جريمة نهر الكلب


2023-06-30    |   

جريمة نهر الكلب

برزت مؤخرا قضيّة تعدّي شركة “كازينو وادي نهر الكلب” ش.م.ل. (Palms the Legend) على مجرى نهر الكلب، بناء على ترخيص صادر عن وزير الطاقة وليد فياض، وذلك بالتوازي مع فضيحة التراخيص الصادرة عن وزير الأشغال العامّة في سياق مسلسل الاعتداء على الأملاك العموميّة البحريّة. وفي التفاصيل، حصلت الشركة المذكورة على موافقة من وزير الطاقة تسمح لها ب “استعمال المساحة المتاخمة للأملاك العامة مؤقتاً، عبر تشييد ممر خشبي على الأملاك النهرية وفوق النهر بطول 50 متراً وعرض 25 متراً، خلال الفترة الممتدة من أول شهر حزيران حتى آخر شهر أيلول”، من دون أن يحدّد أيّ بدل مادي عن الإشغال. وما يزيد من هجانة التعدّي أن الترخيص صدر من دون إجراء دراسة تقييم أثر بيئي، بالرغم من تصنيف موقع مجرى نهر الكلب الكائن في وادي نهر الكلب من المواقع الطبيعية الخاضعة لحماية وزارة البيئة، بحسب القرار رقم 97/1998. وما أن انتشرت صور الإنشاءات على مواقع التواصل الاجتماعي حتى صرّح وزير الطاقة في حديث مع جريدة الأخبار عن شعوره “بالإحراج من حجم التّعدي على النهر” كون الشركة “لم تلتزم بما أذنت لها به، وبدلا من إنشاء ممرّ خشبيّ مؤقّت، قامت باستثمار ضخم وأنشأت مطعماً فوق النهر”، وعبّر عن نيّته بالرجوع عن الترخيص وأنه “يدرس كيفية اتخاذ قرار إزالة التعديات في حين أنهت الشركة توسيع المطعم وتكلّفت عليه”. 

بانتظار إنهاء الوزير دراسة كيفية الرجوع عن الترخيص، ما تزال الشركة تعلن عن حفلاتها لهذا الموسم على مواقع التواصل الاجتماعي. وقد وجّه وزير البيئة ناصر ياسين كتابا إلى وزير الطاقة والمياه​ أفاده بموجبه ب “ضرورة الوقف الفوري لهذه الأعمال وازالة التعديات والتقدم من وزارة البيئة بطلب تصنيف للمشروع المذكور وفق أحكام الباب الرابع من القانون 444\2002 (حماية البيئة) والمرسوم رقم 8633/2012 (أصول تقييم الأثر البيئي) خاصة أن مجرى النهر مصنّف كموقع طبيعي بموجب قرار وزارة البيئة 97/1/1998، لكي يصار إلى تحديد الدراسة البيئية اللازمة للمشروع وإعدادها من قبل مكتب استشاري متخصص ومراجعتها من قبل وزارة البيئة قبل البت بطلب الترخيص للمشروع”. 

ويجدر الذكر أن وزير الثقافة محمد مرتضى تقدم بتاريخ 30/6/2023 بإخبار مشفوع بشكوى إلى النيابة العامة المالية طالبا “فتح تحقيق قضائي بالمخالفات والتعديات في موقع نهر الكلب الأثري، ومحاسبة المعتدين أمام القضاء المختصّ وإزالة التعديات، وذلك لعدم التزامهم بأيّة معايير للحفاظ على المعالم الأثريّة والتاريخيّة وحجب الرؤية عنها”. يتأتى ذلك من كون موقع نهر الكلب قد تمّ تصنيفه بموجب المرسومين رقم 166 / ل.ر المؤرخ 7 نوفمبر 1933 ورقم 225 المؤرخ 28 سبتمبر 1934 في القائمة الإرشادية للمعالم التاريخية. كما تم إدراجه وفي عام 2005 في سجلّ ذاكرة العالم لدى منظمة اليونسكو. كما سجل سنة 1996 على اللائحة التمهيدية للتراث العالمي وتم تجديد هذا التسجيل سنة 2019. (مقال للمفكرة القانونية)

من المهمّ بمكان لفت النظر إلى مسائل عدة، أهمها المسائل التي تبقى حتى اللحظة خارج النقاش العام، وأبرزها أنه لم يكن لوزير الطاقة أصلا أي صلاحية بمنح الترخيص المذكور، تماما كما أنه لم يكن لوزير الأشغال العامة علي حميّة أي صلاحية بمنْح الموافقة بردم البحر في الدامور والناقورة. بكلمة أخرى، المسألة ليست مسألة مراعاة إجراءات الأثر البيئي أم لا (من دون استصغار أهميتها) إنما قبل كل شيء تجاوز وزراء صلاحياتهم في اتجاه إباحة التعدي على الأملاك العامة النهرية كما البحرية. 

1- القفز فوق صلاحيات الحكومة ووزارة البيئة

من الثابت أن وزير الطاقة قد منح الترخيص المذكور خارج صلاحياته، بعدما قفز فوق صلاحيات مجلس الوزراء ووزير البيئة. يتحصّل هذا الأمر من المعطيات والأحكام الآتية: 

  • أن نهر الكلب ومحيطه يعد حكما من الأملاك العمومية سندا للمادة 2 من من القرار رقم 144/1925 بشأن الأملاك العمومية والتي جاء فيها: “مجاري المياه من أي نوع كانت ضمن حدودها المعينة بخط ارتفاع مياهها الجارية في حالة امتلائها قبل فيضانها … كامل ضفاف مجاري المياه أي القطعة من الأرض الكائنة على طول مجاريها والتي تمكن من السهر عليها وتنظيفها والمحافظة عليها”.
  • أنه يكون لمجلس الوزراء وحده حق منح تراخيص لاستِعمال الأملاك العامة النهرية وتاليا لاستِعمال  نهر الكلب ومحيطه لأيّ وحهة كانتْ، من دون أيّ تمييز بحسب نوع المشروع أو حجمه، بما يناقض ما أدلى به الوزير في معرض ادعاء صلاحيته بمنح تراخيص بالإشغال المؤقت في حال كانت المشاريع غير ضخمة (حديثه إلى جريدة الأخبار المذكور أعلاه). وهذا ما يتحصّل من المادة 16 من القرار 144 كما تم تعديلها بموجب القانون رقم 192 تاريخ 16/10/2020 “القانون التعديلي لقانون المياه” والذي نصّ في المادة 103 منه على استبدال عبارة “قرار خاص يصدر عن رئيس الدولة” بعبارة “مرسوم يتخذ في مجلس الوزراء بناء على اقتراح الوزير”، وذلك أينما وردت في القرار رقم 144.
  • أكدّت المادة 4 من القرار رقم 320 تاريخ 26/05/1926 “المحافظة على مياه الأملاك العمومية واستعمالها” والمعدّلة بموجب قانون المياه التعديلي رقم 192/2020 أنّ رخص الإشغال مؤقت تعطى بموجب مرسوم يتخذ في مجلس الوزراء بناء على اقتراح الوزير، وبخاصّة فيما يتعلّق ب”انشاء ابنية ليس لها صفة دائمة غايتها استعمال مياه الأملاك العمومية”.

وهذا ما يتأكد من مرسوم “تنظيم وزارة الموارد المائية والكهربائية وتحديد ملاكها”، الذي حدّد صلاحيات المصلحة الفنيّة والمصلحة الإداريّة في مديرية مراقبة الامتيازات في الوزارة، في درس طلبات الرخص والامتيازات المائية المقدمة، وإجراء رقابة على الإنشاءات المائية، من دون أن يكون لأي مرجع داخل الوزارة منح أي ترخيص في هذا الشأن. 

