“
التدابير الاحترازية عموما هي تراخيص بسند من القانون للسلطة بفرض تضييقات على الحقوق والحريات الفردية والجماعية في الدولة. وتسند هذه التدابير إما لسلطة قضائية عدلية في قضايا معينة وإمّا لسلطة إدارية، حيث تسمّى تدابير إدارية إحترازيّة. وقد تكون السلطة الإدارية باستعمال المعيار الجغرافي مركزيّة (الوزير) أو جهوية ومحلّية (الوالي + رئيس البلدية) أو باستعمال معيار مرفقي كالإدارات المتخصصة (إدارة المحافظة على الغابات أو الإدارة السجنية..).
كما تصنّف التدابير الإدارية الاحترازية بحكم أهدافها المرتبطة بحماية النظام العام بأبعاده الثلاثة إلى المحافظة على: الصحة العامة أو السكينة العامة أو الأمن العام.
وتعتبر التدابير الإدارية الاحترازية المتخذة من أجل حماية الأمن العام من أخطر التضيقات على الحقوق والحريات في المجتمعات الحديثة والتي لا تتعارض مع فكرة دولة القانون بل تمثّل ضمانة لها ما دامت في أطرها القانونية والقضائية المناسبة.
وتجدر الإشارة إلى أن هنالك إطارين زمانيين مختلفين لمباشرة التدابير الإدارية الاحترازية في الدولة:
-الوضع العادي: أو ما يسمى فقها بوضع الشرعية العادية.
-الوضع الاستثنائي: أو ما يسمى بشرعية الاستثناء والتي تتميز بوجود خطر محدق يعطل السير العادي لدواليب الدولة والمرافق العمومية.وينجرّ عنه إعلان ما يسمى بحالة الطوارئ.[1]
وفيما تتعدد أشكال الرقابة على الإدارة عند اتخاذها للتدابير الاحترازية التي تنال من حقوق الأفراد وحرياتهم، بحيث تأخذ شكل الرقابة السياسية من خلال المساءلة البرلمانية أو رقابة الرأي العام، فإن ما سنتناوله هنا هو الرقابة القضائية لظاهرة التدابير الاحترازية المسلطة على الحقوق والحريات.
فهل تحقق رقابة القاضي الإداري على التدابير الاحترازية في تونس النجاعة اللازمة؟
يمكن القول أنّ أسباب النجاعة يحققها من جهة أولى المرونة على مستوى الولوج للقضاء الإداري ومن جهة ثانية، تشدّد على مستوى الرقابة التي يجريها القاضي الإداري على التدابير الإدارية الاحترازية.
1- مـرونة على مستوى التقاضي الإداري من التدابير الاحترازية الأمنية
ينبغي التأكيد أن الحق في التقاضي هو آلية لحماية الحقوق والحريات وأنه من الحقوق الأساسيّة التي لا تحتاج إلى نصّ يسمح بمباشرته. كما أنّه لا يجوز للنصوص مهما كانت مرتبتها النيل من هذا الحق. وقد أسند الدستور التونسي الجديد لسنة 2014 وظيفة حماية الحقوق والحريات من أي انتهاك إلى الهيئات القضائية.[2]
وفي سياق اختصاصه بالرقابة على أعمال الإدارة، لم ينتظر القاضي الإداري التونسي دستور 2014 للالتزام بالمضامين الدستورية الجديدة للوظيفة القضائية. فقد كرّس فقه قضائه السابق والمتواتر مبدأ الحماية القضائية للحقوق والحريات من عسف الإدارة.
فالقضاء الإداري من خلال أسس الرقابة التي يجريها على التدابير الاحترازية الأمنية والمسار الاجرائي المتبع لديه في التشكي منها يوفّر الضمانات الكافية للمحاكمة العادلة في هذا السياق.
أسس رقابة القضاء الإداري على التدابير الاحترازية الأمنية:
- القاضي الإداري هو قاضي الموازنة بين السلطة والحرية:
القضاء الإداري هو فرع القضاء في الدولة متخصّص بالرقابة على العمل الإداري. فهو يراقب الإدارة عند استعمالها لامتيازات السلطة العامة وعند تصريفها للمرافق العمومية.
