الدخول إلى مقابلة دان قزّي ليس كالخروج منها، تدخلين مثقلة بسيناريوهات لحلول قرأتِها للتوّ ملحقة بعبارة “إذا اتخذ القرار بتطبيقها” وبانعدام تام للثقة لديك بالسلطة في لبنان وبتاريخ من الخيبات، تخرجين متفائلة كمن أصيب بمسّ على ثقة بأنّ الأزمة سهلة الحل وأنّه سيكون هناك حتماً “قرار” من السلطة باعتماد الإجراءات الموجعة لها أولاً لحلّها. مقابلة دان قزّي الخبير المالي والمصرفي السابق تختصر بعبارة تقال في الأفلام والمسلسلات الأجنبية كثيراً ويكون لديها دائماً وقع جيّد على من تقال له “كل شيء سيكون على ما يرام”. مقابلة دان قزّي، تملؤك بالتفاؤل لا بل تشعرين برغبة في الإحتفال، في أن تخبري رفاقك بما سمعت كي يتفاءلوا هم أيضاً. ولكنّه شعور عابر ما يلبث أن يختفي حين يخرج عليه الصّباح فيتلاشى كحلم.
الرجل واثق من الحلول التي في حوزته، من نجاعتها لا بل أكثر من ذلك، من نيّة أكيدة ستتكوّن قريباً لدى حكّامنا (المتّخذين اليوم في الحكومة أسماء وهيئات جديدة) بضرورة تطبيقها. فهو أكيد من أنّ ضمير الطبقة الحاكمة المتحكّمة بمصائر الناس في لبنان سيتحرّك أخيراً وتقوم بمحاسبة نفسها عبر الإقتطاع من ودائعها وودائع المقرّبين منها والذين يشكّلون طبقة الـ 1% الأكثر ثراء. “ستدرك الطبقة الحاكمة قريباً أنّه من الأفضل محاسبة هذه الفئة بدلاً من تقليب الشعب اللبناني ضدّها، الناس لن ترحمها”.
ثمة أمور أخرى يروّج لها قزّي ويعتبرها من أسس حلّ الأزمة في لبنان وتتكرر في أكثر من سياق في المقابلة وهي ضرورة تغيير نمط حياتنا كلبنانيين، ويقصد تحديداً نزعة “التشبيح” لدى فئة كبيرة منهم: “بدلاً من شراء سيارة فارهة، نشتري تويوتا مثلاً أو كيّا أو نستعمل المواصلات المتوفّرة ولاحقاً إذا بنينا شبكة قطارات ومترو نستعملها، أو نسير على أقدامنا حتى، كلّ ذلك يخفّض فاتورة الإستيراد التي تستنزف دولاراتنا”.
[دان قزي باحث في مبادرة “القيادة المتقدمة” في جامعة “هارفرد”، ومحلل وكاتب اقتصادي في صحف لبنانية عدّة. شغل سابقاً منصب رئيس مجلس الإدارة والرئيس التنفيذي للفرع اللبناني لمصرف “ستاندرد تشارترد”. وتبوّأ مناصب إدارية في مؤسسات مالية عالمية بينها “بير ستيرنز” في هونغ كونغ و”دوتشي بنك” في نيويورك و”ميريل لينش” في لندن و”يو بي إس” في أوكلاند.
يحمل قزّي شهادة بكالوريوس في إدارة الأعمال من الجامعة الأميركية في بيروت وماجستير في إدارة الأعمال من جامعة كولومبيا في نيويورك وماجستير تنفيذية في إدارة التغيير التنظيمي من جامعة الدراسات العليا لإدارة الأعمالHEC في باريس وماجستير في الرياضيات الحاسوبية والتطبيقية من جامعة إلينوي في أوربانا].
جذور الأزمة
الإستمرار في تثبيت سعر الصرف
يسرد قزّي تاريخياً كيف بدأت الأزمة “في ثمانينيات القرن الماضي. بدءاً من العام 1985 حتى 1992 تراجعت قيمة الليرة بشكل كبير ووصل الدولار إلى 2825. جاء رياض سلامة إلى منصبه الحالي عام 1992 وعام 1997 (1999) ثبّت سعر الصرف عند 1507.5. يومها كان الأمر ضرورياً لإعادة الثقة بالليرة ولكنّ الخطأ كان في استمراره إلى يومنا هذا”.
الجميع برأي قزّي استفاد من تثبيت سعر الصرف: “لذلك شئنا أم أبينا سيذكر التاريخ رياض سلامة على أنّه الحاكم الذي ثبّت سعر صرف الليرة واليوم لا يوجد سياسي لديه الجرأة لأن يخرج إلى الناس ويقول إنّ الدولار لم يعد 1500 ليرة لبنانية، هم يفضّلون القول إنّ سعر الصرف لا يزال عند الـ1500 رغم أنّه أصبح في السوق الموازية 2300 ليرة (كان ذلك سعر الدولار في وقت إجراء المقابلة). الأمر أصبح بمثابة تحدٍّ سياسي، فمن هو الوزير الذي حلم طيلة عمره بأن يتبوّأ هذا المنصب الذي سيخرج الآن إلى الناس ويعلن أنّ الدولار لم يعد 1500 ليرة؟”
يشرح قزّي أنّ “الخطأ في ثبيت سعر الصرف أنّه من جهة ألغى مؤشراً اقتصادياً رئيسياً يستطيع أن يدلّنا إلى أي خلل يحصل في اقتصادنا، ومن جهة أخرى كلفته مرتفعة من حيث استنزافه احتياطات مصرف لبنان من العملة الأجنبية ومن جهة ثالثة أعطى اللبناني مستوى معيشياً جيّداً ولكنه أعلى من إنتاجية البلد. وهذا الأمر مصحوب بإلغاء شبه تام للقطاعات الإنتاجية من صناعة وزراعة، بحيث قاد إلى فاتورة استيراد مرتفعة استنزفت هي الأخرى احتياطاتنا بالعملات الأجنبية”.
فاتورة استيراد عالية وتدفّقات مالية ذهبت هباءً
يتابع قزّي سرد أسباب الأزمة: “لطالما كان لبنان يستورد أكثر مما يصدّر وبالتالي فإنّنا ننفق جزءاً كبيراً من الدولارات التي نملكها على تمويل الإستيراد. كان لدينا بعض الصناعات قبل الحرب ولكن بعد الحرب انعدمت تقريباً. في السابق كانت تحويلات المغتربين تعوّض النقص خصوصاً الموجودين منهم في الخليج وإفريقيا إضافة إلى التدفقات التي تأتي بها السياحة والإستثمارات المباشرة. واستعملت هذه التدفقّات أيضاً وبشكل أساسي لدعم سعر الصرف وبالتالي منح اللبنانيين مستوى معيشياً مرتفعاً. وكانت هذه السياسة الإجتماعية ترضي اللبنانيين والحكومات المتعاقبة. وبالفعل إذا نظرنا إلى نسبة التأييد لرياض سلامة قبل أربع سنوات مثلاً نجد أنّها كانت 90% أي أعلى من أي شخصية عامة في لبنان.
استمر هذا النظام في السير على ما يرام وبقي مستوى التدفقات يساوي تقريباً مستوى النفقات حتى 2006 وصولاً إلى 2010، حين أصبحت التدفقات إلى لبنان أكبر بكثير مما يخرج منه وأصبح ميزان المدفوعات إيجابياً (فائض). أحد أسباب ذلك هو ارتفاع سعر النفط وبالتالي معاشات اللبنانيين في الخليج ما رفع نسبة التحويلات التي يرسلونها إلى لبنان والسبب الآخر هو الأزمة المالية العالمية التي دفعت اللبنانيين الذين لديهم ودائع في مصارف في الخارج اعتبروا أنها ستنهار، إلى نقلها إلى المصارف اللبنانية التي اعتبروا أنها أكثر أماناً. وفي تلك الفترة تدفّق حوالي 20 مليار دولار إلى لبنان. وأحد الأخطاء التي اتركبت هي أنّه لم يتمّ توظيف تلك الأموال في أفضل المشاريع بل على العكس أنفقت في السوق العقارية بشكل أساسي. في عام 2011، مع تراجع الأموال الوافدة (نتيجة فقدان الثقة بالأداء السياسي وبالأوضاع الاقتصادية والمالية والنقدية) انقلبت الآية وأصبح ميزان المدفوعات سلبياً (سجّل عجزاً) وأصبح حجم الدولار الخارج أكبر من الدولار الداخل إلى لبنان. وعاماً بعد عام تفاقم الوضع وصولاً إلى العام 2016 حين قرر حاكم مصرف لبنان اعتماد ما أصبح يعرف بالهندسات المالية من جهة لتعديل ميزان المدفوعات عبر حماية احتياطه من العملات الأجنبية وتعزيز أصوله الأجنبية ومن جهة أخرى لمساعدة المصارف التي تعثّرت.
