“
فرض القانون التونسي للعدالة الإنتقالية أن تكون هيئة الحقيقة والكرامة هي المؤسسة التي تلعب دور المحرك الدافع لكل مسارات تلك العدالة. واقتضى ذات القانون أن تكون مدة عمل تلك الهيئة أربع سنوات تحتسب بداية من تاريخ تسمية أعضائها (والذي حصل في أيار 2014) مع إجازة تمديدها لسنة واحدة. وفي ظل خلافات عميقة بين الهيئة والحكومة التونسية، قررت الهيئة تمديد ولايتها حتى آخر 2018. وقد شهد هذا العام إحالة مئات الملفات القضائية إلى الدوائر المتخصصة للعدالة الإنتقالية المنشأة بموجب القانون نفسه والتي يتعين عليها أن تنظر في هذه الملفات وفق الأصول الجنائية المعتادة.
في سياق رغبة المفكرة في تقييم عمل هذه الهيئة نظرا لأهمية التجربة، عمدنا إلى إجراء سلسلة من المقابلات سننشرها تباعا. وأول المقابلات التي نشرناها أمس كان مع النائبة يمينة الزغلامي التى ساهمت في وضع الأسس القانونية لمسار العدالة الإنتقالية في تونس ولعبت دورا كبيرا في استكمال هذا المسار حتى الآن. اليوم، ننشر مقابلة مع السيد حسين بو شيبة، وهو عضو التحالف التونسي للكرامة وردّ الاعتبار وهو كاتب عام للشبكة التونسية للعدالة الانتقالية.
المفكرة: كيف تقيمون عمل هيئة الحقيقة والكرامة على ملف جبر الضرر كميا؟
بوشيبة: أظن أن التقييم الكمي لعمل الهيئة على مستوى مسار جبر الضرر يفترض أن يكون لاحقا لإعلان تقريرها النهائي. لكن مبدئيا ينتظر أن يكون عدد المشمولين بقرارات جبر الضرر في حدود الأربعين ألف تقريبا من عموم ستين ألف ملف تعهدت بها الهيئة وهذا يعتبر نسبة إنجاز هامة.
المفكرة: فيما تعلق بما أعلن من رفض لملفات ضحايا بحجة عدم تقديم مؤيدات ملفاتهم لم نلاحظ لمجتمع ضحايا الانتهاكات موقفا واضحا. هل يعني هذا أن الضحايا يقبلون بمثل هذا القرار؟
بو شيبة: أعتقد أن من حق الضحايا الوصول للعدالة دون اعتبار لأي آجال أو إجراءات تمس بحقهم هذا وأنا أظن أن هناك عدم جدية من لجنة التقصي صلب هيئة الحقيقة في التعاطي مع هذا الملف، إذ كان من واجب هذه اللجنة تحمل عبء إثبات الانتهاك لا تحميله للضحية. إضافة لما ذكر، أسجل إدانتي لخرق الهيئة لدليل إجراءاتها بفرضها أجلا قصير لا يتجاوز نصف يوم ليتولى من رفضت ملفاتهم الاعتراض عليها. ويجب هنا أن تتعهد الدولة بتلك الملفات المرفوضة تحقيقا للعدل.
المفكرة: فيما تعلق بما أعلن من مقررات جبر ضرر لحدّ الآن، يلاحظ أن هيئة الحقيقة اعتمدت المعيار الزمني في إسناد مقررات جبر الضرر. هل لكم موقف من هذا المعيار؟ وهل تقدرون أنه يخدم مصلحة الضحايا خصوصا إذا ما اعتمد لاحقا في صرف ما لهم من حقوق مالية؟
بو شيبة: أظن إن اعتماد المعيار الزمني في توزيع مقررات جبر الضرر أي من خلال إعطاء الأولوية لفئات الضحايا باعتبار الأقدمية في التعرض للانتهاك معيارا موضوعيا وخاصة أن العديد من اليوسفيين – أي من شملتهم قبل غيرهم قرارات جبر الضرر – متقدمين في السن ومن حقهم أن يتم إعادة الاعتبار لهم في قائم حياتهم.
وفيما تعلق بإمكانية اعتماد ذات المعيار في تحديد أصحاب الأولوية في الاستفادة من جبر الضرر بالنسبة لصندوق الكرامة، أظن أن السؤال سابق لأوانه لأن الصندوق لم يركز بعد. ولا يمكن أن يطرح إلا متى أوفت الدولة بالتزاماتها في تمويل صندوق الكرامة. وأرى أنه يتوجب على الدول الصديقة لمسار العدالة الانتقالية في تمويل هذا الصندوق.