والقضاء الإداري ليس امتيازا قضائيا للإدارة، بمعنى قاضي الإدارة.
فقاعدة التخصص هي الأساس النظري للقضاء الإداري والتي على ضوئها يُعرّف القاضي الإداري على أنّه:القاضي الذي يدرك أساليب العمل الإداري ومتطلباته وغاياته وفي الآن نفسه منظومة الحقوق والحريات الفردية والجماعية في تقاطعها مع العمل الإداري.
وللإشارة، فإنّ الأساس التاريخي لنشأة القضاء الإداري في تونس كان غير ذلك. فالتصور السياسي للمؤسسين لدستور الاستقلال لسنة 1959 كان متجها نحو منع القاضي العدلي من مراقبة أعمال الإدارة (وهو نفس التحجير في فرنسا سنة 1790 والذي تولد عنه في ما بعد القضاء الإداري). وكانت النيّة تبعا لذلك إنشاء قضاء من رحم الإدارة يتولى القيام بمهمة الرقابة أي إنشاء نظام أقرب للإدارة القاضية (l’administration juge). فلقد جاء في تصريح المقرر العام لدستور 1959 المنشور في مداولات المجلس القومي التأسيسي بجلسة 6 نوفمبر 1958 (رائد رسمي عدد 8 بتاريخ 19 نوفمبر 1958 صفحة 196 ) ما يلي :”إذا ذهبنا إلى المحكمة القضائية نكون قد جعلنا السلطة التنفيذية رهينة مقررات السلطة القضائية في ميدان إداري بحت. حينذاك، وجب على الإدارة أن تجعل هيئة خاصة تكون صبغتها قضائية إدارية طبعا يناط بعهدتها فصل المشاكل التي تنشأ من هذه النواحي حتى تكون الإدارة نفسها بهيكلها المختص هي التي تفصل المشاكل بينها وبين الناس.”
غير أنّ القضاء الإداري التونسي ,مثلما يشهد به فقه قضائه وقبوله لدى عموم المتقاضين خرج منذ بداية عمله عن هذا التصور السياسي الخاطئ وصحّح بوصلته في الاتجاه السليم وهو التخصص في تحقيق الموازنة بين حقوق الإدارة والحقوق الخاصة.
فمن منطلق أنّ الإدارة العمومية هي “شخص معنوي” لا يملك لنفسه نفعا ولاضرّا وأنّه قابل في سياق المهام المسندة له بموجب القانون في تحقيق الأهداف المجرّدة والمتصلة بمفهومي المصلحة العامة والنظام العام أن يتمّ توجيهه لخدمة أجندات القيادة الحكومية أو الأهواء الشخصية للقيادة الإدارية تنال بحقوق المنظورين وحرياتهم.
لذلك، كان لا بدّ من وجود آلية رقابة قضائية على حالات تجاوز الإدارة لسلطتها ترجع العمل الإداري إلى ضوابط الشرعيّة القانونية في الدولة، وهي آلية رقابة القضاء الإداري من خلال أهم دعوى قضائية تميّزه وهي دعوى تجاوز السلطة.[3]
إنّ التقاطع بين المصلحة العامة والمصلحة الخاصة في نطاق النزاع الإداري يترتب عنه أثران:
– أثر على صاحب الحق المتظلم من عمل الإدارة: وهو ردّ الحق لصاحبه.
– أثر على الشرعية في الدولة: حماية سلطة القانون على الكافة بما فيها الدولة ذاتها.
وما يؤكد خطورة المحافظة على الموازنة المؤتمن عليها القاضي الإداري، هو الأثر السلبي لتغليب أحدهما على الآخر:
– فتغليب حماية الحقوق والحريات على حساب المصلحة العامة والنظام العام قد يؤدي إلى الفوضى.
-وتغليب المصلحة العامة على المصلحة الخاصة قد يؤدي إلى التسلط والظلم وفقدان الأمان للأفراد في دولتهم.
فتمكين الإدارة من سلطات استثنائية في إطار مكافحة الإرهاب لا ينبغي أن يؤدي إلى استعمال تلك السلطات في غير الهدف المخصص لها (قاعدة تخصيص الأهداف) والانحراف باستعمال تلك السلطات للتعدي والتضييق على الحقوق والحريات.
والقاضي الإداري في القضايا التي تطرح هذا التقاطع بين موجبات الأمن العام وحقوق الأفراد وحرياتهم يذكّر دائما بهذا الأساس القائم على الموازنة في التحقق من شرعية الإجراء الإداري الاحترازي ويرتب الآثار في ذلك على حكمه. ففي القضيّة عدد 150168 الصادر فيها الحكم الابتدائي بتاريخ 2 جويلية 2018 بخصوص إجراء وضع مواطن قيد الاقامة الجبرية أكد في حكمه ما يلي: “وحيث أنّ تسبيب القرار المطعون فيه بهدف حفظ الأمن والنظام العامين …دون بيان الأسباب…ومدّ المحكمة بمكوناتها لا يقوم عنصرا كافيا للتحقق من صحة مستندات الإدارة ومدى مطابقتها للقانون الآمر الذي من شأنه أن يحول دون سحب القاضي الإداري رقابته على صحتها ودون إمكان إقامة الموازنة بين موجبات الحقوق والحريات الدستورية من جهة ومقتضيات ضمان النظام العام من جهة أخرى”.
- القاضي الإداري هو المؤهل لبسط نفوذه على الإدارة:
*لا يحتاج القضاء الإداري إلى نص صريح حتى يمارس رقابته على المجالات التي تتدخل فيها السلطة الإدارية. كما أنّ ظاهرة تحصين بعض أعمال الإدارة من الرقابة هي ظاهرة تتعارض مع نصّ الدستور(تمّ العمل بها في فترة النظام السابق بخصوص الأوامر الترتيبية + واستمرت حتى بعد الثورة خاصة لتحصين أعمال هيئة الحقيقة والكرامة: يراجع القانون عدد 53 لسنة 2013 المؤرخ في 24 ديسمبر 2013 المتعلق بإرساء العدالة الانتقالية وتنظيمها).
*وفي هذا الخصوص، فإنّ القاضي الإداري يمتلك من الصلاحيات ما يؤثر به على عمل الإدارة:
– فله صلاحية الإلغاء للقرارات الإدارية وسلطة الإذن بتوقيف تنفيذها.
– كما أنّ له صلاحية توجيه الأوامر والأذون للإدارة: فهذه الصلاحية من صميم اختصاص القاضي الإداري (أحكام الفصول 80 وما يليه من قانون المحكمة الإدارية). في المقابل فقد تمّ التحجير على القاضي العدلي من استعمال سلطات الإلغاء والأمر وتعطيل العمل الإداري (مثلما نصت عليه أحكام الفصل 3 من القانون عدد 38 لسنة 1996 المؤرخ في 3 جوان 1996 بخصوص التحجير على القضاء العدلي من التدخل في العمل الإداري وتوجيه أوامر للإدارة).
فبإمكان الأفراد من خلال اللجوء للقضاء الإداري طلب إلزام جهة الإدارة بفعل أو بالامتناع عن فعل على غرار مثلا الإذن الاستعجالي عدد 712123 الصادر بتاريخ 24 أفريل 2013 بإلزام وزير الداخلية بتمكين الطالب من جواز سفر جديد بدل جواز سفره المفقود والتي امتنعت الوزارة عن تمكينه منه.
- كما أن للقاضي الإداري صلاحية تغريم الإدارة عن أعمالها غير الشرعية: فمن المعلوم أن القرارات الصادرة في مادة التدابير الاحترازية من شأنها أن تخلف أضرارا مادية ومعنوية للمستهدفين بها ومن حقهم طلب التعويض عنها في شكل غرامات.
اليسر الإجرائي في التعهد بنزاعات التدابير الاحترازية:
في هذا الخصوص، ينبغي التأكيد أن التعهد بقضايا خرق الحقوق والحريات ليس تعهدا تلقائيا من القضاء الإداري بل هو مرتبط بإرادة صاحب المصلحة والمتضرر من العمل الإداري وعزمه على اللجوء للمحكمة الإدارية. ومن أهم التسهيلات لتمكين المتضرر من التشكي، الآتية:
– أن قانون المحكمة الإدارية لا يضع شروطا إجرائية مجحفة على صيغ تقديم الشكاية أمام القاضي الإداري من خلال عدم اشتراط الإدلاء بنسخة مكتوبة من القرار المطعون فيه[4]، ذلك أن التدابير الاحترازية في الغالب تكون في سياق أثر مادي وعيني على المسلّط عليه الذي لا تسلّمه الإدارة في جلّ الحالات نسخة من القرار الإداري المتضمّن للتدابير الاحترازية: منع من السفر + رفض تسليم وثائق سفر + وضع تحت الإقامة الجبرية. فالمحكمة الإدارية في إطار المرونة بالتعهد بالنزاع المتعلق بهذا الصنف من القضايا لا تشترط إرفاق الشكاية من هذا الصنف بنسخة مكتوبة من القرار الإداري. يضاف إلى ذلك أنه وفق فقه قضاء المحكمة الإدارية، لا يشترط أن يكون للقرار الإداري شكل مكتوب حتى يقبل الطعن أمام المحكمة بل يمكن أن يستنتج من آثاره المادية. فقد جاء الحكم عدد 124041 بتاريخ 17 مارس 2014 ما يلي: “وحيث أنّه من المتفق عليه فقها وقضاء أنّ تجسيم القرار الإداري في وثيقة كتابية رسميّة لا يعدّ شرطا من شروط صحّة القرار أو وجوده، ضرورة أن القرار الإداري يوجد من خلال الآثار التي تترتب عنه وذلك بقطع النظر عن شكله.”
– كما أنّ المحكمة تذهب في المرونة إلى حدّ القبول بمجرّد الادعاء بتسلط اعتداء على حق المتقاضي بقرار صادر عن الإدارة ما لم يقع الدّفع بعدم صحة ذلك الادعاء وإثبات خلافه من الإدارة في طور التحقيق في القضيّة من قبل القاضي المقرر.
– لا يتمّ تحميل المتقاضي عبء تكليف محام في القضايا المتعلقة بشرعية القرارات الإدارية. كما أنّه بالامكان الانتفاع بالإعانة القضائية (من خلال وجود مكتب الإعانة العدلية).
قرب القضاء من المتقاضي:
على اعتبار أن التدابير الاحترازية الأمنية ليست حكرا في اتخاذها على الإدارة المركزية (خاصة وزارة الداخلية) إذ أن القوانين النافذة تسند للإدارات الجهوية والمحلية مثل تلك الصلاحيات (مجلة الجماعات المحلية فيما يتعلق بالتراتيب المتخذة على مستوى البلدية وأحكام لقانون عدد 52 لسنة 1975 المؤرخ في 13 جوان 1975 فيما يتعلق بصلاحيات الوالي).
في هذا الصدد، شهد القضاء الإداري في سنة 2018 أول خطوة في التوجه نحو تركيز لامركزية القضاء الإداري بإحداث 12 دائرة ابتدائية جهوية تختصّ بالنظر بالنزاعات الإدارية الجهوية والمحلية (التي تكون فيها السلط الإدارية الجهوية والمحلية طرفا) وبالتالي بدأنا تحقيق قضاء القرب.
وقد تعهد القضاء الإداري الجهوي بالنظر في شرعيّة التدابير الاحترازية. ومن الأمثلة على ذلك، القرار الصادر في مادّة توقيف التنفيذ تحت عدد 0920012 بتاريخ 5 نوفمبر 2018 عن السيد رئيس الدائرة الابتدائية للمحكمة الإدارية بقابس والذي تعلق بقرار والي قبلي القاضي بمنع تصوير بعض مشاهد من فيلم سينمائي بمنطقة قصر غيلان لتضمنها ما من شأنه أن يهدد الأمن العام.
2- تشدّد على مستوى الرقابة التي يجريها القاضي الإداري على التدابير الإدارية الاحترازية:
على اعتبارها من المظاهر السلطانية في عمل الإدارة والتي تنال من الحقوق والحريات، فإنّ رقابة القاضي الإداري على التدابير الإدارية الاحترازية كان متشدّدا حتى لا يساء استعمال السلطة (في غير الغاية المخصصة لها) ولا تهدر الحقوق والحريات باسم حماية النظام العام.
وما يلاحظ أن القضاء الإداري التونسي تعامل بنفس درجة التشدّد بخصوص التدابير الإدارية الاحترازية سواء في وضعيّة الشرعية العاديّة légalité ordinaire أو في وضعية الشرعية الاستثنائية légalité d’exception.
وقد امتدت رقابة القاضي الإداري على التدابير الاحترازية وطالت عناصر ثلاثة في مثل تلك القرارات الإدارية:
– رقابة على عنصر الشرعية.
– رقابة على عنصر الملاءمة.
– رقابة على عنصر السبب.
رقابة مضيقة على عنصر الشرعيّة:
المقصود بعنصر الشرعية في قرارات التدابير الإدارية الاحترازية، الإطار القانوني (التشريعي أو الترتيبي) المستند إليه من الإدارة عند اللجوء لاستعمال التدابير الاستثنائية.
في هذا الخصوص، كان القاضي الإداري ولا يزال يؤكّد على أنّ التدابير الاحترازية التي من شأنها التضييق من الحقوق والحريات ينبغي أن تستند في اللجوء إليها إلى نصّ له مرتبة التشريع ولا يكون بنصّ ترتيبي. ومن الأمثلة على ذلك:
- الحكم عدد 126863 الصادر بتاريخ 18 مارس 2014 حيث اعتبرت المحكمة أن: “الانتفاع بالحق في ممارسة الحريات العامة يجد أساسه في النصوص الدستورية والمعاهدات المصادق عليها وفي المبادئ العمومية للقانون.”وأنّه:”لا يمكن أن توضع ضوابط لممارسة تلك الحقوق والحريات إلاّ بمقتضى قوانين تتخذ لاحترام الغير ولصالح الأمن العام على أن لا تنال تلك الضوابط من جوهر الحقوق والحريات.”
- وهو نفس الموقف في الحكم عدد125265 بتاريخ 3 ديسمبر 2014.
إن موقف المحكمة أعلاه فيه تنزيل لأحكام الفصل 49 من دستور 2014 الواضع لمبدأ عدم جواز النيل من الحقوق والحريات إلا بمقتضى نص بمرتبة القانون. هذا المبدأ الحقوقي الدستوري يقتضي من الدولة تنقية النصوص النافذة في الإدارة التونسية المتعارضة مع أحكام الفصل 49 من الدستور: (وهي كثيرة: يراجع المؤلف الجماعي الصادر في 2018 عن الجمعية التونسية للدفاع عن الحريات الفردية بعنوان: المناشير السالبة للحريات: نصوص خفية تحكم دولة القانون).
فما هي هذه النصوص التي تستند إليها التدابير الاحترازية الأمنية التي يتوجب مراجعتها؟
- التدابير الاحترازية المتخذة في إطار الشرعية الاستثنائية:
بعد دستور 2014 يكون الأمر عدد 50 لسنة 1978 غير دستوري ولا يستقيم سندا لاتخاذ التدابير الاحترازية في إطار إعلان حالة الطوارئ (وقد تمّ فعلا تقديم مشروع قانون في تنظيم حالة الطوارئ لتصحيح الوضعية لكن يبدو أنه مثير للجدل).
ذهبت المحكمة الإدارية بخصوص قرارات الإقامة الجبرية على غرار الحكم عدد 150168 بتاريخ 2 جويلية 2018 من اعتبار أنّه “يغدو استناد جهة الإدارة على نصوص ترتيبية على (غرار الأمر عدد 50 لسنة 1978) لتأسيس صلاحياتها في ضبط حرية التنقل واختيار المقرّ والحدّ منها دون وجود نصوص تشريعيّة تحدّد تلك الضوابط وشروط أعمالها مخالفا للدستور (وخاصة أحكام الفصل 49 منه).”
- التدابير الاحترازية المتخذة في إطار الشرعية العادية:
تجدر الملاحظة أنّه تمّ بذر صلاحيات استثنائية للإدارة صلب نصوص ترتيبية تمّ استعمالها الاستعمال الأقصى لتبرير اللجوء إلى التدابير الاحترازية خاصة في غير صورة حالة الطوارئ. وتتعلق هذه الوضعية بما تضمّنه الأمر عدد 342 لسنة 1975 المؤرخ في 30 ماي 1975 والمتعلق بضبط مشمولات وزارة الداخلية والذي أسند لوزارة الداخلية صلاحيات استثنائية في المحافظة على النظام العام وخاصة ما تضمنه الفصل 4 منه. فقد خول هذا الفصل الوزارة مراقبة جولان الأشخاص بكامل تراب الجمهورية وخاصة بالحدود الترابية والبحرية ومباشرة الشرطة الجوية. وقد كان الأمر الترتيبي سندا لجهة الإدارة في اعتماد ما يسمى بالإجراء الحدودي المعروف بs17 ( وهي شيفرة أمنية تتعلق بوضع تضييقات على حرية تنقل أشخاص مشتبه بهم أمنيا).
في المقابل فإنّه حتى في الحالات التي تستند فيها جهة الإدارة إلى نصّ تشريعي (أي الوضع السليم) كسند لإجراء احترازي، فإنّ رقابة القاضي الإداري تكون مشدّدة:
ففي الحكم عدد129456 بتاريخ 31 ديسمبر 2015 الذي تعلّق موضوعه بتعرض مواطن أجنبي إلى إجراءات تفتيش مدققة ومتكررة ومقلقة كلما دخل فيها للتراب التونسي بموجب قرار وتعليمات وتصنيف أمني من وزير الداخلية فطعن في ذلك القرار أمام المحكمة الإدارية. وقد اعتبرت المحكمة الإدارية أن القانون عدد 7 لسنة 1968 المتعلق بالأجانب لم يدرج ضمن الاجراءات المتعلقة بالتعامل مع الأجانب إجراء التفتيش الدقيق.مما يفقد الإجراء المذكور أي شرعية. وانتهت المحكمة إلى القضاء بإلغاء قرار التصنيف الأمني للشخص المعني.
رقابة مقيّدة لعنصر الملاءمة:
المقصود بعنصر الملاءمة هو الحرية المتروكة لجهة الإدارة بموجب النصوص النافذة في تقدير مجالات استعمال وتطبيق التدابير الاحترازية على الوضعيات والأشخاص المستهدفين بها.
فجانب الملائمة تستمدّه السلطة الإدارية عادة من عموميّة النص المسند لصلاحيّات اتخاذ التدابير الاحترازية دون بيان شروط تطبيقها والمجالات المتعلقة بها والأشخاص المستهدفين بها.
فإسناد القانون عدد 52 لسنة 1975 الوالي في فصله 11 صلاحية المحافظة على الأمن العام في صيغة تفتح المجال للسلطة الإدارية تقدير ما ترى فيه نيلا للأمن العام وهو أمر خطير على الحريات والحقوق خاصة عندما تستعمل في غير تلك الغاية (تسييس تقدير المصلحة).
نفس الملاحظة بالنسة لأمر إعلان حالة الطوارئ في تونس المستند للأمر عدد 50 لسنة 1978 والذي يتجدّد إلى غاية اليوم. فقد دعا العديد من الحقوقيين إلى أنه من الضروري أن يصاحبه على الأقل أمر تطبيقي يبيّن الحقوق والحريات المستهدفة على الأقل والآليات المقيدة لسلطة الإدارة الأمنية.
لذلك كان القاضي الإداري متشدّدا بخصوص استعمال الجهة الإدارية للسلطة التقديرية في مجال ضبط الحقوق والحريات إلى الحدّ الذي حوّلها من خلال رقابته إلى سلطة مقيّدة.
فقد صرّح القاضي الإداري في العديد من الأحكام أنّه كلما تعلق الأمر بحقوق دستورية فإنّ سلطة الضبط الإداري تكون مقيّدة. فقد جاء في الحكم عدد 12688 بتاريخ 26 أكتوبر 2004 :”وحيث أنّ حق السفر مضمون دستوريا بما يكون القرار المطعون فيه مجحفا بالحقوق الدستورية للعارض. وحيث أنّ الحق في السفر مضمون بالفصل 10 من الدستور وحيث وخلافا لما تمسكت به الإدارة فإن سلطتها في هذه المادّة هي سلطة مقيدة باعتبار أنّها تتعلق بممارسة الحريات الدستورية.” كما جاء في الحكم عدد 15757 بتاريخ 2 ديسمبر 2008 :” حيث أنّ سلطة رئيس البلدية في ممارسة صلاحيات الضبط الإداري الرامية إلى تأمين على السكينة العامة والأمن العام والصحة العامة ….هي سلطة مقيدة في هذا المجال.”
وبذلك فمن خلال هذه الرقابة فإنّ القاضي الإداري يقيّد سلطة الإدارة بالمضامين التي يحدّدها للمقصود بالأمن العام والنظام العامّ ولا يترك الانفراد بضبطها وتقديرها للإدارة .
رقابة صارمة لعنصر السبب:
المقصود بالسبب هو الدافع الواقعي أو القانوني لاتخاذ القرار الإداري.
ومن المعلوم أنّ الإدارة ليست مجبرة على بيان سبب اتخاذ القرار الإداري إلا إذا ألزمها القانون بذلك.
غير أنّ القاضي الإداري في الحالات التي يتعلّق فيها الأمر بالحقوق والحريات، فإنّه يتشدّد مع الإدارة بخصوص فرض رقابة على سبب القرار من خلال:
- رقابة على الوجود المادّي للسبب:
في هذا الخصوص، طوّر فقه القضاء استثناء من قاعدة لا تعليل إلا بنصّ الحالات التي يتسلط فيها القرار على الحقوق والحريات. كما أنّ القضاء الإداري في النزاعات المتعلقة بالتدابير الاحترازية يطالب دائما جهة الإدارة ببيان سبب اتخاذ التدبير الاحترازي في إطار دوره الاستقصائي: فلا يكتفي بدافع التهديد للأمن العام كمبرّر لاتخاذ التدابير الاحترازية بل يطالب باثباته من قبل الإدارة في سياق تحميلها عبء إثبات السند المادي والواقعي للقرارات الصادرة في هذه المادة.
وقد ذهب فقه قضاء هذه المحكمة على أنّه إذا كانت الأدلة الممسوكة من الإدارة لها ارتباط بالأمن القومي للدولة فلا يمكن حجبها على القاضي الإداري المتعهد بالنزاع الذي يطلع عليها لتكوين قناعته عند البتّ في النزاع.
وترتيبا عليه، فإن القاضي الإداري يرتب الآثار القانونية على عدم الادلاء بالأسباب بأن يعتبر القرار فاقدا لسنده الواقعي ويلغيه:
أمثلة:
-في الأحكام الصادرة بفرض إقامة جبرية على مجموعة من الأشخاص: اعتبرت المحكمة أنّه: “وحيث أنّ تسبيب القرار المطعون فيه بهدف حفظ الأمن والنظام العامين بالبلاد المكلفة بها الإدارة بمقتضى القانون والتراتيب دون بيان الأسباب بصورة كافية ودقيقة ودون مدّ المحكمة بمكوناتها لا يقوم عنصرا كافيا للتحقق من صحة مستندات الإدارة ومدى مطابقتها للقانون…..وطالما بقيت أوراق الملفّ خالية مما يبيّن ضرورة اللجوء إلى وضع المعني بالأمر تحت الإقامة الجبرية، فإن القرار المنتقد يغدو فاقدا لكل أساس واقعي وتعيّن لذلك …القضاء بإلغاءه.” ( الحكم عدد150168 بتاريخ 2 جويلية 2018).
في مادّة توقيف التنفيذ عدد09200012 :استخلصت المحكمة من عدم إدلاء والي قبلي بما يفيد تهديد الأمن العام عدم وجود ما يبرّر اتخاذه لقرار بمنع تصوير بعض المشاهد من فيلم.
كما قضت المحكمة بإيقاف تنفيذ قرار منع مواطن من دخول التراب التونسي بعد أن أحجمت وزارة الداخلية عن الإدلاء بالأسباب المبررة لقرارها. (توقيف تنفيذ عدد413581 بتاريخ 6 جوان 2011).
- رقابة القاضي الإداري على صحّة تكييف الإدارة للسبب مع تهديد الأمن العام:
في هذا الخصوص لا يكتفي القاضي الإداري بوجود السبب المستند إليه في اتخاذ القرار المتضمن تدبيرا احترازيّا وإنّما يتفحّص مدى جدّية نيله من الأمن العامّ من عدمها.
فقد أقرّ القضاء الإداري لنفسه بالنظر لخطورة صلاحيات الضبط الإداري المخولة للإدارة على الحريات العامة, صلاحية تقدير ملاءمة التدابير المتخذة من الإدارة: فقد جاء في الحكم عدد 26856 بتاريخ 23 ماي 2009: “وحيث أنّ تدابير الضبط الإداري بحكم اكتسائها صبغة استثنائية لاقترانها بممارسة الحريات العامة تخضع إلى رقابة الملاءمة التي تقوم على التثبت من توفر ركن الضرورة بمناسبة اتخاذها والتصريح بعدم شرعيتها متى تبيّن أنّها لم تكن ضروريّة لمواجهة مخاطر الإخلال بالنظام العام.”
كما أن القاضي الإداري ذكّر في حكم آخر بما استقرّ عليه فقه قضاء المحكمة الإدارية من: “اعتبار أنّ رقابة القاضي تمتد في مادة الضبط الإداري إلى حد التثبّت من مدى تناسب التدابير المتخذة مع الظروف التي حفت بها والأهداف التي ترمي إلى تحقيقها”(قرار توقيف تنفيذ عدد09200012 بتاريخ 5 نوفمبر 2018 صادر عن رئيس الدائرة الابتدائية للمحكمة الإدارية بقابس.)
خلاصة
في ظل غموض ونقص الإطار التشريعي والترتيبي الضابط لسلطة الإدارة في اتخاذ التدابير الاحترازية الأمنية، كان القاضي الإداري صمّام الأمان لاستعمال هذه السلطة الخطيرة وردّها إلى الحدود التي تتطابق مع الأهداف التي وضعت لأجلها ولا تنال من حقوق الناس وحرياتهم.
غير أنّ هذا الدور يبقى غير ذي أثر ما لم يتدعمّ:
– بدور ينبغي أن تقوم به هيئات المجتمع المدني لديه في حماية الحقوق والحريات، خاصة في غياب ثقافة قانونية لدى ضحايا التدابير الإدارية الاحترازية تصل إلى حد إسقاط حقهم في تتبع الإدارة. فقد آن الأوان لأن يطوّر قبوله للقضايا والشكاوى المقدمة من هيئات المجتمع المدني في سياق مفهوم ما فتئ يتأصل اليوم وهو “التقاضي الاستراتيجي”.
– بإطار قانوني وترتيب يفرض تنفيذيّة أحكام القضاء الإداري بل ويسلط عقوبات جزائية قصوى على القيادات الإدارية المعنية بالتنفيذ.
-في تونس وبعد سنة 2011 تكاد تكون حالة الطوارئ مستمرة إلى حدّ اليوم بصدور أوامر رئاسية تعلنها بشكل متواتر.[1]
-أحكام الفصل 49 من الدستور.[2]
-ما يؤكد منزلتها كركن اصيل يؤسس للقضاء الإداري ذكرها بالفصل 116 من الدستور[3]
[4] رغم تنصيص الفصل 36 من قانون المحكمة الإدارية على إرفاق العريضة بنسخة من القرار المطعون فيه إلا أنّ فقه قضاء المحكمة الإدارية درج على عدم التشدد في هذا الشرط عموما وبالأخصّ في مادة التدابير الاحترازية.
“