تنشر المفكرة الحلقة الثانية من ملحق العدد 16: بعد صمت لعقود ” كريم عبد السلام ” الصندوق الأسود لواقعة باب سويقة يوثق شهادته: حكاية من الماضي برؤية مستقبلية. وبالامكان الاطلاع على الحلقة الأولى والثانية والثالثة والرابعة من الملحق.
ثوان معدودة ووصلنا إلى سجن 09 أفريل[1]. هناك بادرني الأعوان بالضرب والركل المبرّحين في سياق ما يصطلح على تسميته بالاستقبال. ابتدع مديرو السجون ذلك التقليد وتنافسوا فيما بينهم في ترتيب طقوسه المهينة، إبرازاً لصرامتهم إزاء “الظلاميين”. لم تكن لي قدرة على الصمود، فسالت من جروحي الدماء وأغمي عليّ سريعاً. استفقت في غرفة التمريض في انتظار طبيب السجن الذي بحلوله وبمجرد إعلامه بكوني من جماعة باب سويقة صاح: “مجرم. أنا لا أعالج مجرماً مثله”. آلمني المشهد المسرحي الذي أدّاه الطبيب بقدر ما آلمتني جروحي وبقدر خشيتي على قدرتي الجنسية وعلى قدرتي على المشي مستقبلاً.
في الطريق إلى غرفة السجن، وقبل أن يسلّمني السجان للكبران[2] أي مسؤول الغرفة، زوّدني بقارورة صغيرة من مطهّر الجراح وقليل من القطن وقال لي “نظفْ جرحك ولدي وإياك أن تقول أني من أعطاك هذا”. علمت سنوات بعد ذلك أنّه – أي السجّان – خاطر بسلامته وبعمله بفعله هذا الذي قد يظن البعض أنه تفصيل هامشي ولكنّه ليس كذلك. فكان بما فعله أكثر إنسانية – وهو الجلاد في تصوّره – من الطبيب.
دُفعت دفعاً إلى غرفة طويلة مكتظة لا تزيد مساحتها عن مائة وخمسين متراً مربعاً، يزدحم فيها أكثر من ثلاثمائة شخص يتقاسمون دورتي مياه، وأغلبهم من المدخنين كما يظهر جليّاً من سحابة الدخان التي تنتشر فيها كامل الوقت وتحجب الرؤية وتمنع التنفّس. بعد أيام بدأت أسمع همساً: “من جماعة باب سويقة” وكنت أعاين بوضوح كيف يتجنّب كل نزلاء الغرفة الاقتراب منّي وعلمت لاحقاً أنّ هذا كان بتعليمات من” الكبران”.
بعد يومين تقريباً، تمّ عرضي مجدداً على طبيب السجن. دفعتني رغبتي في العلاج إلى أن أتناسى ما قاله لي سابقاً. طلبت منه بكل أدب ممكن أن يعطيني دواء لجراحي المتعفّنة. لفت انتباهه أنّ تلك الجراح كانت في أغلبها آثار خدوش من أظافر قط استعمله جلادي في تعذيبي – ربما يكون هذا ذا فائدة. تجاهل حديثي وقال هذا جرب (مرض جلدي). رفضت توصيفه. انفعلت فأمر بإخراجي من مكتبه وإجباري على استعمال سائل علاج الجرب بعد الاستحمام. وقد أذن في واقع الأمر بأن أخضع لحصص تعذيب إذ كان سكب هذا السائل على جراحي يقتلني ألماً.
زارتني في نهاية أسبوعي الأول أمي وأختي. علمت من حديثهما أنّ أمي كانت طيلة فترة الإيقاف تنتقل يومياً بين وزارة الداخلية والمحكمة ومشرحة الأموات بحثاً عنّي وأنّ كثرة عويلها أربكت القضاة خصوصاً وقد تزامن وجودها في المحكمة في إحدى المرات مع وجود وفد من الأجانب اهتموا بحديثها وفهمت من طول وقفتهم قبالتها ومن منع حاجب الرئيس لاحقاً لهما من دخول المحكمة أنهم سألوا عن حكايتها. حدثتني أمي يومها عن البوليس وكيف كان يقتحم منزلنا من فترة لأخرى من دون سبب ولم تنسَ رغم ضيق وقت الزيارة أن تزفّ لي بشارة مغادرة سالمة لمحل سكنانا بفعل الإزعاج الأمني الذي أفسد صفو سهراتها. أحببت في سالمة عدم انتهازها الفرصة لتشريد أسرتي وقد كانت قادرة ربما على ذلك. ورأيت في أختي ضحية لاختياراتي ووجدتني في حضور أمي طفلاً يريد أن يختبئ في صدرها الذي تفوح منه رائحة العرق. قالت لي أمي في نهاية الزيارة بحزمها الذي أحب وصراحتها التي اعتدت “الأسبوع القادم جلستك. رفض أغلب المحامين نيابتك. ولكن لا تخف. ربي يسامحك تعبتنا وذليتنا”.
حضرت أمي في يوم المحاكمة وحضرت معها محامية شابة هي الأستاذة منية العابد التي علمت يومها أنها تحمست للدفاع عني رغم خطورة المهمة على مستقبلها المهني. وحضر الجلسة في الوقت نفسه عونا أمن من إدارة أمن الدولة وكان ذلك عهدهما طيلة المحاكمة.
دخلنا جميعاً إلى مكتب فسيح، حيث جلس أربعة قضاة وكاتب محكمة. قال القاضي الذي كان يتوسّط قاضيتين “أنت عبد الكريم؟” أجبت: “لا سيدي الرئيس أنا كريم. لا أعرف عبد الكريم لست أنا المتهم. القضية لا تخصّني”. انفعل القاضي. ضرب على الطاولة. نهرني وأصرّ على أنّي عبد الكريم. استعرض قائمة التهم وذكّرني أنّ الجلسة مكتبية وسرّية لكوني “حدثاً”[3]. رفضت الإجابة عن التهم قبل عرضي على الفحص الطبي لتأكيد تعرّضي للتعذيب. ساندتني الأستاذة منية في طلبي وزادت عليه بأن تمسّكت بطلب الإفراج عنّي للعلاج. صاح القاضي: “مجرم.. خبيث.. نسيبوا اليوم غدوة يهرب لفرنسا”.
وسط هذا المشهد المتشنّج وفي غفلة من الجميع، نزعت السروال وتعريت إلّا من تبان داخلي. وقلت: “هذه آثار التعذيب”. فاجأت خطوتي الجميع ولكنّها غيّرت في المشهد كثيراً. سمعت إحدى القاضيتين تهمس للقاضي: “يجب أن نعرضه على الفحص الطبي. حرام هذا. لا مش معقول شو بدنو العزا”[4]. ارتبك القاضي. سأل ممثل النيابة “طلباتك؟” فترك أمر النظر في الطلب للقاضي[5]. زاد ارتباك القاضي. وبانفعال ظاهر أعلن قراره تأخير الجلسة متمتماً بكلام لم أفهمه. ولكن كان واضحاً أنّ معناه رفض كل الطلبات التي قدّمت. وكانت تلك آخر جلسة حضرتها تلك القاضية وممثل النيابة ذاك وفهمت لاحقاً أنهما رفضا الانخراط في منظومة التعليمات، فتم استبعادهما.
كانت جلسات المحاكمة التالية جلسات تعذيب: قاضٍ يصرخ بشكل متواصل ولا يسمع. وزيادة على ذلك، يرفض السماح لي بالجلوس رغم جراحي. فكنت من فرط الألم أتّكئ على عون أمن الدولة الذي كان في كل مرة يحاول أن يساعدني على التماسك ويبدي تفهّماً لحالتي، تفهماً غاب عمّن يفترض فيه العدل.
هددت محاميتي بالانسحاب من الجلسة في حال مواصلة اعتماد محاضر أمن الدولة في استنطاقي وبررت موقفها بكون تلك المحاضر حررت بعد تعهّد المحكمة بقضيتي ما يفقدها الشرعية، زيادة عن كون الاعترافات التي تضمنتها انتزعت تحت التعذيب. تعهّد القاضي في تلك الجلسة شفوياً بألّا ينظر عند الحكم لملف أمن الدولة وقال صراحة أنّ تلك المحاضر تمت من دون إنابة قضائية[6] بما يفقدها الحجية. واعتمد القاضي نفسه تالياً من دون حديث عن كل تلك الشكليات تلك المحاضر في تسبيب حكمين فرضا أن أبقى خلف القضبان اثنتي عشر سنة[7] وأن أودع السجن بهوية عبد الكريم في حين أن هذا ليس اسمي في كل وثائقي الرسمية.
لقد كذب عليّ وعلى محاميتي قاض اختار أن يصدّق أمن الدولة في كل شيء بما في ذلك خطأها في تحديد هويتي الرسمية. وقبل القاضي نفسه أن يغطّي على جرائم التعذيب بالتفاني نفسه في التغطية على اعتداء البوليس على صلاحيات القضاء. فكان بذلك خادماً للسلطة غريباً عن تصوّر العدل الذي كنت أحتاج إليه منه كمواطن.
- نشرت هذه الحلقة في الملحق الخاص بالعدد 16 من مجلة المفكرة القانونية | تونس |. لقراءة الملحق اضغطوا على الرابط أدناه:
ملحق العدد 16 من مجلة المفكرة القانونية: حكاية من الماضي برؤية مستقبلية
[1]كان موقعه فعلياً يقابل المحكمة ولا يفصل بينهما إلّا أمتار قليلة.
[2] سجين يكون مسؤولاً عن إدارة شؤون المساجين داخل الغرفة. له سلطة كبرى في مجتمع السجن.
[3] مصطلح كان مستعملاً في التصنيف القانوني للأطفال قبل اعتماد مجلة الطفل.
[4] ما معناه باللهجة العامية التونسية “غير مقبول أنظر إلى جسده المسكين”.
[5] تفويض النيابة النظر للمحكمة يعني في جريان العمل القضائي أنها لا تعارض الطلب.
[6] من دون إذن من القاضي الذي كان متعهداً بالقضية بتاريخ إيقافي.
[7] صدر في حقي حكم أول في شهر 4 من سنة 1992 يقضي بسجني مدة ثماني سنوات في قضية باب سويقة. وصدر في حقي حكم ثان بتاريخ لاحق له يقضي بسجني مدة أربعة أعوام من أجل ما نسب لي من أفعال في قضية شعبة الأسواق. وأذكر هنا أني كنت الوحيد الذي حوكم في هذه القضية لكون من شاركا معي في تنفيذها أعدما.