وهذا ما يتأكّد أيضا في التراخيص الممنوحة في السنوات الأخيرة لاستعمال الأملاك العامة النهرية أو إشغالها، ومنها الترخيص بإشغال أقسام من الاملاك العمومية النهرية (مجرى نهر بيصور وقناة ري) بموجب المرسوم المتخذ في مجلس الوزراء رقم 15907/2005، وأيضاً، الترخيص بإشغال قسم من الأملاك العمومية النهرية (مجرى مياه نهر الاسطوان) بموجب المرسوم المتخذ في مجلس الوزراء رقم 10550/2013. 

  • يضاف إلى ذلك أنه جرى تصنيف الموقع المعروف بمجرى نهر الكلب ضمن المواقع الطبيعية سندا للمادة 3 من القرار رقم 97 تاريخ 02/07/1998. ومؤدى ذلك أنه يعود لوزارة البيئة بالتنسيق مع مديرية التنظيم المدني، تحديد “شروط الترخيص لأية إنشاءات أو مشاريع في الموقع المذكور ضمن إطار تدابير الحماية التي تراها الوزارة ضرورية وللوزارة أن تتأكد من توفر الشروط البيئية في هذه الإنشاءات والمشاريع, وبالتالي الطلب من المراجع المختصة رفض إعطاء التراخيص أو إقفال الإنشاءات والمشاريع القائمة عند عدم توفر تلك الشروط.”

وعليه، يكون وزير الطاقة والمياه قد أصدر ترخيصا خارج صلاحياته القانونية، وعلى نحو يخالف عنوة القوانين المعمول بها، مما يرتّب عليه مسؤوليات قانونية تضاف إلى المسؤوليات الناجمة عن إهمال ممارسة الرقابة على كيفية تنفيذ الترخيص.    

بقي أن نذكر بالنظر إلى أهميتها بالتوصيّة الصادرة عن لجنة الأشغال العامة والنقل والطاقة والمياه إلى وزارة الطاقة والمياه بعدم إعطاء أيّ تراخيص أو قرارات إشغال للأملاك النهرية والعمل على مشروع قانون متعلق بإشغال الأملاك النهرية، كما التوصية إلى وزارة الداخلية والبلديات بمؤازرة وزارة الطاقة والمياه بإزالة التعديات على الأملاك النهرية ومنع البلديات من التعدي أو تشكيل الغطاء للمعتدي.

2- أي مسؤولية على عاتق وزير الطاقة والمياه؟

يترتب على وزير الطاقة والمياه مسؤوليات عدة، جزائية ومدنية وسياسية، وذلك بنتيجة إصداره ترخيصا خارجا عن صلاحياته واختصاصه، فضلا عن إهماله مراقبة كيفية تنفيذ الأعمال على الموقع. 

فعلى الصعيد الجزائي، يحتمل انعقاد مسؤولية الوزير على خلفية ارتكابه الأفعال الآتية: (1) اغتصاب السلطة سندا للمادة 306 من قانون العقوبات التي تعاقب بسبع سنوات اعتقال مؤقت على الأقل. (2) أفعال من شأنها أن تقع تحت تعريف الإخلال في استخدام السلطة أو استغلالها سندا للفصل الأوّل من الباب الثالث وبخاصة المواد 363 (الإضرار بالأملاك العموميّة) و371 (صرف نفوذ) و373 (إهمال وظيفي) من قانون العقوبات و(3) الاشتراك في الاعتداء على الأملاك العامة النهرية وارتكاب المخالفات عليها، مما يعرّضه لعقوبات تصل إلى سنة حبس بحسب المادة 737 من قانون العقوبات.

وعلى الصعيد المدني، يكون الوزير مسؤولا بالتعويض على الدولة عن مجمل الأضرار الناتجة عن إصداره ترخيصا خارج صلاحياته، والأهم عن إهماله ممارسة الرقابة اللازمة على حسن تنفيذ الترخيص من دون تجاوز، وأخيرا عن تأخره في وقف العمل في الترخيص بعد انفضاح التجاوزات الحاصلة بمعرض العمل به. 

