أصدر رئيس الجمهورية قيس سعيد أمرا يقضي بتمديد حالة الطوارئ، المطبقة منذ نوفمبر 2015، بثلاثة أشهر إضافية. ورغم الإجماع على عدم دستورية الأمر المنظم لحالة الطوارئ، الذي يعود لسنة 1978، لا يزال مشروع القانون الذي تقدمت به رئاسة الجمهورية خلال العهدة النيابية السابقة لتعويضه، والذي أنهت لجنة الحقوق والحريات النظر فيه منذ شهر ماي 2019، في انتظار إحالته على الجلسة العامة. وعوض طلب استعجال النظر فيه، كشف رئيس الجمهورية عن طلبه من مجلس نواب الشعب تنقيح قانون مكافحة الإرهاب لكي يستوعب أهم الصلاحيات التي تتيحها حالة الطوارئ، وهي الإقامة الجبرية، لتنتفي بذلك الحاجة إلى إعلان حالة الطوارئ.
منذ الهجوم الإرهابي على حافلة الأمن الرئاسي في شارع محمد الخامس، في نوفمبر 2015، لم ينقطع تطبيق حالة الطوارئ في تونس. وإذا احتسبنا التمديد الأخير بثلاثة أشهر، فإن حالة الطوارئ، التي يجب أن تكون استثنائية ومحدودة في الزمن، قد امتدت لأربع سنوات ونصف على الأقل. هذا التمديد هو الثاني منذ تولي قيس سعيد رئاسة الجمهورية، بعدما فعله سابقا في نهاية سنة 2019، بقراره مواصلة العمل بحالة الطوارئ لشهر إضافي بعد انقضاء الأشهر الأربعة التي أعلن عنها القائم بأعمال رئيس الجمهورية حينها محمد بالناصر. وقد برر سعيّد في المرة الأولى تمديده حالة الطوارئ بمقتضيات الأمن، واصفا وضعه عند إمضاء الأمر "بمن يقبض على الجمر".
ويأتي هذا التمديد الثاني رغم تأكيد قيس سعيد، خلال الحملة الانتخابية، وحتى في الحوار الذي أجرته معه القناة الوطنية الأولى يوم 30 جانفي الجاري بعد مضي 99 يوما من توليه رئاسة الجمهورية، على عدم دستورية الإطار القانوني الحالي لحالة الطوارئ، وهو الأمر عدد 50 لسنة 1978. تمّت صياغة هذا الأمر على عجل، في نفس يوم إعلان حالة الطوارئ بمناسبة أول إضراب عام تشهده البلاد منذ الاستقلال. إلا أنه يتعارض اليوم بشكل صارخ وواضح مع دستور 2014، سواء في الشكل (بما أن الحد من الحقوق والحريات يجب أن يكون بقانون، حسب الفصلين 49 و65 من الدستور)، أو في المضمون، نظرا لإطلاقه يد وزارة الداخلية والولاة (المحافظين) في غياب ضمانات احترام الحقوق والحريات. وقد أقرت المحكمة الإدارية هذا الموقف في قرارات عديدة، تم الطعن فيها بعدم شرعية الإجراءات المتخذة بالاستناد إلى حالة الطوارئ، وبالأخص قرارات الإقامة الجبرية.
مشروع قانون أساسي لتنظيم حالة الطوارئ ينتظر التصويت عليه منذ تسعة أشهر
أمام الإجماع على عدم دستورية أمر 1978، وإلغاء المحكمة الإدارية لعدّة قرارات اتخذت بناء عليه، تقدمت رئاسة الجمهورية في 30 نوفمبر 2018 بمشروع قانون أساسي لتنظيم حالة الطوارئ، مع طلب استعجال النظر فيه. أثار مشروع القانون جدلا كبيرا. فقد اعتبره المجتمع المدني والأخصائيون وحتى معظم نواب لجنة الحقوق والحريات مخالفا للدستور واستنساخا لفلسفة أمر 1978، القائمة على إطلاق يد رئيس الجمهورية في إعلان وتمديد حالة الطوارئ وأيادي كل من وزير الداخلية والولاة في تطبيقها.
فقد نصّ مشروع القانون في صيغته الأولى على إعلان حالة الطوارئ لمدة ستة أشهر، قابلة للتمديد بثلاثة أشهر إضافية، وهي مدة طويلة جدا ولا تتناسب مع الطابع الاستثنائي والوقتي للإجراء وضرورة الرجوع إلى الحالة العادية. كما منح مشروع القانون صلاحيات واسعة جدا لوزير الداخلية والوالي، تحدّ من حقوق وحريات عديدة، كحرية التنقل وحرية اختيار مقر الإقامة، والحق في حماية الحياة الخاصة وسرية المراسلات والاتصالات، وحرية الاجتماع وحرية الجمعيات. صلاحيات واسعة لدى السلطة التنفيذية لا تقابلها ضمانات قضائية كفيلة بتجنب التعسف فيها.
ورغم ضغط رئيس الجمهورية الراحل الباجي قائد السبسي، وتهديده بعدم تمديد حالة الطوارئ إذا لم يصادق مجلس نواب الشعب على مشروع القانون، أخذت لجنة الحقوق والحريات وقتها لمناقشته، وأدخلت عليه تغييرات عديدة. فربطت حالة الطوارئ بضوابط الفصل 49 من الدستور، الذي يشترط للحد من الحقوق والحريات عدم المساس من جوهر الحق، وأن يكون ذلك ضروريا في دولة مدنية ديمقراطية لتحقيق أهداف مذكورة حصرا (الدفاع الوطني، الأمن العام، الصحة العامة، حقوق الغير، الآداب العامة)، مع احترام التناسب بين الضوابط وموجباتها. كما غيرت لجنة الحقوق والحريات مدة حالة الطوارئ من ستة أشهر قابلة للتجديد بثلاثة إلى شهر واحد قابل للتجديد مرة واحدة بمثله.
وبالإضافة إلى حذف صلاحيتي «تنظيم إقامة الأشخاص» و «تحجير الإقامة على كل شخص يتعمد عرقلة نشاط السلط العمومية» من قائمة الإجراءات التي يمكن للوالي اتخاذها، ضيقت اللجنة من مجال بعض الإجراءات الأخرى المنتهكة للحقوق والحريات، وخاصة الإقامة الجبرية. فقرار وضع شخص في الإقامة الجبرية، الذي يتخذه وزير الداخلية، يجب أن يكون معللا، مع إعلام وكيل الجمهورية به في أجل لا يتجاوز 72 ساعة، ولا يجب أن يحول دون حق الشخص المعني في التنقل داخل الدائرة البلدية الراجع إليها بالنظر "لغرض الدراسة أو العمل أو الفحص الطبي". كما تمسك السلط الأمنية وجوبا دفترا مرقما ومؤشرا عليه يتضمن كل قرارات الإخضاع إلى الإقامة الجبرية وتفاصيلها ويخضع لمراقبة وكيل الجمهورية.
أرفقت اللجنة نفس ضمانة الدفتر الإداري الخاضع لرقابة وكيل الجمهورية، بإجراء «الرقابة الوقائية»، الذي يفرض على ضحيته الحضور يوميا لدى السلط الأمنية المحلية، وضبطته بمرتين في اليوم عوضا عن ثلاثة. أما بالنسبة لإمكانية تعليق نشاط الجمعيات التي «ثبتت مساهمتها أو مشاركتها خلال حالة الطوارئ في أعمال مخلة بالأمن والنظام العام أو يمثل نشاطها عرقلة لعمل السلط العمومية»، فقد أحال النواب إلى الاجراءات المعمول بها في التشريع المنظم للجمعيات، التي تشترط قرارا قضائيا، عوضا عن قرار إداري من رئيس الإدارة المكلفة بالعلاقة مع الجمعيات كما ورد في الصيغة الأصلية.
كما استحدثت لجنة الحقوق والحريات اجراءات استعجالية بآجال مختصرة للطعن في قرارات وزير الداخلية والولاة المتخذة في إطار حالة الطوارئ، إذ يتم الطعن في القرار في أجل ثلاثة أيام من الإعلام به، وتنظر المحكمة الإدارية الابتدائية المختصة ترابيا في شرعيته أيضا في أجل ثلاثة أيام، وكذلك الأمر بالنسبة إلى الاستئناف.
صحيح أن الصيغة التي انتهت إليها لجنة الحقوق والحريات أفضل بكثير من الصيغة الأصلية لمشروع القانون. لكن تعديلاتها تبقى غير كافية لضمان حماية مثلى للحقوق والحريات. فقد اكتفت اللجنة في أحيان كثيرة بحلول وسطى. إذ كان بالإمكان إشراك البرلمان في قرار التمديد بحالة الطوارئ، عوض الاكتفاء بتوجيه تقرير من رئيس الجمهورية إلى رئيس مجلس نواب الشعب. كما حافظت اللجنة على معظم الإجراءات الأمنية، مع إضافة بعض الضمانات أو الإحالات إلى قوانين أخرى. حتى إعلام وكيل الجمهورية لا يعدّ ضمانة كافية، ما دام هذا الأخير لا زال لا يتمتع بنفس استقلالية القضاء الجالس.
وإذ أفضى النقاش إلى حذف الفصل المنظم للإقامة الجبرية، عادت اللجنة عن موقفها بضغط من ممثلي وزارة الداخلية الذين اعتبروه «فصلا جوهريا»، سيترتب على إلغائه «صعوبات جمة»، لتكتفي اللجنة بالتنصيص على الضمانات المذكورة أعلاه. وكان إجراء الإقامة الجبرية أثار الكثير من الجدل نظرا لاستسهال اللجوء إليه من قبل السلطات الأمنية، باسم حالة الطوارئ. فهل يكون إدماجه ضمن التدابير العادية حلاّ للخروج من حالة الطوارئ؟
مقترح خطير لإدراج صلاحيات حالة الطوارئ ضمن التدابير العادية
رغم أن مشروع القانون الجديد المنظم لحالة الطوارئ جاهز للتصويت عليه في الجلسة العامة منذ بداية شهر ماي 2019، انتهت المدة البرلمانية الفارطة، ومضت ثلاثة أشهر من المدة البرلمانية الجديدة دون أن تتم برمجته في الجلسة العامة. وكأن العمل التشريعي في الجلسة العامة معطّل إلى حين تشكيل الحكومة، باستثناء المصادقة على قوانين المالية والقروض أو أن عمل اللجان السابقة لا يستحق إحالته على الجلسة العامة من قبل البرلمان الحالي، مثلما حصل بالنسبة إلى مشروع قانون حقوق المرضى والمسؤولية الصحية.
وعوض أن يطلب استعجال النظر في مشروع القانون، بصفته جهة المبادرة حتى وإن كان سلفه هو الذي تقدم به، كشف رئيس الجمهورية قيس سعيّد عن «طلبه من المجلس التشريعي» إضافة فقرة في أحد فصول قانون مكافحة الإرهاب، تتيح لوزير الداخلية، بإذن من وكيل الجمهورية، وضع الأشخاص في الإقامة الجبرية. برر سعيّد عدم تقديمه لمبادرة تشريعية بوجوب مرورها عبر مجلس الوزراء، في حين أن الحكومة الحالية هي حكومة تصريف أعمال، دون أن يفسّر ذلك أو يبيّن طريقة تقديم طلبه ذاك إلى البرلمان. الأهم، أن رئيس الجمهورية قدّم فكرته على أنها السبيل للخروج من حالة الطوارئ، لأن الإقامة الجبرية هي الصلاحية الوحيدة التي يتم تطبيقها من أمر 1978، ولم يناقش محاوره خطورة الفكرة أو المنطق الذي تنبني عليه، ولم ينتبها لوجود مشروع قانون يؤطر حالة الطوارئ في انتظار المصادقة عليه.
هذا المنطق ليس جديدا. فقد صادق البرلمان الفرنسي، في 2017، على مشروع قانون لدعم مكافحة الارهاب والأمن الداخلي يتضمن جل إجراءات حالة الطوارئ. وتم الترويج لهذا القانون كحلّ للخروج من حالة الطوارئ التي وقع إعلانها منذ الهجومات الإرهابية التي استهدفت باريس في نوفمبر 2015 وتم تمديدها لعدة مرات (بقوانين تمر عبر مصادقة البرلمان). وقد أثارت هذه الخطوة انتقادات واسعة، فهي تسمح بتطبيق حالة الطوارئ، بكل ما تحمله من تضييق على الحريات، بطريقة دائمة ودون الحاجة إلى إعلانها أو التمديد فيها.
صحيح أن قانون مكافحة الارهاب وغسيل الأموال هو مبدئيا محدود المجال، لكن الواقع يثبت أن التعسف في تأويل النصوص وفي استعمال الصلاحيات وارد. كما أن إدراج الصلاحيات الاستثنائية لحالة الطوارئ صلب التدابير الدائمة يكشف عن سيادة نفس المنطق الذي يقبل التضحية بهامش أكبر من الحرية في سبيل حماية الأمن، ويجعل حماية الأمن تمر عبر منح مزيد من الصلاحيات للسلطات الأمنية، ويفضّل تطبيق حالة الطوارئ في الواقع دون الإعلان عنها، كأن أسوأ ما في حالة الطوارئ ليس خطرها على الحقوق والحريات، وإنما الصورة السيئة التي تعكسها عن البلاد وكلفتها على السياحة والاقتصاد.
لا ندري إن كان مقترح رئيس الجمهورية سيقدّم رسميا لتتم مناقشته. لكن هذه الفكرة لا يجب أن تمرّ دون بيان خطورتها، والتمديد مرة أخرى في حالة الطوارئ وفق أمر 1978 المخالف للدستور لا يجب أن يصبح حدثا عابرا. في الحالتين، هو تطبيع مع حالة الطوارئ التي لم تعد، في الواقع، استثناء محدودا في الزمن، بعد مرور أكثر من أربع سنوات منذ إعلانها. استمرار حالة الطوارئ لمدة طويلة هو إحدى ميزات الأنظمة الدكتاتورية، فهو يبقى أداة لدى أجهزة السلطة لقمع معارضيها، حتى إن لم يقع ذلك إلى حد الآن في التجربة الديمقراطية التونسية.
إضافة إلى تقاعس مجلس نواب الشعب عن التصويت على مشروع القانون من جهة، وعدم اهتمام رئيس الجمهورية الجديد بذلك من جهة أخرى، تشكو هذه التجربة الديمقراطية من علة أخرى تكمن في معضلة استمرارية عمل المؤسسات، إذ لا يعترف المنتخب حديثا بما شرع فيه سابقوه، دون أن ننسى حالة العطل التشريعي التي تسود البلاد في انتظار تشكيل الحكومة.
ملاحظات حول مشروع قانون تنظيم حالة الطوارئ في تونس: هكذا علق مشروع القانون دولة القانون
رفع حالة الطوارئ في تونس
تونس في حالة طوارئ: الخوف من الارهاب و…على الحرية