ارتفاع الدولار “الوهمي” مقارنة بـ “الحقيقي”
يدرج قزّي الهندسات المالية ضمن قائمة الأخطاء التي أدّت إلى تدهور الوضع النقدي في لبنان اليوم. فبرأيه، الخطأ الأول في الهندسات المالية “أنّها استعملت أموال الشعب اللبناني أو دافعي الضرائب من دون مقابل على عكس ما يحصل عادة في الدول الأخرى مثلما حصل في بريطانيا وأميركا عام 2008 و2009. فكان يجب على الدولة حين تدخّلت لإنقاذ المصارف أن تحصل على أسهم فيها وتغيّر إداراتها وتمنع المكافآت عن المدراء الكبار إلى حين يسترجع الشعب اللبناني الأموال التي دفعها”. أما الخطأ الثاني فهو “الفوائد المرتفعة جداً التي دفعتها الدولة على الدولار والتي وصلت أحياناً عام 2016 إلى 20 و25 و30%. وطبعاً لم يقتصر الأمر على البنوك المتعثرة وأصبحت البنوك الباقية تطلب أن تشملها الهندسات المالية أسوة بغيرها. صحيح أنّ الهندسات المالية رفعت أصول مصرف لبنان بالعملة الصعبة ولكن من جهة كان نزف الدولار أسرع ومن جهة أخرى لم يكن كلّ الدولار الذي لدى مصرف لبنان “حقيقياً” فجزء منه مسؤوليات مالية (Liabilities) للمصارف. وبالتالي مع استمرار نزيف الدولار، أصبح حجم الدولار الحقيقي أقل بكثير من حجم الدولار الوهمي الذي أسمّيه “لولار”.
وبحسب تقديرات قزّي، أنفق مصرف لبنان 70 مليار دولار من إحتياطاته بالعملة الأجنبية وهي أموال ذهبت إلى غير رجعة (على الإستيراد وعلى تمويل الدولة والوقود…) وبقي حوالي 30 مليار دولار هي عملياً حجم الدولار الحقيقي الذي نبحث عنه اليوم ونحتاجه لتمويل الاستيراد من وقود وأدوية وسيارات ومواد غذائية.
وقد لمسنا مؤشرات على تراجع حجم الدولار في البلاد قبل عام ونصف حين بدأت المصارف تطبّق نوعاً من الـ “كابيتل كونترول” أي القيود على السحب أو الضوابط على رأس المال بشكل خفيف. وفي الصيف الماضي بدأ سعر صرف الليرة يتحرّك خارج نطاق الـ1515 ووصلت إلى 1540 ثم إلى 1600 واستمرّ التدهور إلى أن وصلنا إلى ما نحن عليه والذي أختصره بما يلي: تراجع حجم الدولار الحقيقي مقارنة بالطلب عليه.
ينتقد قزّي الإجراءات التي اتخذت مؤخراً مع بدء ظهور مؤشرات على تفاقم الوضع النقدي ومنها الـ”كابيتل كونترول”. ويقول إنه “في الآونة الأخيرة، كان يفترض اتخاذ قرارات حاسمة ولكنّ ذلك لم يحصل. وحصل “الكابيتل كونترول” بطريقة غير مركزية أيّ أن مدراء فروع المصارف أصبحوا أصحاب القرار بدلاً من أن تتخذه الحكومة اللبنانية[1]. فلو كان الكابيتل كونترول مقونناً لكان سارياً على الجميع بشكل متساوٍ ولما كان صاحب “الواسطة” استطاع أن يسحب 100 ألف دولار مثلاً بينما من ليس لديه واسطة يترجّى المصرف ليعطيه 200 دولار. كما أنّه لو تمت قوننة الكابيتل كونترول لما حصلت تحويلات إلى الخارج”.
ويسأل في معرض حديثه عن الخلل في النظام الاقتصادي اللبناني “كيف ببلد البطالة فيه 30%، 60% من الشعب مدخوله أقل من ألف دولار، و1% 80 ألف دولار، ولكن ثمّة أناس يجنون في السنة 200 مليون دولار بدون أن يكون لديهم شركة ولا عملاً في الخليج ولا اخترعوا شيئاً مثل الآيفون ولا أنشأوا منصة مثل فيسبوك؟ وبالتالي فإنّ ثمة طبقة من اللبنانيين راكموا الثروات عبر الربى الفاحش، إضافة إلى أناس ورثوا ثروات وآخرون لديهم امتيازات ووكالات حصرية ومشاريع مستفيدة من الأملاك البحرية بدون وجه حق وغيرها”.
ويشير إلى أنه في ظل الإحتكارات والوكالات الحصرية التي ترفع أسعار المنتجات المستوردة بنسبة 30% والإنفاق المرتفع على العقارات في ظل غياب الشفافية في هذا القطاع (اليوم اللبناني العادي ينفق نصف معاشه على الإسكان لدفع ثمن بيته)، تذهب هذه الأموال إلى جيوب الـ 1%”.
في الحلول
“قصّ شعر” للمودعين الكبار
يعتبر قزّي أنّه من غير الممكن تشخيص المشكلة بشكل صحيح إن لم يرتفع حجم الدولار الحقيقي مقابل حجم الدولار الوهمي أو العكس. فبحسب الأرقام، تبلغ قيمة الفجوة بينهما حوالي 70 مليار دولار وربما أقلّ إذا احتسبنا الإحتياطات وبعض السيولة.
ويتابع ساخراً: “من أجل رفع حجم الدولار الحقيقي نحتاج إلى جهة خارجية كالإتحاد الأوروبي أو صندوق النقد أو غيرهما تكتب لنا شيكاً بقيمة 50 مليار دولار وعلينا أن نشرح لها بأنّ مليونيرات لبنان الذين يملكون حوالي 83 مليار دولار يريدون استعادة أموالهم”. ويردّ على نفسه بأنّ “هذا الأمر لم يعد ممكناً اليوم، فالجهات الدولية أصبحت اليوم تعرف حقيقة الوضع في لبنان”.
الحل الواقعي برأيه إذاً هو “الـ Haircut (قصّ الشعر) الذي يجب أن يطال بشكل أساسي المودعين الكبار الذين يبلغ عددهم 6000 يملكون تقريباً 83 مليار دولار (15 مليون دولار كمعدّل وسطي لقيمة الوديعة) وبالتالي يمكن تحصيل 40 مليار دولار منهم ووقف مشكلة تهافت الناس على المصارف للحصول على حفنة دولارات. ويطال قصّ الشعر الودائع فقط، وإذا أمكن الفائدة المرتفعةً التي حصل عليها المودعون الكبار عملياً من جيوب الناس وخصوصاً أولئك الذين راكموا الثروات على مدى سنين بفضل هذه الفوائد”. ولكنّه يشير إلى الأرقام التي ظهرت أخيراً عن تحويلات أجراها المودعون الكبار بقيمة 15 مليار دولار ما يخفّض قيمة الودائع الكبيرة إلى حوالي 68 مليار دولار ما يعني أنّه لا مفرّ من تحميل جزء من المبلغ لأصحاب ودائع أصغر.
يعتبر قزّي أنّ من مصلحة المودعين الكبار والزعماء السياسيين أن تطالهم الـ haircut كي لا يقوم الشعب ضدّهم، ويراها نوعاً من المحاسبة على الفساد الذي مورس عبر فوائد عالية أعطيت في بلد يعاني من الإنكماش الإقتصادي وبالتالي فقص الشعر عملياً هو استعادة الأموال المنهوبة. وبرأيه إن نسبة كبيرة من الأموال المنهوبة موجودة في لبنان وليست في سويسرا ولوكسمبورغ وباناما.
ولكن كيف يعرف ذلك؟
يجيب قزّي بأنه “حين حصلت تسريبات من بنوك سويسرية بآلاف الحسابات، وباناما أيضاً لم يكن بين الأسماء سوى عدد ضئيل جداً من اللبنانيين غير المعروفين أيضاً وغير المرتبطين بأي سياسي ولديهم أسباب غير مرتبطة بلبنان لكي يضعوا أموالهم في تلك المناطق. السبب الآخر هو أنّ السياسي اللبناني يفضّل أن يضع أمواله في لبنان لأنّ السرّية المصرفية أقوى. فعلى مدى سبعين عاماً، لم يتم خرق السرية المصرفية مرّة واحدة على عكس ما حصل في سويسرا مثلاً أو غيرها. أما السبب الثالث هو أنّ اللبنانيين يفضّلون إيداع أموالهم في لبنان وليس في الخارج لأنّ الفوائد مرتفعة. والسياسي اللبناني مثله مثل المودع العادي سحرته الفوائد المرتفعة وأبقى أمواله في لبنان ولم يفكّر أنّ الفوائد وهمية وأنّنا متّجهون إلى النهاية التي وصلنا إليها الآن”.
إعادة هيكلة الدين الداخلي
يفصّل قزّي خريطة الدين العام كما يلي: “وفقاً للتقديرات يبلغ هذا الدين 87 مليار دولار، 31 مليار و600 مليون دولار منها يوروبوندز بالدولار، وهذا دين الدولة اللبنانية. ولكن هذا ليس الدين الوحيد فهناك الـ 112 مليار دولار دين الدولة للمصارف وبالتالي فمجموع ديننا هو حوالي 200 مليار دولار ناقص الأمور التي نحتسبها مرتين ما يجعل الدين تقريباً 165 مليار”.
أما الدين الخارجي الصافي فوقفاً لحساباته تبلغ قيمته 10 مليارات دولار (اكتتبتها جهات دولية في الخارج) ويحتسبه من خلال: القيمة الإجمالية لليوروبوندز ناقص 15 مليار تملكها المصارف اللبنانية تقريباً و5.7 مليار للبنك المركزي، و600 مليون لشركات تأمين. وبالتالي فإنّ 5% من الدين العام فقط خارجي والباقي داخلي.
ويدعو قزّي من أجل “وقف النزيف” إلى إعادة هيكلة الدين الداخلي الذي هو دين للمصارف، وتحميل كبار المودعين البالغ عددهم بحسب حساباته 6000 شخص “موقّفين البلد”، الكلفة الأكبر لإعادة الهيكلة من خلال إعادة توزيع جزء من ودائعهم وربما إعطائهم أسهماً مقابلها في المصرف.
ماذا عن الدين الخارجي؟
إذا شطبنا الدين الداخلي، يكون دين الدولة اللبنانية إذاً بحسب قزّي 10 مليارات دولار فقط. وهو طبعاً لا يحبّذ أبداً إعادة جدولته لأنّه برأيه سيعني تلقائياً اعتبار لبنان بلداً مفلساً، ويقول “إنّنا إذا تخلّفنا عن الدفع لن نوفّر سوى القليل على أنفسنا وفي الوقت نفسه سنسيئ إلى سمعة البلد لأننا عاجلاً أم آجلاً بعدما نحلّ أزمتنا الحالية سنحتاج إلى الاستدانة. كما أننا إذا تخلّفنا عن الدفع فسترفع علينا دعاوى في الخارج وتحديداً في نيويورك حيث الذهب اللبناني (14 مليار دولار) يتعرّض لخطر وضع اليد عليه وعلى طائرات طيران الشرق الأوسط وعلى كازينو لبنان وبالتالي من يريد خوض معركة يجب أن يكون مستعدّاً لها خصوصاً أنّ أعتى محام لن يصمد أمام أي محامي متخصص في أميركا”[2].