وعلى الصعيد السياسي، يأخذ استيلاء الوزير على صلاحيات الحكومة بعدا إضافيا بفعل رفضه المشاركة في جلسات مجلس الوزراء، بما يمهد لتحويل الوزارات إلى إقطاعات ويؤدي إلى مزيد من تفتيت السلطة.   

3- أي مسؤولية على عاتق الجهة المستفيدة من الإنشاءات؟

من الثابت أن الجهة المستفيدة من الإنشاءات قامت بها بعد استحصالها على ترخيص من مرجع غير صالح مما يجعله بمثابة غير الموجود، وأنها بأية حال خالفت شروط الترخيص. وبنتيجة ذلك، يترتب عليها المسؤوليات القانونية الآتية: 

  • إعادة الحال إلى ما كانت عليه 

أول المفاعيل التي تترتب على المستفيد من الترخيص، هو إعادة الحال إلى ما كانت عليه وإصلاح الأضرار الناجمة عن أعماله لأي جهة كانت. وهذا ما يتحصل من المادة 52 من قانون حماية البيئة رقم 444/2002 التي نصّت على أنه يتعين على كل من يتسبب بضرر بيئي بفعل أعمال منجزة منه من دون تصريح أو بصورة مخالفة للأحكام القانونية والنظامية النافذة، إلزامه بإزالة الضرر، على نفقته الخاصة. وهذا أيضا ما ذهبت إليه المادة 60 من القرار رقم 320 تاريخ 26/05/1926 “المحافظة على مياه الأملاك العمومية واستعمالها” التي نصّت على وجوب نزع الأشغال أو الإنشاءات من دون مهلة على نفقة مرتكب المخالفة بهمة رئيس الدائرة المكلفة القيام بالمحافظة على الأملاك العمومية الجارية فيها المخالفة، فضلا عن تكليفه بدفع نفقات التصليح في حال تسببه بأي ضرر للأملاك العمومية النهرية أو توابعها.

  • التعويض 

نصّ قانون البيئة رقم 444/2002 في المادة 51 منه على أن “كل انتهاك للبيئة يلحق ضررا بالأشخاص أو بالبيئة يسأل فاعله بالتعويض المتوجب. وللدولة، ممثلة بوزارة البيئة، المطالبة بالتعويضات الخاصة الناتجة عن الأضرار اللاحقة بالبيئة.” 

  • العقوبات الجزائيّة

نصّت المادة 90 من القانون التعديلي لقانون المياه رقم 192/2020 على معاقبة “كلّ من أنشأ أو عدل أو استثمر منشأة أو قام بأعمال أو نشاطات ضمنها دون الاستحصال على ترخيص بالأعمال” بالحبس حتى 10 أيام وبغرامة تصل حتى 22 ضعف الحد الادنى للأجور. كما تعاقب المادة 91 من القانون المذكور بعقوبة حبس تصل حتى 3 سنوات وغرامة تصل إلى 220 مرة الحدّ الأدنى للأجور في حال ثبت “إلقاء أو تسييل أو رمي أو سكب مادة أو مواد تضر بالمياه” أو “رمي وتفريغ أو ترك نفايات مهما كانت طبيعتها” في مجرى النهر أو ضفافه، سواء حصل هذا الأمر “عن قصد أو عن غير قصد”.

هذا فضلا عن أن الاعتداء على الأملاك العامة النهرية يعرض المرتكب لعقوبات تصل إلى سنة حبس بحسب المواد 737 و 738 من قانون العقوبات، وأن القيام بأعمال من دون إجراء تقييم للأثر البيئي يعرضه لعقوبة تصل هي الأخرى إلى سنة حبس سندا للمادة 58 من قانون البيئة.  

انشر المقال

متوفر من خلال:

أملاك عامة ، لبنان ، مقالات



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني