حوار مع عضو الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد القاضي محمد العيادي: الحرب على الفساد أصبحت مشهدا كاريكاتوريا


2020-04-01    |   

حوار مع عضو الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد القاضي محمد العيادي: الحرب على الفساد أصبحت مشهدا كاريكاتوريا

لو جاز اختزال المدة البرلمانية المنقضية في عنوان سياسي واحد، لكان على الأرجح الفساد ومكافحته. فقد احتل الخطاب حول تفشي الفساد وسبل مكافحته نصيب الأسد من الجدل السياسي طيلة السنوات الخمس الفارطة. الاستثمار السياسي لخطاب الحرب على الفساد، بلغ أقصاه خلال الانتخابات الرئاسية والتشريعية، ليكون محددا حاسما في إعادة تشكيل المشهد السياسي رافعا قوى سياسية جديدة ومنهيا وجود أخرى. للعودة على حصيلة السنوات الفارطة في مجال مكافحة الفساد، التقت المفكرة القانونية يوم 13 ديسمبر 2019 نائب رئيس مجلس المنافسة والقاضي الإداري (المتفرغ) محمد العيادي، الذي شغل خططا عديدة في أبرز الهيئات التي اهتمت بمكافحة الفساد. فعلاوة على عضويته منذ سنة 2013 في مجلس الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، كان العيادي عضوا في لجنة تقصي الحقائق حول قضايا الرشوة والفساد، التي أنشأت مباشرة بعد الثورة برئاسة الراحل عبد الفتاح عمر، كما انتخب عضوا في هيئة الحقيقة والكرامة قبل أن يستقيل منها، سنة 2015، «لعدم توفر المناخ الملازم لمواصلة المهام التي انتُخب على أساسها» بحسب تعليله. بالإضافة إلى العودة على حصيلة عمل الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، مثل هذا الحوار فرصة لمحاولة فهم مختلف الإشكالات التي تعرقل مجهود مكافحة الفساد بصفة عامة، بأبعادها القانونية والقضائية والسياسية وحتى المجتمعية.

المفكرة القانونية: منذ 3 سنوات، تم توقيع الاستراتيجية الوطنية للحوكمة الرشيدة ومكافحة الفساد التي أعدتها هيئة مكافحة الفساد. هل حققت هذه الاستراتيجية أهدافها، ونحن في السنة الأخيرة لتنفيذها؟

محمد العيادي: انطلقت الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد في تفعيل مقتضيات هذه الاستراتيجية مباشرة بعد توقيعها من قبل مجموعة من الفاعلين. ولكن قبل التطرق لحصيلة تنفيذها، يجدر التذكير بأن مجهود مكافحة الفساد انطلق منذ سنة 2011 بتركيز اللجنة الوطنية لتقصي الحقائق حول الرشوة والفساد. هذه اللجنة قامت بعمل جبار رغم الحيز الزمني الذي اشتغلت فيه والذي لا يتجاوز سنة وفي ظروف صعبة ودون مساندة من مكونات المجتمع المدني والإعلام والمواطن التونسي. بل كان القضاء مثلا يعتبرها منافسة له في صلاحياته. وقد عالجت اللجنة أكثر من 5000 ملف أحالت منها 460 ملف إلى القضاء، ومن بينها ملفات ثقيلة جدا من حيث الوثائق المضمنة والأشخاص المعنيين. كما أصدرت تقريرا ثريا للغاية لم يلقَ ما يستحق من الاهتمام في البداية. وقد تضمن مجموعة من التوصيات والمقترحات ومشاريع نصوص قانونية عديدة، منها مشروع نصّ حول حماية المبلغين، ومنها أيضا مشروع قانون لإرساء هيئة دائمة ومستقلة لمكافحة الفساد.

مع صدور المرسوم عدد 120 لسنة 2011، تم تركيز الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد وتعيين العميد سمير العنابي على رأسها. لكن، لم يكن مردودها في البداية بالنجاعة التي هو عليها الآن مع العميد شوقي الطبيب، لأسباب عديدة من بينها عدم توفر الإمكانيات المادية والبشرية اللازمة، وبالخصوص جهاز الوقاية والتقصي (الذي لم يتم إنشاؤه إلى حد الآن). طرحت فكرة الاستراتيجية الوطنية منذ رئاسة سمير العنابي، وبدأ العمل عليها مع مختلف الشركاء بعد تولي العميد شوقي الطبيب رئاسة الهيئة. للأسف، هنالك جهات عديدة لم توقع على هذه الاستراتيجية، أبرزها البرلمان. كذلك، غياب المجتمع المدني على مستوى تفعيل الاستراتيجية يسبب خللا مهما.

أما عن تقييمنا لتنفيذها، فقد تحققت كثير من الأهداف على المستوى التشريعي باستكمال الترسانة التشريعية المتعلقة بصفة مباشرة أو غير مباشرة بالفساد، إذ بُذل جهد كبير سواء من طرف السلط العمومية أو من الشركاء الدوليين أو المجتمع المدني ليصبح لدينا حزمة من النصوص القانونية بداية من القانون المتعلق بالنفاذ إلى المعلومة وصولا لآخر قانون وهو قانون محكمة المحاسبات، مرورا بقوانين القطب القضائي الاقتصادي والمالي وحماية المبلغين وهيئة الحوكمة الرشيدة ومكافحة الفساد والقانون المعروف ب “من أين لك هذا؟”. من بين هذه القوانين ما يبعث على الرضى، ومنها ما تعلقت به بعض الهنات، وأخص بالذكر قانوني هيئة الحوكمة الرشيدة ومكافحة الفساد والأحكام المشتركة بين الهيئات الدستورية المستقلة. فقد تأثرت صياغتهما بسياق سياسي طغا عليه الخوف من هيئات مستقلة وقوية بعد تجربة هيئة الحقيقة والكرامة وما شابها من إشكاليات وصراعات. فدفعنا الثمن بعدم تمتيع أعضاء الهيئة بصلاحيات الضابطة العدلية وإعطائها للجهاز الإداري الذي يخضع لرقابة مضاعفة، إدارية وقضائية، مما سيعسّر مهمته.

وقد قدّمنا اقتراحات عديدة لمراجعة إجراءات التحقيق والحكم في ملفات الفساد، حيث تبين وجود بطء كبير. يوجد انطباع عام بفشل متواصل في مكافحة الفساد، وهو ناتج في جزء كبير منه من أن القضاء لا يسرع في البت في هذه الملفات. فالمساءلة موجودة، سواء من الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد التي أحالت 600 ملف واللجنة التي سبقتها والهيئات الرقابية وغيرها، ولكن المحاكمة مفقودة. هنالك العديد من الملفات الثقيلة المعطلة في القضاء منذ 2011. يكفي أن نذكر منها ملف الوكالة التونسية للاتصال الخارجي الذي تورط فيه أكثر من إعلامي وجهات سياسية وجهات نقابية، ومنها ما هو عالق في مكاتب قضاة التحقيق وملفات أخرى ما تزال إلى الآن في مرحلة البحث الأولي في مراكز الحرس والشرطة. بل أن إمكانية التلاعب بالوثائق واردة، بما أننا نتحدث عن ملفات منذ 2011. إذن، هناك مشكلة عويصة في التعامل القضائي مع ملفات الفساد.

المفكرة: هل أن القضاء يتحمل المسؤولية الأكبر في ضعف نتائج مكافحة الفساد أم أن تلك هي حدود الإمكانية المتاحة له؟

العيادي: قبل إحداث القطب القضائي الاقتصادي والمالي، لم يكن القضاء التقليدي قادرا على القيام بهذا الدور. وقد طالبنا بقطب قضائي متخصص منذ 2011. ولكن لم يقع إحداثه إلا في أواخر 2016 وبإمكانيات محدودة. إذ أن قضاة التحقيق عددهم قليل، كما لم تتم إضافة المساعدين الفنيين رغم مطالبتنا بذلك، نتيجة أسباب متعلقة بتأجيرهم وبغياب أي تحفيز يشجع على ممارسة هذه المهنة. السلطة السياسية أرادت وتعمدت أن يبقى القضاء عاجزا عن النظر في هذه الملفات لأن الأمر يتعلق برجال السياسة ورجال أعمال متنفذين ولهم باع وتأثير على رجال السياسة، فقد اختلطت السياسة بالمال وأصبح السياسي يسعى لغض الطرف عن هذه القضايا بل وصل الأمر إلى سن مشروع قانون للمصالحة الاقتصادية.

غياب المحاسبة سمح بعودة الفاسدين إلى المشهد السياسي كنواب وكمستشارين لدى رئيس الحكومة. وظهرت أشكال جديدة من الفساد لأن أجهزة الدولة غير قادرة على الردع وتفعيل القوانين. هي أحيانا عاجزة بسبب ضعف الدولة والتكالب على السلطة وأحيانا تتعمد عدم الفعل في هذا المجال. في هذه الأثناء، لدينا إدارة ينخرها الفساد نظرا لغياب يد غليظة لإنفاذ القانون، وهو ما يفسر أن ثلثي التونسيين يعتقدون أن الفساد تضخم وأن مجهود الحكومات ضعيف في مكافحة الفساد.

وعلاوة على ضعف الإرادة السياسية وبطء القضاء، هنالك سبب آخر لتفشي الفساد وهو ضعف الإرادة المجتمعية. المواطن، عندما يجد فرصة لممارسة الفساد، لا يتردد في ذلك. هذا بالإضافة إلى النزعة القطاعية التي تتمثل في التفاف النقابات والهياكل المهنية لمساندة أشخاص تتعلق بهم شبهات فساد، ناهيك عن المساندة العرقية والجهوية والرياضية للمتورطين في ملفات فساد، وهو ما سماه الصحفي زياد كريشان “جمهورية القبائل”.

المفكرة: هناك ترسانة تشريعية هامة وقوية (على هناتها)، ولكن في التطبيق لم يتغير شيء؟

العيادي: بين الواقع والتطبيق هنالك بون شاسع. الترسانة التشريعية هامة، ولكن ما ينقص هو الهياكل والسلط لإنفاذها على أرض الواقع، وهذا مرتبط بالإرادة السياسية للاستثمار في هذه الأجهزة. يتعين على مختلف السلط مساندة هذه الأجهزة، وليس تعطيلها مثلما يحدث الآن. مثلا، هنالك إشكالية النصوص التطبيقية التي لا تصدر. رئيس الحكومة أعلن عن إصدار نصين تطبيقيين متعلقين بقانون حماية المبلغين عن الفساد. ولكنه لم يعلن عن الأمر المتعلق بضبط أنموذج التصريح بالمكاسب والمصالح القابل للنشر. وبالتالي، لم تنشر هيئة مكافحة الفساد حتى الآن تصاريح الفئات الثماني الأولى المشمولة بقانون “من أين لك هذا؟”، ومن بينها أعضاء الحكومة ومجلس نواب الشعب، مثلما ينص عليه القانون.

 

المفكرة: إذن تعتبرون أن هنالك مماطلة من رئيس الحكومة في إصدار النصوص التطبيقية؟

العيادي: طبعا هنالك مماطلة. عندما يقع تحديد أجل في القانون لإصدار النصوص التطبيقية (شهران) ويتم تجاوزه بهذا الشكل، فهذا يعني وجود رغبة في عدم إصدار النص التطبيقي لتعطيل إنفاذ أحكام القانون. لذلك أعتبر أن حكومة يوسف الشاهد، بقدر ما عملت على سن مجموعة كبيرة من التشريعات في عهدها، إلا أنها عطلت في أكثر من مرة تطبيقها من خلال الامتناع عن نشر نصوصها التطبيقية.

مشروع الأمر المتعلق بنموذج التصاريح المنشورة موجود عند رئيس الحكومة منذ مدة طويلة (أعدته الهيئة)، ولكنه لم يعلن عنه في خطابه بمناسبة اليوم العالمي لمكافحة الفساد. كنا ننتظر إمضاءه على الأوامر الثلاثة ولكنه أمضى على إثنين فحسب.

كذلك يتحمل هو وحكومته والحكومات السابقة مسؤولية عدم تأسيس جهاز تقصٍّ داخل الهيئة، بتعلة أن ذلك سيتم مع تركيز الهيئة الدستورية.

 

المفكرة: قانون هيئة الحوكمة الرشيدة ومكافحة الفساد تم إصداره في سنة 2017 وإلى الآن لم يقع تركيز الهيئة. هل ترون أنه توجد إرادة سياسية لعدم إرسائها؟

العيادي: لا يتعلق الأمر بإرادة إرسائها، وإنما توجد رغبة لدى النواب والأحزاب السياسية في أن يكون لهم ممثلون داخل هذه الهيئات، ولا أعضاء مستقلين كما ينص عليه القانون. هذا ما لمسته في هيئة الحقيقة والكرامة حيث كانت حيادية بعض الأعضاء محل شك.

الأحزاب السياسية تسعى للسيطرة على الهيئات وتخاف من وجود هيئات دستورية تلعب دورها كما يجب وتصبح سلاحا لا يمكنها مواجهته. بالتالي، وبطريقة وقائية، يقومون بكل شيء ممكن كي لا يدخلها سوى أشخاص تابعين لهم، يتلقون منهم التعليمات ويصدون عنهم الضرر. للأسف، هذا يشمل كل الأحزاب دون استثناء.

 

المفكرة: هناك من ينتقد تعامل هيئة الحقيقة والكرامة في ملف المصالحة مع المتورطين في الفساد وشبهات تضارب المصالح التي تشوبهم. كذلك، هناك من يتهم فريق مكافحة الفساد الذي يعمل مع رئيس الحكومة بابتزاز أصحاب الأعمال المتورطين في الفساد، وهي تهم وجهت لحركة النهضة من قبله، دون أن ننسى مشروع قانون المصالحة الاقتصادية في نُسَخه الأولى الذي حاول إرساء لجنة إدارية تبت في ملفات المصالحة مع أصحاب الأعمال. هل أن الفساد في تونس عدو تصعب محاربته، أم هي كعكة يتنازع الجميع على اقتسامها عن طريق الابتزاز؟

العيادي: الوضعية أصبحت كاريكاتورية. في الأصل، الفساد عدو وآفة يجب محاربتها، ولكنه تحول إلى كعكة تتقاسمها الأحزاب وأصحاب المصالح وتؤثر فيها لوبيات الفساد المتخفية، سواء كانت سياسية أو إعلامية أو اقتصادية، تتحكم فيه بدرجة كبيرة.

يكفي أن نشاهد مردود لجنة التحكيم والمصالحة بهيئة الحقيقة والكرامة. أنا متأكد أن عددا كبيرا من الحالات التي تم تمريرها داخل هذه اللجنة لا تتوفر فيها شروط الحصول على مقررات التحكيم والمصالحة، وبالتحديد اعتراف الشخص بمجمل الانتهاكات التي اقترفها، ووصفه لكيفية استفادته من الفساد وذلك في تقارير مفصلة يتأكد من صحتها أعضاء لجنة التحكيم. ولكن ما حصل هو أن يأتي صاحب أعمال للاستفادة من العدالة الانتقالية بإيقاف التتبعات ضده، ويكتفي بذكر ملفين أو ثلاثة فقط، غالبا ما يكون القضاء قد برأه فيها أصلا، مثلما هو الشأن بالنسبة لسليم شيبوب والأزهر سطا وسليم زروق. معالجة ملفات التحكيم والمصالحة لم تكن بالجدية الكافية ولا بالشفافية المطلوبة، بل جلبت مشاكل جديدة، إذ أن بعض المنتفعين من التحكيم والمصالحة يطالبون الدولة بإرجاع بعض أملاكهم المصادرة بعد أن قررت لجنة التحكيم والمصالحة تمكينهم من ذلك، والحال أن ما صودر قد دخل خزينة الدولة وليس من حق لجنة التحكيم أو هيئة الحقيقة والكرامة أن تقضي بإرجاعه. هذه القرارات ساهمت في تعطيل إجراءات التفويت في بعض الأملاك المصادرة، خاصة وأنها حسب قانون العدالة الانتقالية غير قابلة للطعن. لكن العيوب التي شابتها قد تنحدر بها إلى مرتبة المعدومية.

 

المفكرة: بعد تسع سنوات من اندلاع الثورة، لا يزال ملف الأملاك المصادرة يثير جدلا، وقد تحدثت دائرة المحاسبات في تقريرها الثلاثين عن أخطاء عديدة في عملية المصادرة ثم التصرف والتفويت في الأملاك المصادرة. ما هو تقييكم لهذا الملف ومن يتحمل المسؤولية حسب رأيكم؟

العيادي: نعم. نفس المردود الهزيل نجده في ملف المصادرة. حتى أن الوزير السابق لأملاك الدولة حاتم العشي صرح أنه اكتشف وجود فساد كبير في ملف المصادرة. إلى الآن، لم يتم التفويت في معظم الشركات ولا ضمان حسن استغلالها. هناك إذن فشل كبير على مستوى هذا الملف.
لا يمكنني أن أحدد المسؤوليات، ولكن بما أن الأطراف المعنية، كوزارتي المالية وأملاك الدولة ولجان المصادرة، تخضع جميعها لرقابة الدولة وبالتحديد رئاسة الحكومة والبرلمان، فإن هذه السلط مقصرة في متابعة هذا الملف.

  • نشر هذا المقال في العدد 17 من مجلة المفكرة القانونية | تونس |. لقراءة العدد اضغطوا على الرابط أدناه:
انشر المقال

متوفر من خلال:

تونس ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد ، مجلة تونس



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني