم فقدوا أشغالهم.
شيكات مصرفية تنام في الأدراج
يقول يوسف المولى، إنّه وضع الشيك الذي استلمه من الهيئة العليا في درج الخزانة حيث “من المستحيل الاستفادة منه”. وكان المولى انهمك نحو شهرٍ في تحضير الأوراق المطلوبة منه للحصول على هذه المساعدة: “صور طبق الأصل لإخراجات قيدٍ مشطوب عنها أسماء الشهداء، شهادة وفاة، تقرير من قوى الأمن الداخلي وحصر إرث وغيرها”. قدّم المولى أوراقه إلى الهيئة العليا للإغاثة، وبعد مرور حوالي شهرين تلقّى اتصالاً لاستلام شيك مصرفي بقيمة المبلغ. حمل الشيك وقصد مصرف لبنان حيث رفضوا هناك صرفه، وأحالوه إلى المصارف اللبنانية الخاصة لفتح حسابٍ وإيداع الشيك فيه. جال المولى على عددٍ من المصارف اللبنانية فرفضوا فتح حسابٍ مصرفيٍ جديدٍ له. “بعض المصارف طلبت تقديم صورة طبق الأصل أيضاً عن الأوراق ذاتها التي قدمتها للهيئة العليا للإغاثة”، كما قال لـ”المفكرة”، ما يعني أنّه يتوجّب عليه أن يقوم بالإجراءات عينها، ودفع المبالغ نفسها عن بدل تحصيل الأوراق، “ولا شيء يؤكّد أنّ المصرف سيقوم بفتح حسابٍ جديدٍ لي، إذ قالوا إنّ عليهم تقديم طلب للإدارة لمناقشته”. لهذا عدل المولى عن المحاولة كونها مضيعة للوقت برأيه، مسلّماً أمره لله “ما في شي بيعوّض عن ضفر إجر قاسم، وهاي الشيكات يبلّوها ويشربوا مايّتها” يقول.
يتوعّد المولى من كانوا سبباً بفقدان ولده قاسم، “ما رح ارتاح إلاّ لشوفهم كلّهم بالحبس”، قاسم الذي كان “عريساً جديداً” حيث عقد قرانه على ابنة عمّه بتاريخ 4-7-2020 أي قبل شهرٍ من تاريخ الانفجار. كان قاسم يعمل في إحدى الشركات في المرفأ عندما وقع الانفجار. وحين علم والده بالتفجير، قاد سيارته من البقاع إلى المرفأ ليجد البوابات قد أقفلت، ولم تسمح له القوى الأمنية بالدخول، “ليلة الانفجار بعد الساعة السابعة، ما بقى فاتت ولا إسعاف على المرفأ، الإسعافات كانت بس عم تنقل الجرحى”. راح يوسف يبحث عن ولده في المستشفيات، عند السابعة صباحاً تمكّن صديقه من فرقة الهيئة الصحية من الدخول إلى مكان الانفجار، حيث وجد جثة قاسم وأصحابه ملقاة في أرض المرفأ وظاهرة للعيان، لا تحتاج إلى عمليات نبشٍ ولا حفرٍ. مات قاسم، كما يقول والده، وهو ينتظر قدوم مساعدةٍ لم تأت أبداً. وأفاد تقرير الطبيب الشرعي لاحقاً أن سبب الوفاة “كان نزيفاً حاداً أدى إلى توقف القلب”، على حد قول المولى: “لو خلّونا نفوت كنّا لقيناه عايش، نزف حتى الموت”. لا يولي المولى حالياً أي اهتمامٍ لقضية الشيك المصرفي، “الغالي راح”، بالنسبة له القضية أكبر من الأموال، هو يريد إضافة إلى “إجراء تحقيق عادل، مساواة شهداء الانفجار بشهداء الجيش اللبناني”.
على الرغم من أنّ الشيكات صدرت لجميع أسر شهداء الانفجار، إلاّ أنّ البعض منهم رفض استلامها خوفاً من أن يكون في الأمر احتيال من قبل السلطات لتفادي تحمّل المسؤولية وتسديد تعويض والاكتفاء بالمساعدة مع التأكيد على أنّ أيّ مبلغ من المال لن يكفي للتعويض عن الأرواح التي قضت في المجزرة.
يعيشون بالدين والأموال الوهمية في جيوبهم
تتشابه حالات عائلات 192 شهيداً وشهيدة. يعلق هؤلاء في الدوامة عينها. يقول منير جرمانوس، والد الشهيدة ميراي جرمانوس التي استشهدت في مكان عملها في مستشفى الروم، أنّ تكاليف الأوراق المطلوبة بالإضافة إلى تكاليف واجب العزاء بلغت حوالي 7 ملايين ليرة، “يعني 30 مليون نحن دافعينهم سلف”، متسائلاً “ماذا تنتظر الدولة لمساعدة أهالي الضحايا الذين فقدوا أغلبهم معيل العائلة؟”. فكثر من هؤلاء، بحسب جرمانوس، يستدينون ليعتاشوا فيما الهيئة العليا للإغاثة تمنحهم أموالاً ليتبيّن لاحقاً أنّه ليس بإمكانهم قبضها، “كيف واحد بين إيديه مصاري ما قادر يعمل فيهم شي وهو عم يروح يتديّن ليعيش”. وكان جرمانوس قد تلقّى اتصالاً من الهيئة العليا للإغاثة تطلب منه الحضور لاستلام الشيك المصرفي خاصّته، أو الفرج الموهوم باستلام مساعدة سرعان ما تحوّل إلى نقمة مضاعفة على الأهل، “ما حدا من وقت استشهدت ميراي رفع التلفون وقلي الله يرحمها، ميراي راحت وما في شي بيعوّضها بس يحسّوا مع العالم شوي”. استلم جرمانوس الشيك المصرفي وتوجّه به إلى مصرف لبنان، ليتكرّر السناريو نفسه الذي واجهه المولى من قبل. وحتى المصرف الذي يوطّن فيه جرمانوس راتبه الشخصي لم يعطه جواباً قاطعاً إلى اليوم. ينظر إلى الشيك اليوم، يستذكر ميراي التي لم تتجاوز 27 من عمرها بعد، وكانت تعمل كممرضة في مستشفى الروم منذ حوالي 6 سنواتٍ قبل وقوع الانفجار. يقول “حين وقع الانفجار هرعت شقيقتها وصهرها لتفقّدها بعدما شاهدا على التلفاز الدمار الذي لحق بالمستشفى، لم يتمكّنا بداية من العثور عليها، ولكن بعد ساعاتٍ من البحث وجدوها وقد لقيت حتفها”.
لجنة الأهالي: أموال نقدية أو حسابات مصرفية
يعيش أفراد أسر الضحايا عذابهم وحدهم، يحاربون وحدهم لنيل أي جزء من حقوقهم، وقد قاموا مؤخراً بتشكيل لجنةٍ خاصة بهم وبأسر جرحى الانفجار لتتولّى متابعة التفاصيل المتعلّقة بسير التحقيقات ومطالبهم. وفي قضية الشيكات المصرفية، يطالب رئيس لجنة أهالي ضحايا الانفجار كيان طليس بإيجاد آليةٍ، إما أن تعطى لهم أموال نقدية أسوةً بالعديد من الجرحى والمتضررين حيث علمت “المفكرة” أنّ الجيش بدأ بتقديم دفعات نقدية (كاش) لأصحاب منازل وأملاك تضرّرت في التفجير، وإما أن يقوم مصرف لبنان بالإيعاز إلى أحد المصارف بفتح حساباتٍ خاصة بأسر الشهداء، وصرف الأموال لهم وليس حجزها.
أمين عام الهيئة العليا للإغاثة أكد لـ”المفكرة” أنه يتباحث مع جمعية المصارف في إمكانية تحديد مصرف أو أكثر لاستقبال شيكات المساعدات لأسر الضحايا. وكشف أنه سيرسل كتاباً إلى حاكم مصرف لبنان ليجد حلاً للموضوع. وقال خير إنّه يتباحث أيضاً مع بنك لبنان والمهجر علّه يصل إلى اتفاق معه لاستقبال شيكات الأهالي ودفع عشرة ملايين ليرة لهم في الشهر. وأكد اللواء خير أنّ مهمة الهيئة تنحصر في إصدار الشيكات “يعني مش شغلتنا نشوف كيف بتنصرف، ولكنني أحاول مساعدة العائلات الذين نال منهم هذا المصاب الأليم”.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.