أصدرت مديرة مركز التراث العالمي في اليونسكو دة. مشتلد رسلر في 3 نيسان 2020 رسالة مفتوحة أكدت فيها على أهمية الموقع الأثري في نهر الكلب ونبّهت إلى أن المشروع الذي يتم بناؤه على مقربة من الموقع من شأنه أن يسيئ إلى قيمته الأثرية وقد يؤدي إلى منع تسجيله على لائحة التراث العالمي. كما طالبت الحكومة اللبنانية بالتدخل السريع لاتخاذ التدابير اللازمة من أجل حماية الموقع والحفاظ على سلامته.
ما هي قصة هذا المشروع؟ وكيف توصلنا الى ما نحن عليه الآن؟ وما هي العبر التي يمكن استخلاصها بالنسبة لكيفية المحافظة على مواقعنا الاثرية وحماية تراثنا الثقافي والطبيعي؟
يقع الموقع الأثري على بعد 15 كلم شمال بيروت. وقد تم تصنيفه بموجب المرسومين رقم 166 / ل.ر المؤرخ 7 نوفمبر 1933 ورقم 225 المؤرخ 28 سبتمبر 1934 في القائمة الإرشادية للمعالم التاريخية. وفي عام 2005، تمّ إدراجه في سجلّ ذاكرة العالم لدى منظمة اليونسكو. كما سجل سنة 1996 على اللائحة التمهيدية للتراث العالمي وتم تجديد هذا التسجيل سنة 2019.
يعتبر رأس نهر الكلب منذ أقدم العصور عقبة طبيعية على الساحل اللبناني وهو يشكل نقطة استراتيجية قام الغزاة عبر التاريخ بتسجيل سيطرتهم عليها من خلال النقوش التي نحتوها على صخوره. ويشكل هذا الموقع مكانا فريدا من نوعه يحتفظ على مجموعة من العناصر الكتابية والأيقونية وعلى نقوش ولوحات تذكارية كتبت بالهيروغليفية والمسمارية والأبجدية. وتشهد هذه النقوش على تتابع الحضارات التي مرت في هذه البقعة من الأرض بدءا بالفراعنة المصريين والآشوريين والبابليين الجدد والإغريق والرومان والمماليك. واستمرّ هذا التقليد في القرنين التاسع عشر والعشرين عندما تمّ وضع النقوش التي تشهد على الأحداث التي عرفها لبنان في تاريخه الحديث.
وخلال خريف سنة 2017، تقدم وقف مار يوسف المرج التابع للرهبنة البلدية المارونية بطلب للمجلس الأعلى للتنظيم المدني من أجل بناء مركز ثقافي ترفيهي على العقار رقم 98 من منطقة زوق الخراب العقارية الواقع على مقربة مباشرة من موقع نهر الكلب الأثري.
وبعد دراسة الطلب تبين للمجلس الأعلى الآتي:
1- بموجب المرسوم رقم 14313 الصادر سنة 1970، يقع العقار ضمن المنطقة الإرتفاقية A1 التي تسمح بمعدلات استثمار مرتفعة نسبيا (30% استثمار سطحي و90% استثمار عام) لا تتناسب مع قرب العقار من موقع أثرى أساسي وعلى مشارف وادي نهر الكلب الطبيعي.
2- بادر المجلس الأعلى للتنظيم المدني سنة 1997 الى إقرار تعديل النظام من أجل تأمين الحماية اللازمة للموقع الاثري ولوادي نهر الكلب. فقد خفّض معدّليْ الإستثمار السطحي والعام إلى 1،5% بدلا من 30% و90% ورفع هذا القرار إلى مجلس الوزراء لإقراره بمرسوم.
3- بعد سقوط قرار التعديل هذا بسبب امتناع مجلس الوزراء عن إصدار المرسوم ضمن المهلة القانونية (3 سنوات)، عاد المجلس الأعلى للتنظيم المدني في سنة 2014 لتأكيد قراره السابق وإرساله من جديد إلى مجلس الوزراء من أجل إقراره. وقد امتنع هذا الأخير مجدداً عن إصدار المرسوم المعدّل ضمن المهل القانونية. وقد انتهى مجلس شورى الدولة إلى إبطال قرار التنظيم المدني على خلفية انقضاء مدة ثلاث سنوات منذ صدوره من دون إصداره بمرسوم.
4- بعد استلامه الطلب المقدّم من الرهبنة البلدية المارونية خريف سنة 2017، أحال المجلس الأعلى للتنظيم المدني هذا الطلب إلى المديرية العامة للآثار لإبداء الرأي بالمشروع. مع العلم أن قانون الآثارات في لبنان الذي لم يعدل منذ سنة 1933 (قرار المفوض السامي رقم 166/ ل.ر) لم يحدد أية منطقة حماية للمواقع الأثرية. وقد جرت عدة محاولات لتحديث هذا القانون منذ سنة 2000 لكنها اصطدمت دائما بتقاعس المسؤولين ورضوخهم لضغوط الملّاكين العقاريين. وقد حدّد العرف اعتماد مسافة لا تتعدى الخمسين مترا من حدود المواقع الأثرية كمنطقة عازلة يمنع فيها البناء.
5- يعطي القانون لمديرية الآثار الحق في تفحص المشاريع الواقعة على مقربة من المواقع الأثرية للتأكد من أنها لا تضر بهذه المواقع. وينص القانون أنه يحقّ لمديرية الآثار "أن تعمل جهدها في مناقشة حبية مع صاحب الملك لتحوير المشروع". وإذا لم يكن الاتفاق ممكناً، فلا يحقّ لمديرية الآثار أن تمانع في إجراء الأشغال إلا من خلال تسجيل العقار على لائحة الجرد العام ودفع التعويضات القانونية. وبعدما أحيل إليها مشروع المركز الثقافي على مقربة من آثار نهر الكلب، قامت مديرية الآثار بالتفاوض مع أصحاب المشروع وإذ لم يكن بإمكانها دفع كلفة الاستملاك، اكتفت بإدخال بعض التعديلات وأحالت المشروع المعدل إلى التنظيم المدني مرفقا بموافقتها عليه في الكتاب رقم 4753 تاريخ 9 تشرين الأول 2017.
6- ومن جهة أخرى، أرسل المجلس الأعلى للتنظيم المدني الطلب المقدم من الرهبنة البلدية المارونية إلى وزارة البيئة لإبداء الرأي، فأصدرت الوزارة في 2 تموز2018 القرار رقم 978 الذي يتضمن موافقتها غير المشروطة على المشروع.
7- بعدما أخفقت كل الجهود الرامية إلى تعديل نظام البناء في المنطقة بسبب امتناع مجلس الوزراء عن إصدار المراسيم الكفيلة بحماية الموقع، وبعدما أصدرت كل من المديرية العامة للآثار ووزارة البيئة موافقتهما على الطلب المقدم من الرهبنة البلدية المارونية، لم يعد هناك أية سبل قانونية لرفض المشروع كونه قد استحصل على كل الموافقات من المراجع المختصة وذلك رغم القناعة المطلقة لدى عدد من أعضاء المجلس الأعلى للتنظيم المدني بأن هذا المشروع سيكون له أثر أكيد على الموقع الأثري. وقد سجل المشروع في نقابة المهندسين في طرابلس واستحصل على رخصة بناء من بلدية زوق الخراب في خريف سنة 2018. وأعلن من ثمّ أن المشروع هو في الحقيقة مركز سياسي لحزب التيار الوطني الحر.
8- وفي شهر تشرين 2018، وبصفتي كنت عضوا منتخبا في هيئة التراث العالمي لمنظمة اليونسكو لعدة سنوات، أرسلت كتابا إلى مركز التراث العالمي في المنظمة طلبت فيه من المركز إبداء الرأي بالمشروع كون الموقع الأثري مسجلا على اللائحة التمهيدية للتراث العالمي.
وبدورها، وبعدما بدأت أعمال الحفريات على الموقع وتبين حجم الضرر الذي يحدثه المشروع، قامت جمعية إيكوموس لبنان بإعداد ملف كامل أرسلته إلى منظمة ايكوموس إنترناشنل وإلى منظمة اليونسكو طالبة التدخل لدى الحكومة اللبنانية لاتخاذ التدابير الكفيلة بحماية الموقع. وفي إثر ذلك، أرسل الأمين العام لمنظمة إيكوموس إنترناشنال د. بيتر فلبس في شهر آذار 2020 كتابا إلى وزير الثقافة اللبنانية يعرب فيه عن قلقه لما قد يصيب الموقع الأثري من أذى ويطلب منه التدخل لحماية الموقع من الضرر الذي يحدثه المشروع. وتدخلت بعد ذلك مديرة مركز التراث العالمي في اليونسكو لتقدم نفس الطلب للسلطات اللبنانية.
أخيرا، إذ لا يمكن لأحد أن يتكهن بمصير هذا المشروع في الظروف الحالية التي يمر بها لبنان، لا بد من التأكيد أن ما حصل في هذا الموقع ليس استثناء مؤسفا بل أنه قاعدة يمكن أن تتكرر في كافة المواقع الأثرية من شمال لبنان إلى جنوبه.
كما أنه يشكّل مثالا حيا لما سيصيب مجمل تراثنا الثقافي والطبيعي إذا لم يتم تعديل أنظمة البناء وقانون الآثارات بغية تامين حماية حقيقية للمواقع الأثرية والتراث المبني والطبيعي وإذا بقيت السلطات والقوى السياسية تتقاسم المغانم وتغلّب المصالح الخاصة على المصلحة العامة.