العاملات الأثيوبيات اللواتي يرغبن بالمغادرة يسكن في موقف للسيارات قرب سفارة بلادهن
“مالت” عاملة منزلية أثيوبية تعمل لدى عائلة لبنانية في الأرياف. وفيما كانت تتسوق لتأمين حاجات المنزل، التقت بعاملة أثيوبية أخرى “زبيبة”. “عم تقبضي دولار؟” سألتها. تلفتت “مالت” حولها لتتأكّد أنّ أحدا لا يراها، ورفعت حاجبيها نفياً. فعلاً مع ارتفاع سعر الدولار مقابل الليرة اللبنانية، تحوّل راتبها إلى 300 ألف ليرة لبنانية، ع سعر صرف الدولار 1500 ليرة.
وضعت العاملة الأثيوبية ورقة بيضاء صغيرة في يدها وقالت لها “احكيني واتسآب ع هالرقم”. في وقت متأخر من ذلك اليوم، وحين خلت “مالت” بنفسها في “غرفتها” التي هي عبارة عن شرفة مقفلة بالألمينيوم والزجاج، وعلى سرير حديدي نقّال اشترته لها العائلة قبل خمس سنوات، أرسلت للعاملة التي التقتها في السوق: “صار فيي إحكيكي”. وبدأت القصة.
سألتها زبيبة إن كانت تريد تغيير حياتها للأفضل “300 ألف ما بيسوو 30 دولار هلّأ، عم تضحك عليكي العيلة”، قالت لها. وأخبرتها أنه بإمكانها إرسالها إلى دبي براتب لا يقل عن 330 دولار “ويمكن يعطوك 400 دولار لأنك بتحكي عربي وعندك خبرة”. واستأذنتها منح رقمها لرجل أثيوبي يعمل في الإمارات. وأنهت محادثتها برسالة تقول “ما تخافي صرت باعتة خمس بنات من هون”.
وفعلاً لم تمرّ عشر دقائق حتى راسل الرجل “مالت”. لم يزد على معلومات زبيبة الكثير سوى طمأنة “مالت” وحثها على عدم الخوف “بترتاحي كتير هون، في كتير مصاري”.
صباحاً، لم تخبر “مالت” العائلة بشيء. سبق وأخبرها ابن بلدها أن تنتظر تأشيرة دخولها إلى دبي، “بكرا الضهر بتكون عندك”، قال لها وأنهى الحديث. وفعلاً ظهر اليوم التالي، وصلت صورة الفيزا على هاتفها: “خفت بالأول كتير”، قالت للعاملة الأثيوبية “أمّوش”، صديقتها، التي ترعى سيدة مسنّة من الجيران. أمّوش، المحنّكة التي تفهم في كل شيء والذكية، كما تصفها صاحبة العمل، شجّعت “مالت”: “شو يعني 30 دولار، روحي وما تخافي، لازم تروحي”. ووفق الخطة التي وضعتاها معاً سارت الأمور.
“بدي أترك الشغل مدام”. لم تكذب “مالت” وقالت للعائلة التي خدمتها طوال 5 سنوات بكل أمانة: “بدي روح دبي رح يعطوني 400 دولار، إنتو إذا بتدفعوا هالقد مصاري بالدولار أنا ما بروح”. وهكذا كان. لم يكن بيد العائلة حيلة، قالوا إن ليس لديهم القدرة على دفع راتبها وهو 200 دولار بالعملة الصعبة فكيف بـ400 دولار. بعد هذا الحديث وصلت تذكرة سفر “مالت”. أوصلتها العائلة إلى مطار بيروت وغادرت بكل محبة ووئام.
في الواقع “مالت” واحدة من بين 6844 عاملة أثيوبية إضافة إلى 8 عمال أثيوبيين من الذكور غادروا لبنان إلى دبي، خلال العام 2020، وفق الإحصاءات التي زودنا بها الأمن العام اللبناني بناء على طلبنا. وينحصر هذا الرقم في العاملات والعمال من الجنسية الأثيوبية وهو يشمل الفترة الممتدة من أول السنة حتى 5 تشرين الأول منها. ويرجح أحد أصحاب مكاتب الاستقدام أن تكون الغالبية الساحقة ممن شملهن إحصاء الأمن العام قد قصدن الإمارات للعمل “وإلا فأنه من الأفضل لهن أن يغادرن إلى أديس أبابا مباشرة على الطيران الأثيوبي”.
أما زبيبة، التي ساعدت مالت على الرحيل، فهي واحدة من شبكة من عدد من الأشخاص والمكاتب نشطت في الأشهر الثلاثة الأخيرة في تأمين التواصل بين بيروت ودبي التي تعاني من النقص في العرض.
يؤكد رقم الأمن العام تحول مغادرة العاملات الأثيوبيات إلى دبي إلى إحدى الظواهر الناجمة عن انهيار القيمة الشرائية لليرة اللبنانية في إثر الأزمة الاقتصادية التي عصفت بالبلاد في نهاية 2019، يضاف إليها الأوضاع المستجدة مع انتشار فيروس كوفيد 19. ولا تخلو الظاهرة من بعض ملامح الإتجار التي تشي بها إعلانات بعض مكاتب الإستقدام في الإمارات عن حاجتها إلى عاملات في لبنان، ملوحة بتأمين عائد مالي لكل وسيط يصل إلى 400$، قد يتغير وفق جنسية العاملة.
من عاملة إلى أخرى
أموش التي شجعت “مالت” على الرحيل، تلّقّت بدورها عرض عمل للمغادرة هي الأخرى إلى دبي: “من بعد ما سافرت مالت بعتت لي صور لبيت كتير حلو وكبير وخبرتني أنه إذا بدي روح بتحكي المكتب بيبعت لي فيزا”. تضحك أموش وتقول “دغري مالت صارت تشتغل كمان لتاخد عاملات”. وفعلاً تواصلت أموش مع رجل أثيوبي في دبي وكانت المفاجأة أنه أرسل لها تأشيرة دخول إلى دبي بعد ساعات من إرسالها له صورة جواز سفرها. ووفق الصورة التي بعثتها أموش لـ”المفكرة”، يرد في خانة نوع التأشيرة “مندوبة مبيعات” (Sales Representative). سارعت أموش إلى إبلاغ العائلة التي تعمل معها برغبتها بالمغادرة إلى دبي برغم أنها تتلقى راتبها وهو 200 دولار بالعملة الصعبة “بس هونيك بيعطوني 330 دولار، يعني أكتر بـ130 دولاراً”، لكن العائلة قالت لها إنه بقي من عقد عملها سنة، أو فلتمنحهم على الأقل شهرين لتدبير عاملة أخرى للعمل عند السيدة المسنّة التي تسكن معها “ماما عمرها 87 سنة وما فيها تعيش لوحدها”. قال الوسيط الأثيوبي لأموش عندما أبلغته قرار العائلة “لا ما بيناسبنا، يا هلّق بتجي أو ما في”. ولكن أموش قررت أنّها ستبقى عند السيدة التي تعمل لديها “أنا مبسوطة هون، ما بعرف إذا كلّه صحيح بدبي وإذا رح كون مرتاحة وعم إقبض معاشي بالدولار”.
من دبي إلى لبنان
اتصلنا بصاحب مكتب استقدام عاملات يعمل في دبي ويضع عنوانه على الفايسبوك. أوضح هذا الأخير أن ثمة ندرة للعرض على اليد العاملة المنزلية في الإمارات بسبب فيروس كوفيد 19 “ما في عاملات، وفي طلب، وفي أزمة بلبنان، يعني عم نتصيد تلات عصافير بحجر واحد”، وفق ما يقول. والعصافير هي العائلات اللبنانية العاجزة عن الدفع بالدولار وحتى عن دفع تذكرة الطائرة أحياناً لترحيل العاملة إلى بلدها، والعاملة نفسها التي تدنّى راتبها إلى 15% من قيمته عندما يدفعون لها 300 ألف ليرة بدل 200 دولار، ثم العائلات اللواتي يطلبن عاملات للعمل لديها في دبي. وبعد تواصلنا مع أربعة مكاتب في دبي، أبدى أصحابها استعدادهم لاستقدام عاملات من لبنان، وكانت جملة “ما معهم يدفعوا دولار بلبنان” القاسم المشترك بين الأشخاص المعنيين بهذه المكاتب ممّن تواصلنا معهم. وقد أعلمنا هؤلاء أنهم يسددون لكل وسيط “400 دولار عن كل بنت”، قال الشاب بلهجته اللبنانية وهو يرسل فيديو لعشر عاملات أثيوبيات ينتظرن في صالة المكتب “هودي كلهن أثيوبيات وصلوا من شوي من مطار بيروت”.
يفسّر الرجل سبب الأزمة بعدم القدرة حالياً على استقدام عاملات من أثيوبيا التي تفرض حظراً على خروج عاملاتها إلى بعض الدول ومن بينها الإمارات، كما لبنان. وكان يتم تهريب العمال والعاملات من أثيوبيا عبر السودان ومنه إلى الدول الأخرى: “اليوم السودان مسكرة حدودها مع أثيوبيا بسبب كورونا، وبالتالي لا يوجد عرض على اليد العاملة، بسبب عدم القدرة على إيصالهنّ إلى السودان كما كان يحصل”. ويضيف “هناك الكثير من العاملات اللواتي فقدن أشغالهن في لبنان، وهذا يناسبنا”.
تهتم المكاتب في دبي بالعاملات من الجنسية الأثيوبية “فقط” وفق ما أكد صاحب المكتب نفسه: “لا نستقدم من دول أفريقية ولا من بنغلادش، مع أننا نعرف أن هناك عاملات كثيرات منهن في لبنان، ولكن العائلات هنا في الإمارات لا تحبذ تشغيلهن”. وعن شروط استقدام العاملة إلى دبي أفاد “ندفع 400 دولار للوسيط ونتحمل مصاريف قدومها، يعني الفيزا وتذكرة الطائرة”، ليؤكد “الوسيط بيطلع له صافي 400 دولار”. ويستفيض مسؤول المكتب بالشروط الجيدة للعاملة “إذا عندها خبرة وبتعرف تطبخ بتاخد 1500 درهم إماراتي، يعني 420 دولار”، وفق ما قال، مشيراً إلى أنّ المكتب مسؤول عنها قانونياً “سمحوا لنا باستقدام العاملات وفق تأشيرة زيارة تنقلب إلى سمة عمل مجرّد أن توقع عقداً مع صاحب عمل هنا”. وأكد أنّ للمكتب “تاريخ” في استقدام العاملات “صرلنا أربعين سنة منشتغل بالمكتب، نحن ما منعمل شي برّا القانون، هون في دولة ضابطة كل شي”، رداً على سؤال من يضمن حق العاملات.
مكتب استقدام آخر في دبي كان أكثر وضوحاً. وضع المكتب إعلاناً على صفحته على فيسبوك يقول: “إذا أصبحت العاملة المنزلية عبءاً عليك وتريد أن تخفف مصاريفك فنحن لدينا الحل. نحن شركة مرخّصة في دولة الإمارات ويمكن أن نساعدك على تسفير عاملتكم المنزلية من لبنان إلى دولة الإمارات إذا رغبت بالعمل والانتقال إلى الإمارات”. ويضيف الإعلان “لدينا مكتب عمالة مرخّص في لبنان ولدينا مكتب مرخّص في دولة الإمارات العربية المتحدة، ونقدم لكم عائداً مادياً مقابل التنازل عن خدمات العاملة حسب جنسيتها”. وبعدها يضع المكتب رقم هاتف للتواصل عبر واتسآب “لإعطائكم معلومات عن كيفية مساعدتكم لتحقيق عائد مادي مقابل تسفير عاملتكم بكل أمان من لبنان إلى دولة الإمارات العربية المتحدة” خاتماً بـ”اتّصلوا بنا الآن لمزيد من التفاصيل”. والإعلان مرفق بصورة جماعية لخمس عاملات من أثيوبيا وبلدان آسيوية، بلباس عمل موحّد.
من لبنان إلى دبي
تؤكّد مصادر نقابة مكاتب استقدام العاملات المنزليات في لبنان أنّه لم يتمّ التواصل مع النقابة كجسم تنظيمي للمكاتب لتأطير عملية انتقال العاملات إلى الإمارات”. ومن مكتب إلى مكتب ومن عاملة إلى أخرى، تواصلنا مع أحد المكاتب في لبنان بصفة صاحبة عمل عاجزة عن دفع راتب عاملتها بالدولار “ما تحملي هم أنا بسفّرها والفيزا عليي وتيكيت الطيارة، وفوق منهم بعطيكي مليون ليرة لجيبتك”. ولدى طرح مزيد من الأسئلة بذريعة الإطمئنان إلى وضع العاملة هناك، أكد الرجل أنه قام بتسفير عشر عاملات حتى اليوم، “وإذا بتعرفي عاملات غير العاملة لعندك كمان بعطيكي مليون ليرة عن كل عاملة”، مشيراً إلى أنّه وسيط في حلّ مشاكل العائلات التي تعجز عن الدفع بالدولار “في ناس عم تترك العاملات بالشارع لعجزها عن شراء تذكرة السفر لترحيلها”. ويرى صاحب المكتب أنّ دفع مليون ليرة للعائلة يمكنها من تسديد المال للعاملة في حال كانت تدين لها بشيء. بعد يومين، اتصلنا بصاحب المكتب، ودائماً بصفة ربة العمل التي تريد تسفير عاملتها، وأخبرناه أننا تلقّينا اتصالاً من مكتب في دبي يعرض علينا مبلغ 400 دولار مقابل تسفير كل عاملة، فارتبك وطلب رقم المكتب للتواصل معه “انتبهوا هودي كذابين وما بتعرفوا شو بيعملوا بالعاملة، أنا عم ببعتهن لعند قريبي وهو يعمل هناك ويجد لهم عائلات محترمة تضمن حقوقهم ويتابعهم كمان”.
تسفير العاملات إلى دبي الذي نشط في لبنان في الشهرين المنصرمين، أثّر على حركة العديد من المكاتب التي استطاعت تحقيق أرباح من نقل العاملات بين العائلات اللبنانية داخل لبنان بسبب عدم القدرة على استقدام عاملات من الخارج حالياً. ويقول صاحب أحد المكاتب أنه ما زال هناك بعض الطلب على العاملات في لبنان برغم الأزمة “في ناس بعدها قادرة تدفع دولار وكنّا نلبيها عبر نقل العاملة التي تلجأ إلينا هي أو صاحب العمل بسبب العجز عن دفع راتبها بالدولار، فنحصل لها على تنازل لصاحب عمل آخر”. كما يردف: “أكيد في عائلات قادرة، وفي ناس لا يمكنهم الاستغناء عن وجود عاملة للاهتمام بمسنّين، أو أطفال لأم وأب عاملين”، لكن القادرين على دفع راتب بقيمة رواتب دبي هم قلّة في لبنان اليوم”.
وللتأكيد على الأثر الإيجابي لتسفير العاملات إلى دبي، يلحظ صاحب مكتب يشارك كوسيط في العملية، انخفاض أعداد العاملات الأثيوبيات أمام سفارة بلادهنّ “لقيوا شغل بمعاش محترم بدل القعدة ع الطريق حد السفارة”، مؤكّداً أنه لا يمكن أن يعرض العمل على عاملة مرتاحة في منزل صاحب العمل “أنا بس ببعت العاملات اللي صار عندهن مشاكل مع العائلات وطلبوا منّي لاقي لهن حلول”.
هذا الواقع الذي ينتشر كالنار في الهشيم دق باب معظم العائلات اللبنانية التي ما زالت توظف عاملات أثيوبيات. وهو ما دفع إحدى السيدات إلى منع عاملتها من استعمال هاتفها الخلوي “العاملة عند جارتي فجأة بطلت بدها تشتغل عندها بـ150 دولار، مع أنه عم تدفعلها بالدولار، لأنّه دبرت لها رفيقتها شغل بدبي بمعاش 330 دولار، ففلّت”. وعليه منعت هذه السيدة عاملتها من التواصل مع أي عاملة أخرى، ومن استعمال هاتفها الخلوي “بكرا بينزعوا لي إيّاها وبتفل، من وين بدي جيب غيرها؟”
وفي المقابل استغلت عاملات مثل سارة عرض العمل الذي جاءها للعمل في دبي، لتحسين راتبها “كنت أقبض 200 دولار، فأخبرت بنت المدام إنّه بدّي فل ع دبي، هن بحاجتي وكتير مناح معي كمان، فصرت إقبض 250 دولار، ووعدتني بنتهن تعطيني إشيا برّاني، فبقيت”.
للاطلاع على المقالة مترجمة إلى اللغة الإنكليزية