المفكرة: ألحظ أنكم تركّزون على دور الدول المانحة في ذلك. ويذكر هذا الخطاب بالنقاش السياسي الدائر بتونس بين من يرفضون مبدأ جبر ضرر الضحايا بدعوى أنه يثقل كاهل موزانة الدولة ومن يحاولون التملص من هذا الاعتراض بادعاء أن الدولة لن تكون مطالبة بأن تدفع بالصندوق أكثر من عشرة مليون دينار وهو المبلغ الذي تم اعتماده حاليا في قانون المالية العامة. ولكن، ألا ترى أن التعويل على التمويل الأجنبي يتعارض مع مبدأ واجب الدولة في تحمل مسؤوليتها عن أخطاء الماضي؟
بو شيبة: بالطبع، مساهمة الدولة في تعويض الضحايا يجسّد طبعا اعترافها بمسؤوليتها التاريخية عن الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان التي تمت باستعمال سلطتها واستهدفت الضحايا أي جانبا من مواطنيها. وكذلك الأمر بالنسبة لدافع الضرائب أي المواطن، فانا أرى أن استعمال أمواله في التعويض للضحايا فيه اعتراف أيضا بمسؤوليته التاريخية في معاناتهم من جراء التزامه الصمت إزاء هذه المعاناة. وهذا الاعتراف يشكل من وجهة نظرنا ضمانة لعدم تكرار الانتهاكات مستقبلا. وقد أصدرت الدولة مقررات تثبت حق الضحايا في التعويض وجبر الضرر وهي بالتالي ملزمة بالإيفاء بتعهداتها وترميم أوضاع الضحايا الذين هم في وضع هش. ويقتضي تاليا التفكير في آليات تضمن الحق وتراعي إمكانيات الدولة.
أما فيما يتعلق بالحديث عن مساهمات الدول الأجنبية، فإني أقدر أن العديد منها ساهمت في حماية النظام الاستبدادي وتتحمل تاليا جزءا من المسؤولية. وعليه، من واجبها أن تساهم في جبر الضرر وأن تساعد تونس في إنجاح تجربتها. ضِفْ إلى ذلك، أن العدالة الانتقالية أداة لحفظ السلم والأمن الدوليين باعتبارها آلية لفض النزاعات بأقل تكلفة.
المفكرة: نشرنا عددا من المقالات النقدية لعمل الهيئة في مجال المحاسبة. وقد حذّرنا فيها خصوصا من خطر إغفال مبادئ المحاكمة العدالة على مستوى أعمال التحقيق ومبدأ التقاضي على درجتين. أودّ أن أعرف رأيكم بما تمثلونه في هذا الخصوص.
بو شيبة: أنا أعتبر أن الحديث عن مثل هذه المبادئ يجوز في المحاكمات العادية أي في القضاء العادي. لكن في إطار مسار العدالة الانتقالية، الصكوك الدولية لحقوق الإنسان تؤكد على حق الضحايا في الحصول على انتصاف متاح وفعال وكاف وينطوي هذا الحق على التحقيق والإجراءات القضائية ومقاضاة المسؤولين من جرّاء انتهاكات حقوق الإنسان ومعاقبتهم. فالمسار القضائي في سياق العدالة الانتقالية فيه مزج بين قواعد المساءلة والعفو. وأعتقد تأسيسا عل هذا أن قانون العدالة الانتقالية التونسي بتوفيقه بين المبدأين ضمن قواعد المحاكمة العادلة.
المفكرة: أحالت هيئة الحقيقة العديد من الملفات على الدوائر المتخصصة من دون أبحاث مسبقة. فما هو موقفكم من ذلك؟
بو شيبة: بالنسبة للملفات التي أحيلت من دون بحث وتقصٍّ وبعضها كان كما ذكر – في الإعلام – ضد مجهول، فأنا أرى أن هذا الفعل يعكس تقصيرا من الهيئة في عملها. وهنا نأسف لكونه لم تتم الاستجابة لما كانت جمعيات الضحايا تطالب به من إحداث قطب قضائي متخصص في البحث يتولى الأبحاث والإحالات في القضايا التي لسبب أو لآخر لم تتولَّ الهيئة البحث فيها. لو تم ذلك لما حصل مثل هذا التقصير. هنا يجب أن نتمسك بحق الضحايا في الوصول للعدالة وعلى القضاء بالتالي إيجاد حل لتلك الملفات. ويجب هنا أن يتم تجاوز الإشكال الإجرائي، لأن الأهمّ في العدالة الانتقالية هو الحق في الانتصاف لا غيره من الشكليات. وفي تقديري، مسار الدوائر القضائية المتخصصة قادر على تحقيق العدالة ولدي ثقة في قدرة الدوائر المتخصصة على الوصول للحقيقة وإصدار إدانة ولو رمزية للذين نُسب إليهم الانتهاك.
المفكرة: صدرت مؤخرا العديد من المواقف السياسية يستشف منها توجه نحو سنّ قانون جديد للعدالة الانتقالية، قد يشكل العفو أحد أساساته.
بو شيبة: أولا المصالحة هي النهاية الحتمية لكل مسار عدالة انتقالية ناجح وناجز. ثانيا المصالحة لا تعني الإفلات من العقاب أو القفز على قانون العدالة الانتقالية. وعليه، أي مبادرة تشريعية في هذا الاتجاه ستكون مرفوضة بقطع النظر عمّن يقف وراءها. للأسف، اليوم يصرّح رئيس الحكومة بفشل مسار العدالة الانتقالية قبل اطلاعه على التقرير الختامي للهيئة. وهذا دليل عدم موضوعية تلك الدعوات. ونحن متمسكون بمسار العدالة الانتقالية كما نص عليها الدستور وقانونها . وألاحظ هنا أنه بعد صدور الأحكام من الدوائر القضائية، يمكن التفكير في طرح أي مبادرة مماثلة ولكن ليس قبل ذلك.
مقالات ذات صلة: