مع بداية شهر رمضان، بدأ عرض المسلسلات على القنوات الأرضية والفضائية، وانطلق بذلك موسم الدراما في مصر. وقد تم تصوير أغلب هذه المسلسلات خلال الشهور القليلة السابقة أي أنه استمر تصويرها بعد إعلان الإجراءات الاحترازية لمواجهة فيروس كورونا[1]، بل ويستمر تصوير بعضها خلال الشهر الحالي. وقد أوجد استمرار تصوير الأعمال الدرامية بعد إعلان الإجراءات الإحترازية لمواجهة كورونا جدلا واسعا، من ناحية بسبب مخالفة التصوير لقرار منع التجمعات، وصدور تصاريح خاصة للعاملين بهذه الأعمال بالتجول ليلاً بالمخالفة لقرار حظر التجوال. ومن ناحية أخرى، بسبب ما يمثله تصوير هذه الأعمال من خطر على صحة العاملين بها وصحة عائلاتهم والمخالطين لهم. وهو ما نناقشه في هذا المقال.
كيف انحازت الرقابة على المصنفات الفنية للمنتجين على حساب العاملين بالدراما؟
صحة المواطن أم عجلة الإنتاج؟ معضلة أصبح من الصعب الإلتفات عنها أمام جائحة كورونا. مع بداية الأزمة، كان ردّ الحكومة المصرية حاسما بوضع خطة شاملة لحماية صحة المواطنين من أي تداعيات محتملة لفيروس كورونا، فتم تعليق الدراسة بجميع المدارس والجامعات[2]، تعليق حركة الطيران[3] وكذلك العروض المسرحية والسينمائية[4]. ومع تأمل بسيط، سنجد أن قرار الخطة الشاملة جاء لحماية فئة معينة من العاملين، وهم العاملين بالقطاعات الإدارية والأجهزة التابعة للدولة. فقد أوضح القرار أن من حق الجهات الإدارية للدولة اتخاذ كافة القرارات اللازمة لحماية العاملين فيها[5]. وبناءً على ذلك، تمّ وقف العمل بالرقابة على المصنفات الفنية[6]، وهو الجهاز الوحيد الذي له الحق في ترخيص عرض أي عمل فني، ويتعرض القائمون على نشر العمل دون هذا الترخيص للعقوبة[7] التي تصل إلى سنتين حبس والغرامة التي تصل إلى 10 آلاف جنيه.
ورغم إرشادات منظمة الصحة العالمية بالتباعد الاجتماعي وتجنب الأماكن المزدحمة[8]، استمر تصوير المسلسلات والبرامج التلفزيونية الخاصة برمضان مع حضور العشرات وأحياناً المئات من العاملين إلى أماكن التصوير.
وقد لعبت الرقابة على المصنفات الفنية هنا الدور الرئيسي بالسماح باستمرار التصوير. فبعد الإنتهاء من التصوير، يكون ضروريا أن تحصل المسلسلات على تصريح العرض العام من الرقابة (المتوقفة عن العمل)، ولكن رئيس الرقابة خالد عبد الجليل صرح بأن:
"إيقاف التصاريح لن يؤثر في خروج الأعمال الدرامية الرمضانية للنور، لأنها أخذت كل التصاريح اللازمة منذ فترة". وعن العرض العام، صرح بأن توقف الرقابة لن يؤثر عليه حيث "وبالنسبة لمشاهدة الحلقات للحصول على التصريح النهائي للعرض فهو أمر يمكن أن يحدث بكل سهولة، لأن الرقباء سيقومون بعملهم، ولن يترتب عليه أي مخاطر عليهم أو على الجمهور الذي يتعامل مع الرقابة." وهو ما يخالف تصريحاته السابقة بنقص عدد الرقباء وعدم توفر الوقت الكافي خلال رمضان لمشاهدة الأعمال التي تسلم قبل وقت عرضها بزمن قصير.
وقف تصوير المسلسلات هو قرار في صالح صحة العاملين بالمسلسلات والفنانين. ولكن يبدو موقف الرقابة على المصنفات الفنية متخبطًا، ويُفسر هذا التخبط بمراعاة الرقابة لمصالح أصحاب شركات الإنتاج. وكيف لا وهم من يقومون بدفع كافة الرسوم لاستخراج تراخيص تصوير وعرض الأعمال الفنية.
النقابات الفنية: هل تنحاز لحقوق أعضائها؟
مع استمرار تصوير المسلسلات بمدينة الإنتاج الإعلامي، أعلنت شركات الإنتاج عن اتخاذ إجراءات وقاية وتعقيم[9] داخل الأستوديوهات، إلا أن من الواضح أن هذه الإجراءات لم تكن مرضية للعاملين بالدراما حيث لحق هذه الإجراءات سيل من الردود الغاضبة للعاملين بالدراما. أحد هذه الأصوات كان للسيناريست مريم نعوم والتي نشرت من خلال مواقع التواصل الاجتماعي[10]، معبرة عن خوفها وإحساسها بالقهر وحزنها على زملائها الذين يعملون في أجواء غير آمنة في ظل انتشار فيروس كورونا، حيث ترى نعوم أن تعقيم أماكن التصوير غير كافٍ. في نفس الوقت، نشر المخرج أمير رمسيس استغاثة على صفحته الرسمية يقول فيها: "أوقفوا التصوير بشكل مؤقت. لا يوجد ما هو أثمن من حياة البشر"[11].على الجانب الآخر، ترى شركات الإنتاج ضرورة استمرار العمل. يوضح المنتج جمال العدل صاحب شركة "العدل جروب" للإنتاج الفني أن العمل الفني عبارة عن مصالح متراكمة. فسوق الدراما مرتبط بسوق الإعلانات التجارية والقنوات لا يمكن أن تتوقف[12].
وبالنظر إلى موقف نقابات الفنانين وعلى رأسها نقابة المهن التمثيلية، صرح نقيب المهن التمثيلية أشرف زكي أنه "حينما تتوقف الحياة تماما في مجالات كثيرة، يمكن وقتها أن نقول لجميع الفنانين توقفوا عن العمل"، وذلك بعد اجتماعه مع صناع الدراما في مصر، كما أضاف "نحن نغامر وهذا قدرنا، لأن الممثلين هم جنود ومحاربون لإسعاد الناس". وهو بالتالي انحاز للصناعة وللإنتاج وليس لحقوق أعضاء نقابته.
فالدور الرئيسي للنقابات أن تحمي حقوق أعضائها ومصالحهم. ولكن النقيب لم يقم بهذا الدور، وارتكز دوره منذ سنوات على منع من لا يقوم بسداد الرسوم أو غير المنتسبين للنقابة من التمثيل أو السيطرة على العاملين بالدراما بشكل عام.
فعلى سبيل المثال، قرر مع بداية موسم دراما رمضان منع ظهور مطربي المهرجانات في أي مسلسل[13]، على الرغم من حصولهم على تصريح من نقابة المهن الموسيقية للغناء. لم تقف قرارات النقابة عند حد التقييد بل هددت فنانين بالحبس؛ فقررت على سبيل المثال وقف الممثل محمود الليثي لعمله بمسلسل "ونسني" دون سداد رسوم النقابة بل وتقدم النقيب ببلاغ للنائب العام لحبس الليثي[14]. هذا الأداء المستهتر من النقابة بأرواح أعضاءها والاهتمام بتحصيل النقود منهم فقط لابد أن يحاسب عليه نقيب المهن التمثيلية لإساءته استخدام سلطاته وعدم مراعاته مصالح أعضاء النقابة.
من يحمي العاملين خلف الكاميرا؟
يشترك في صناعة الأعمال الدرامية عاملون غير منتظمين هم العاملون بمواقع التصوير وخلف الكاميرات مثل مسؤول التجميل Makeup artist، ومسؤول الديكور الذين يتواجدون بشكل يومي في مواقع التصوير ويتعاملون بشكل مباشر مع الفنانين، ويتخذ التعامل معهم شكل تعاقد موسمي متعلق بموسم رمضان وهو بالتالي مؤقت. وهناك عاملون يقترب عملهم من المقاولة مثل عاملي الديكور المسؤولين عن فك وتركيب الديكور، والشاريوه وهو قضيب تتحرك عليه الكاميرا، والكلاكيت، هؤلاء عادة لا يكون هناك تعامل شخصي معهم بل مع مقاول لهذه الخدمات أو باليومية. وهناك العمل اليومي مثل: مسؤول الملابس أو ما يطلق عليه "اللبيس". وهؤلاء لا يوجد نقابة تجمعهم لتعبر عنهم وتدافع عن حقوقهم. وبالتالي، فإن أي محاولة منهم للإعتراض على القدوم إلى موقع التصوير حفاظاً على سلامتهم يقابلها تهديهم بوقف عملهم واستبدالهم بآخرين.
يندرج هؤلاء العاملين للعمالة غير المنتظمة. فالقانون المصري يعتبر العامل غير منتظم "إذا ما كان عمله يتم في مواسم دورية متعارف عليها أيا كانت مدتها، أو العمل الذي يدخل بطبيعته فيما يزاوله صاحب العمل من نشاط وتقتضي طبیعة إنجازه مدة محددة، أو ينصب على عمل بذاته، وينتھي بإنتھائه، أو العمل الذي لا يدخل بطبيعته فيما يزاوله صاحب العمل من نشاط، ولا يستغرق إنجازه أكثر من ستة أشھر".
يعطي القانون المصري الحق للعمالة غير المنتظمة مثل العاملين في صناعة الدراما بإعانات مالية تصرفها الدولة لهم في حالات معينة، مثل: حالة الوفاة، العجز (الكلي أو الجزئي)، وفاة الأقارب من الدرجة الأولى، الزواج، المولود الأول والثاني. لم يتوقف القانون عند هذا الحد بل أعطى إمكانية لامحدودة في زيادة هذه الإعانات؛ وهو ما يتوافق مع توجيهات[15] الرئيس عبد الفتاح السيسي بصرف المنحة الأولى (500 جنيه مصري أي ما يقابل 30 دولار أمريكي) للعمالة غير المنتظمة المتضررة من تداعيات أزمة فيروس كورونا، ولا يحصل عليها المؤمن عليهم، ويلزم للحصول عليها تسجيل بموقع وزارة القوى العاملة في سجلات العمالة غير المنتظمة. كل هذه المعوقات أمام مبلغ زهيد مثل هذا، لا يتوافق تماما مع حاجة المواطن في ظل جائحة كهذه وتجعل نزول العامل إلى مواقع التصوير أمرا حتميا. ومن الطبيعي أن يعارض العمال أنفسهم أي صوت يطالب بالتزامهم بالحظر.
وهنا تظهر ضرورة تدخل الدولة بقرارات حاسمة لتوفير الحماية الاجتماعية لهؤلاء العاملين غير المنتظمين، الحلقة الأضعف في سلسلة صناعة الدراما في مصر. ولابد من أن تستعين الدولة بالمجتمع المدني وخبراته المتراكمة في دعم الحريات. وخير دليل على ذلك أن حكم المحكمة الإدارية بتونس بوقف تصوير الأعمال الدرامية كان بناءً على قضية رفعتها إحدى جمعيات حقوق الإنسان.
[2] صفية حمدي، المال، التفاصيل الكاملة لقرارات تعليق الدراسة والأنشطة الرياضية لمواجهة كورونا، 15 مارس 2020.
[3] قرار رئيس مجلس الوزراء رقم 718 لسنة 2020
[4] قرار رئيس مجلس الوزراء رقم 724 لسنة 2020
[5]قرار رئيس مجلس الوزراء رقم 719 لسنة 2020، الصادر بتاريخ 16-03-2020، يعمل به اعتبارًا من 17-03-2020، بشأن خطة الدولة الشاملة لحماية المواطنين من أي تداعيات محتملة لفيروس كورونا المستجد. الجريدة الرسمية، العدد 11 مكرر (ه).
[6] محمد عاطف، رئيس "المصنفات الفنية" يوضح موقف الرقابة على أفلام العيد، مصراوي، 7 أبريل 2020
[7]المادة 15 من قانون الرقابة على المصنفات الفنية رقم 430 لسنة 1955.