بالتالي يؤيّد قزّي دفع استحقاقات اليوروبوندز: “783 مليون دولار من قيمة استحقاقات هذا العام للأجانب والباقي للمصارف اللبنانية والبنك المركزي أي أننا نسدد لأنفسنا. نحن لدينا 30 مليار دولار (احتياطي مصرف لبنان من العملة الصعبة) ما يعني أنّنا قادرون على الدفع وتسيير أمور البلد مع الإستمرار في تطبيق الكابيتل كونترول لبضع سنوات. اليوم ميزان المدفوعات ليس سلبياً فالإستيراد متوقف تقريباً وإنفاق الدولار منخفض مع تراجع سفر اللبنانيين إلى الخارج، لا بل قد يكون الميزان سجّل فائضاً مع شنطات الدولارات القادمة من الخارج وبعد إزالة دعم الوقود”.
وقبل حتى أن نسأله عن أثر دفع المستحقات على تمويل استيراد الأدوية والقمح والمحروقات، يقول وكأنّه يجيب على السؤال المستتر: “لن تحصل مجاعة ولن ينقطع الدواء في لبنان”، كاشفاً أنّه سمع في اجتماعات مع سفراء أوروبيين عن خطط لدى البنك الدولي تتعلق بتأمين المواد الغذائية والأدوية للبنان”.
تحويل الاقتصاد إلى اقتصاد منتج
يحتاج لبنان بتعبير قزّي إلى “ريجيم على الدولار” من خلال ترشيد الإنفاق وتقليص فاتورة الاستيراد خصوصاً السلع مرتفعة الأسعار وفرض ضرائب مرتفعة عليها (بينها السيارات ذات محرّكات الـ6 أسطوانات) وخفض الإنفاق على الوقود من خلال ترشيد استعماله بما يشمل وقف الهدر في شبكة الكهرباء وليس تقنينها وتقنين استعمال السيارات واعتماد مبدأ الـcarpooling (أي استعمال مجموعة أشخاص لسيارة واحدة) والمشي واستعمال الدراجات إضافة إلى التوقّف عن السفر للسياحة وإنفاق المال داخلياً، مقترحاً فرض ضريبة عالية على مغادرة الأراضي اللبنانية ولكن بشكل مدروس، ووقف استقدام العاملات المنزليات اللواتي يرسلن سنوياً 350 مليون دولار إلى بلدانهنّ[3]. ودعا إلى أن يبدأ اللبناني بقبول ممارسة أعمال كان يخجل أن يمارسها في السابق وحلّ مكانه عمّال أجانب وهو ما يحلّ جزءاً من مشكلة البطالة. وبالتالي يطرح قزّي تغيير أسلوب حياة اللبنانيين (طبقة الميسورين طبعاً وما تبقّى من الطبقة الوسطى) على الأقل للسنوات الخمس المقبلة.
وبعد أنّ نوقف نزيف الدولار ونحلّ مشكلة دين الدولة اللبنانية ونوزّع الخسائر على كبار المودعين ويغيّر اللبنانيون أسلوب حياتهم وربما حتى عقليّاتهم، يجب أن ننتقل بحسب قزّي إلى “تحويل الإقتصاد اللبناني من اقتصاد ريعي كسول إلى اقتصاد منتج يشجّع الابتكار المحلّي بدلاً من الإتكال على المنتجات الخارجية. فلا يوجد شيء لا يمكننا أن ننتجه في لبنان إذا كان هناك قرار بذلك”.
وبرأيه أنّه إذا قمنا بكل هذه الإجراءات بشكل حاسم وسريع وتوقّفنا عن إنفاق المال على الترهات كما في السابق، “قد لا نحتاج إلى أي مساعدة من أحد ولا حتى صندوق النقد الدولي أو ربما نحتاج منهم فقط إلى شبكة أمان للتعويض على الأشخاص الأكثر تضرراً أي الطبقات الأدنى دخلاً ولكن هذه المرة نذهب إليهم أقوى”.
وهو على ثقة أن “المجتمع الدولي إذا طلبنا منه مساعدات ليس على شاكلة باريس 2 لننفقها كما نريد، بل لإنشاء شبكة نقل وقطارات لوقف التلوّث ومشاريع تمنع التلوث البحري ومشاريع إنتاجية فسيوافق، وستتدفّق علينا الدولارات وسنوظّف العديد من الأشخاص ونخفّض نسبة البطالة. وفي هذه الحالة لن يثبت سعر الليرة فحسب بل قد يتحسن أيضاً بفضل المشاريع الإنتاجية وبيع الابتكارات والأفكار اللبنانية وتخفيض الإستهلاك وتشجيع تأسيس الشركات الأجنبية في لبنان لتوظيف أصحاب الشهادات”.
وبرأيه “إذا انتقلنا إلى اقتصاد إنتاجي عبر خطة اقتصادية واضحة مع بعض المساعدات فسعر الصرف سيحدد نفسه بنفسه”.
وبالتوازي مع كل ذلك يدعو قزّي إلى ضرورة إنهاء ربط العملة اللبنانية بالدولار ليس من منطلق نقدي فحسب بل من منطلق جيوسياسي “فشريحة من اللبنانيين تعادي الدولة التي نربط عملتنا بعملتها ما يعني أنّها قادرة على تدميرنا بثوانٍ. ويسأل: ما به الين؟ ما به الجنيه الإسترليني؟”
أزمتنا فريدة
لدى سؤاله عمّا إذا كان يمكن الاستفادة من نماذج بلدان عانت من أزمة مالية، يجيب أنّه “لا نموذج يشبه النموذج اللبناني، فأقرب بلد من حيث حجم الاقتصاد هو الإكوادور ولكنه كان مدعوماً من الأميركيين إلى أقصى حد. قد يكون هناك عناصر مشتركة مع قبرص واليونان من حيث أنّ عملتهما هي اليورو ولا يمكنهما طبع اليورو، وأنّ القبارصة كان يتدفّق عليهم المال من روسيا، بينما نحن من المغتربين، والروس تلقّوا ضربة كبيرة حين أجرى القبارصة Haircut. ولكن أزمتنا فريدة نحن اخترعناها وهي لبنانية محض فلا يوجد بلد آخر اقتصاده مدولر ولا أي بلد لديه Regulated Ponzi Scheme وأنفق دولاراته وأعطى فوائد وهمية. في الحقيقة، الأقرب إلى النموذج اللبناني هو برنارد مادوف وهو شخص وليس بلداً. لذلك لن يأتي أحد اليوم ويعطي مساعدات لإنقاذ أشخاص كانوا يحصلون على فوائد بقيمة 17%. في الولايات المتحدة، مثلاً تركت الحكومة مصارف كبيرة تدمّر كي لا تعطي مساعدات لأشخاص أثرياء”.
- نشر هذا المقال في العدد | 64 | نيسان 2020، من مجلة المفكرة القانونية | لبنان |. لقراءة العدد اضغطوا على الرابط أدناه:
قبح النظام في مرآة المصارف
[1] صاحب السلطة لاتخاذ قرارات مماثلة هو المجلس النيابي (المحرر).
[2] هذه الأمور لقيت اعتراضاً من قانونيين عدة ذكروا أن هذه الأموال مملوكة من مصرف لبنان الذي له شخصية معنوية مستقلة وتالياً لا يجوز حجزها تحصيلاً لديون مستحقة بذمة الدولة.
[3] بحسب “الدولية للمعلومات” قُدّر عددهنّ عام 2018 بـ247 ألف عاملة منزلية غالبيتهنّ من الاثيوبيات، تليهن البنغلادشيات، ثم الفيليبينيات، ويُخرجن نحو 660 مليون دولار سنوياً.