“
لقد أثار مشروع قانون العفو العام المدرج على جدول أعمال الجلسة النيابية القادمة جدلاً واسعاً حول التداعيات التي قد تنجم عن إقراره ومدى اتساقه مع الهتافات الشعبية الداعية للمحاسبة السياسية ومكافحة الفساد. وقد رأت “المفكرة” في مقالات نشرتها مؤخراً بأن القانون المقترح هو بطعم “الرشوة والعفو الذاتي” ومن شأنه تعزيز الزبائنية السياسية وانهيار النظام القانوني.
في هذا السياق، نهدف من خلال هذا المقال إلى تسليط الضوء على بعض إشكاليات القانون المقترح، مع التركيز على منظور القانون الدولي والتزامات الدولة اللبنانية. وتحقيقاً لهذه الغاية، سوف نعرض أولاً بعضَ خصائص القانون الملفتة للانتباه، قبلما نتناول مسألة القانون الدولي وموقفه من العدالة الانتقالية وتدابير العفو.
العفو كمبدأ قابل للتوسع بفعل الاستثناءات المبهمة
في تقييم مشروع قانون العفو العام، يجدر الانتباه إلى الخصائص التالية التي لا بد أن يكون لها تداعياتٍ واسعة على الصعيدين القانوني والسياسي.
أولا، وكما أشارت إليه المفكرة في مقالٍ سابق، ينطلق القانون المقترح أساساً من مبدأ العفو، حيث تكون جميع الجرائم مشمولة به إلا إذا تم استثناؤها بوضوح بنص القانون، بدلاً من أن يكون العفو مقتصراً على جرائم محددة قُدّمت مبررات لإعفائها من قِبل السلطات السياسية. ومن نتائج ذلك أن يكون نطاق العفو واسعاً جداً وغير مبرر بظرف معين.
ثانياً، إن القانون المقترح لا يقدّم تعريفاً واضحاً لبعض الجرائم المستَثناة كالتعدي على الأموال والأملاك العمومية. ومؤدّى أي إبهام في تعريف الجرائم المستثناة أن يفتح الباب أمام المرتكبين للإدلاء باستفادتهم من العفو لإبطال أي ملاحقة ضدهم، عملا بقاعدة قوامها تفسير أي شك في الملاحقات الجزائية لصالح المدعى عليه. ومؤدى هذا الإبهام إذا توسيع دائرة العفو بشكل كبير.
ثالثا، رغم وجود وعود انتخابية سابقة لبعض الفئات (المعتقلين والمحكوم عليهم الإسلاميين والمتورطين في جرائم مخدرات) بإصدار قانون عفو عامّ، فإن الإعلان عن اقتراح العفو بما تضمنه من شمولية غداة الحراك الأوسع في تاريخ لبنان إنما يثير شكوكا واضحة حول أهدافه السياسية المبطنة. فإذ هو يظهر بمثابة رشوة لفئات واسعة من الناس على حساب الحق العام، فإنه يخفي في طياته في الآن نفسه الكثير من حالات العفو التي جاز تصنيفها ضمن جرائم العفو الذاتي، مثل جرائم التهريب الضريبي أو الجرائم الداخلة في اختصاص ديوان المحاسبة أو أيضا العديد من الجرائم البيئية.
وبالفعل، يُلاحظ أن من ضمن الجرائم المعفاة بموجب هذا القانون في صيغته الحالية، الجرائم المرتكبة بحق المواطنين من قبل الأجهزة الأمنية والعسكرية، بما فيها الاعتداء على الأفراد والإخفاء القسري والتعذيب والتوقيف التعسفي. وهذا أمر يتناقض مع المساعي لإنشاء دولة مدنية خاضعة للقانون، بل ومن شأنه أن يساهم في إرساء ممارسات الدولة البوليسية التي تتصرف فيها الأجهزة الأمنية بحرية تامة وبدون اكتراثٍ للقيود القانونية التي يُفترض أن تخضع لها. وقد أصبحت هذه المسألة بالغة الأهمية في المرحلة الراهنة، فيما تتداول أنباء حول تصاعد حدة التوقيفات وحالات التعدي على المتظاهرين.
انطلاقا مما تقدم، يبدو المقترح في حال تعارض مع التزامات الدولة اللبنانية بالقانون الدولي وعائقاً واضحاَ لمساعي الإصلاح.
القانون الدولي يمتدّ إلى مسائل العفو
فيما كان يُنظر تاريخياً لمسألة تدابير العفو بأنها تدخل ضمن نطاق السيادة الداخلية للدول، إلا أنه ومنذ سبعينيات القرن الماضي تبلورت عدة قواعد وضوابط على الصعيد الدولي مفادها تقييد صلاحية الدول في إقرار قوانين من هذا النوع. واللافت أن تدابير العفو تُستخدم عادةً كأداة للعدالة الانتقالية في دول خرجت للتو من نزاعات داخلية، وتخضع حتى في هذه الظروف الاستثنائية لقيود واضحة على نطاقها. فما بالك في دولة كلبنان حيث لا توجد أصلاً أية عملية انتقال من نظام سياسي إلى آخر لتبرير هذه التدابير؟
من أهم المراجع التي تتصدى لهذا الشأن، التقرير الصادر عن مكتب مفوضية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان لعام 2009 تحت عنوان “أدوات سيادة القانون لدول ما بعد الصراع”، والذي يلّخص المبادئ والقواعد التي تبلورت في هذا المجال في القانون الدولي. فالتقرير يؤكد أن تدابير العفو تخضع لتنظيم مجموعة قوانين دولية مستمدة من مصادر مختلفة تضع حدوداً على النطاق المشروع للعفو. وأبرز هذه القواعد الآتية:
1- عدم جواز العفو عن الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب وانتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، التي تُعتبر جرائم ماسة بالقواعد القاطعة الدولية. فبعيد انتهاء الحرب العالمية الثانية وعلى خلفية محاكمة نورمبرغ للقادة النازيين، برز تمييز ضمن منظومة الالتزامات الدولية بين القواعد القابلة للتجاوز أو التقييد في ظروف استثنائية كما في مجال حرية التعبير مثلاً، والقواعد القاطعة (peremptory norms) أي التي لا يحق للدول أن تتجاوزها في أي ظروف مهما كانت استثنائية، وأبرزها الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب. وتبعا لتطور القانون الدولي في العقود الأخيرة، توسَّع نطاق القواعد القاطعة لكي يشمل الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان كالاختفاء القسري والاعتقال التعسفي والتمييز العنصري وغيرها، كما نرى بوضوح في الفصل السادس من تقرير الأمم المتحدة المُشار إليه. ولقد أكدت المحكمة الدولية الجنائية ليوغوسلافيا السابقة على عدم جواز العفو عن الجرائم الماسة بالقواعد القاطعة في قضية “فروندزيا” الشهيرة، حيث اعتبرت أن تصنيف حظر التعذيب كقاعدة قاطعة في القانون الدولي يعني أن أية تشريعات وطنية تقوم بإقرار ممارسات التعذيب أو إعفاء مرتكبيها لن يُعترف بها دولياً، وبالتالي إن محاكمة المرتكبين أمام محاكم وطنية أخرى وفقاً للولاية القضائية العالمية أو أمام محاكم دولية هو أمرٌ مشروع.
2- عدم جواز العفو عن الجرائم والانتهاكات إلا ضمن مبدأي الضرورة والتناسب:
وحتى العفو للانتهاكات الأخرى، فلا يكون مشروعا إلا في حال توفر ظروف استثنائية ومبررات واضحة، ومع مراعاة مبدأي الضرورة والتناسب. فعلى سبيل المثال تنص المادة 4 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية على أن “في حالات الطوارئ الاستثنائية التي تتهدد حياة الأمة، والمعلن قيامها رسميا، يجوز للدول الأطراف في هذا العهد أن تتخذ، في أضيق الحدود التي يتطلبها الوضع، تدابير لا تتقيد بالالتزامات المترتبة عليها بمقتضى هذا العهد، شريطة عدم منافاة هذه التدابير للالتزامات الأخرى المترتبة عليها بمقتضى القانون الدولي وعدم انطوائها على تمييز يكون مبرره الوحيد هو العرق أو اللون أو الجنس أو اللغة أو الدين أو الأصل الاجتماعي”. وعليه، وإلى جانب عدم جواز تقييد الحقوق القاطعة، فإن أيّ تقييد للحقوق الأخرى يجب أن يتم في أضيق حدود وأن يكون مبررا بضرورة تفرضها الظروف الاجتماعية والأهم أن يكون متناسبا مع الهدف الذي يرمي إلى تحقيقه. تجدر الإشارة أيضا إلى أن على الدول التي تريد استخدام حق عدم التقيّد بأن تعلم الدول الأطراف الأخرى، عن طريق الأمين العام للأمم المتحدة، بالأحكام التي لم تتقيد بها والأسباب التي دفعتها إلى ذلك. الاتجاه نفسه نستشفه في المادة 4 من العهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي نصت أنه ليس للدولة أن تخضع التمتع الحقوق التي تضمنها فيه إلا للحدود المقررة في القانون، وإلا بمقدار توافق ذلك مع طبيعة هذه الحقوق، وشريطة أن يكون هدفها الوحيد تعزيز الرفاه العام في مجتمع ديمقراطي. فما نفهمه من هذا البند هو وجوب تبرير أي تقييد للتمتع بهذه الحقوق بانسجامها مع طبيعة هذه الحقوق والضرورة التي يفرضها “الرفاه العام في مجتمع ديمقراطي”.
بالتالي، لا يحق لدولة ما أن تقر تدابير عفو متعارضة مع التزاماتها الدولية إلا إذا خضعت لهذه الشروط الصارمة.
3- عدم المس بحقوق الضحايا:
يكون العفو غير مشروع في حال تعارضه مع حقوق الضحايا، وخصوصاً ضحايا انتهاكات حقوق الإنسان، في الحصول على سبيل انتصاف فعّال، بما في ذلك الحق في التعويض. وهذا الأمر يتأكد في قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة 60/147 ونراه أيضا في المادة 2 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، التي تفرض موجباً على الدول المعنية بأن توفّر سبلاً فعالة للانتصاف لأي شخص انتُهكت حقوقه أو حرياته المُعترف بها بالعهد، حتى ولو صدر الانتهاك عن أشخاص يتصرفون بصفتهم الرسمية. ويجدر تفسير هذه المادة على أنها تتعارض مع إعفاء الانتهاكات إلا في حال توافق الإجراءات المتبعة مع شروط الحق في عدم التقيّد بموجب المادة 4 من العهد. كما يتحصل من العديد من الاتفاقيات الدولية المتصلة بحق معين حيث تلتزم الدول إما بالنص القانوني ذاته أو تطبيقاً لمبادئ تفسير الاتفاقيات الحقوقية بأن تضمن سبل انتصاف فعالة لضحايا الانتهاكات. وهذا ما نراه مثلاً في المادة 6 من الاتفاقية الدولية للقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري.
4- عدم المس بحق المجتمع بالمعرفة:
بالإضافة إلى الحق الشخصي للضحية في الانتصاف، هنالك حق عام في العدالة والمحاسبة السياسية ومعرفة الحقيقة. وهذا ما نراه في قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة 68/165 لعام 2014 الذي يعترف في المادة 1 “بأهمية احترام وضمان الحق في معرفة الحقيقة من أجل المساهمة في وضع حد للإفلات من العقاب وتعزيز حقوق الإنسان وحمايتها”. وعليه يكون العفو أيضا غير مشروع في حال شكّل عائقاً أمام حق المجتمعات في معرفة الحقيقة بشأن انتهاكات حقوق الإنسان والقانون الإنساني، أي أنها تعفي هذه الجرائم من دون إرساء إجراءات موازية من شأنها أن تساهم في الوصول إلى الحقيقة والمصالحة الوطنية.
ما بيناه أعلاه يعدّ موجبات قانونية وليس مجرد “ممارسات فضلى” في هذا المجال، إذ أنها تستمد عادةً من التزامات الدول المعنية على الصعيد الدولي بالإضافة إلى القانون الدولي العرفي. فعلى سبيل المثال إن توقيع دولة ما على اتفاقية مناهضة التعذيب لعام 1984 يجعلها ملزمة بموجب هذه الاتفاقية بأن تضمن سبلاً قضائية لملاحقة أية ادعاءاتٍ متعلقة بالتعذيب، وبالتالي لا يحق لسلطاتها التشريعية أن تقر قانون عفو يشمل جرائم التعذيب.
حالات تطبيقية في مجال العدالة الانتقالية
فيما يتعلق بحالات العدالة الانتقالية، أي دخول دولةٍ ما في مرحلة ما بعد النزاع الداخلي، يجب أن تتوافق أي تدابير عفو مقترحة مع التزامات الدولة المعنية دولياً، ويجب أن تضمن الدولة آليات للمحاسبة والانتصاف وألا تشرّع للعفو الشامل لمرتكبي انتهاكاتٍ جسيمة لحقوق الانسان.
ورغم أن السوابق التي سنشير إليها والمتعلقة عموماً بخروج الدول من النزاعات الداخلية هي بعيدة إلى حدٍ ما عن الوضع اللبناني الراهن حيث الأولوية تكمن في مكافحة الفساد وإنشاء مؤسسات الدولة المدنية، إلا أنها تدل وبوضوح على أهمية أن تخضع تدابير العفو لقيود واضحة حتى في ظروف الأزمات الوطنية، وعلى الترابط بين الالتزامات الدولية والتشريعات الوطنية فيما يتعلق بقوانين العفو العام.
كما لعبت محكمة البلدان الأميركية لحقوق الإنسان دوراً طليعياً في هذا الشأن، حيث أسست اجتهاداتها القضائية لتحوّل شامل في النهج المتبع دولياً بما يتعلق بالعدالة الانتقالية وسبل الموازنة بين الحق في الانتصاف وضرورة الانتقال إلى مرحلة جديدة في تاريخ الدولة بعد المرور بنزاع داخلي. وقد أكدّت المحكمة مراراً على أن الحق بالانتصاف هو بذاته جزء لا يتجزأ من عملية الانتقال، إذ أن المضي في الانتقال السياسي والاجتماعي ليس ممكناً من دون حصول ضحايا النزاع على انتصاف فعال ودون وصول المجتمع لحقيقة ما جرى في البلاد خلال فترة النزاع.
ففي قضيةBarrios Altos v Peru التي رُفعت أمام المحكمة الأميركية حول مجازر ارتُكبت في العامين 1991 و1992 تحت أوامر الرئيس آنذاك آلبِرتو فوجيموري وتم بعد ذلك إعفاء المسؤولين بموجب قانون عفو شامل، اعتبرت المحكمة أن “جميع أحكام قانون العفو غير مقبولة، لأنها تهدف إلى منع التحقيق في الأفراد المسؤولين جنائياً عن انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان ومعاقبتهم، ومن ضمن هذه الانتهاكات جرائم التعذيب والإعدام خارج نطاق القضاء والإخفاء القسري، والتي هي محظورة لأنها تنتهك قواعد قاطعة مُعترف بها في القانون الدولي”. وأكدت المحكمة أن قانون العفو المزعوم كان خالياً من أي مفعول قانوني كونه مخالفاً لقواعد قاطعة في القانون الدولي. ورداً على هذه السابقة وغيرها، فإنه قد تم إبطال العديد من تدابير العفو في الأنظمة القضائية في أمريكا اللاتينية على مدى العقود الماضية، ومن أبرز هذه الدول بيرو والأرجنتين.
بما يتصل بتشريعات عفو صادرة في الدول عربية، فقد اعتبرت لجنة حقوق الإنسان الدولية، وهي الهيئة المكّلفة بالإشراف على مدى التزام الدول المعنية لمتطلبات العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، أن ميثاق السلم والمصالحة الوطنية الذي قدّمه الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة في العام 2005 بعد انتهاء الحرب الأهلية كان متعارضاً مع التزامات المعاهدة، لأنه أعفى الأجهزة الأمنية عن الانتهاكات التي ارتكبتها بحق المدنيين مثل الاخفاء القسري والاعتقال التعسفي والاعتداء على المتظاهرين السلميين وغيرها، وبالتالي أغلق السبل للتحقيق في هذه الجرائم، خلافاً للمادة 2 من العهد التي تفرض التزاماً على الدول أن توّفر آليات للانتصاف الفعال في حالات الانتهاك.
وانطلاقاً من ذلك، فقد اتجهت الدول المعنية بالعدالة الانتقالية مؤخراً إلى إنشاء آليات من شأنها أن تعزز وتسهّل عملية المصالحة الوطنية دون أن تصل إلى حد الإعفاء الشامل الذي يتناقض مع التزاماتها الدولية. فوفقاً لاتفاقية السلام في كولومبيا لعام 2017 تم إنشاء آليات لتخفيف الأحكام الجنائية والحد من نطاق الملاحقة كي تقتصر على الانتهاكات الأكثر جسامةً بهدف تسيير الانتقال السياسي من دون انتهاك حقوق الضحايا بالانتصاف والحق العام في معرفة الحقيقة.
الالتزامات الدولية للدولة اللبنانية
يتبين مما تقدم أن الالتزامات الدولية تفرض قيوداً واضحة وقاطعة على نطاق صلاحية الدول في إقرار قوانين العفو العام. ومن أبرز الاتفاقيات الدولية التي التزم بها لبنان في هذا الخصوص، العهدان الدوليان للحقوق المدنية والسياسية وللحقوق الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، واتفاقية مناهضة التعذيب، واتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد واتفاقية القضاء على كافة أشكال التمييز العنصري واتفاقية القضاء على كافة أشكال التمييز ضد النساء وما إلى ذلك من اتفاقيات دولية هامة. كما وقع لبنان على الاتفاقية الدولية لحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري 2006. ومما تقدم، يتبدى أن خصائص قانون العفو العام المقترح التي أشرنا إليها سابقاً والتي تتعلق بشموليته تشكل انتهاكا فادحا لالتزامات لبنان بموجب هذه الاتفاقيات.
وبالفعل، كما سبق وأشرنا، فإن المادة 2 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية تفرض التزاماً على الدول المعنية أن توّفر آليات للانتصاف الفعّال في حالات انتهاك الحقوق التي تكفلها المعاهدة، الأمر الذي يتعارض مع أية محاولات لإعفاء الأفراد المسؤولين جنائيا عن انتهاكات خطيرة لهذه الحقوق. ومن ضمن الحقوق الممنوحة بالمعاهدة هي الحق بالحياة والحرية الشخصية والأمان وعدم التعرض للاعتقال التعسفي والتعذيب والمعاملة اللاإنسانية، والحق في التجمع السلمي، والحق في اعتناق آراء دون مضايقة.
وبرأينا فإن مشروع قانون العفو في صيغته الحالية والذي يشمل الجرائم البيئية التي من شأنها أن تؤدي إلى الحرمان من الحق بالحياة والحق بالصحة والتعذيب والاخفاء القسري وانتهاكات الأجهزة الأمنية والذي عموما يفتقر إلى نطاق تطبيق واضح لا بد أن يُعتبر انتهاكاً لالتزامات الدولة اللبنانية بموجب هذه المادة، فبعض هذه الانتهاكات تُعتبر قواعد قاطعة بحيث لا يجوز إعفاؤها في أي ظرف من الظروف، بينما البعض الآخر يفتقر إلى المبررات الكافية للإعفاء عنها بالظروف الحالية.
بالتوازي، نرى أن القانون المقترح فيما يتعلق بتطبيقه على جرائم الفساد السياسي، وفي مقدمتها جرائم التهرب الضريبي والتهويل والمحاسبة العمومية الداخلة في صلاحيات ديوان المحاسبة فضلا عن الجرائم التي قد تعد معفاة تبعا للطابع المبهم للاستثناءات، لا بد أن يُعتبر بدوره انتهاكاً لالتزامات لبنان بموجب اتفاقية مكافحة الفساد، ولا سيما أن المادة 30 من الاتفاقية تفرض التزاماً على الدول المعنية بأن تجعل ارتكاب فعل مجرّم وفقاً للاتفاقية خاضعاً لعقوبات تُراعى فيها جسامة ذلك الجرم، الأمر الذي يتناقض مع إعفائها على الوجه الذي تقدم.
خلاصة
ختاما، يجدر طرح السؤال الآتي: لماذا تلجأ القوى السياسية الآن إلى قانون عفو عام شبه شامل وغير ملتزم بالقيود الضرورية وهو أصلاً ليس في مرحلة انتقال من نظامٍ سياسي إلى آخر، وإن كان الحراك يأمل بذلك؟
العكس تماما يظهر عند معاينة اقتراح القانون: أي أن الطبقة الحاكمة تلجأ إلى قانون العفو المقترح لكي تمنع الانتقال السياسي المطلوب ولكي تعزز علاقاتها الزبائنية في موازاة إقرار حالات عدة من العفو الذاتي غير المشروط وتولّد انقسامات في الشارع المنتفض بين الذين يسعون لأسباب بعضها محقة إلى الإفراج عن ذويهم من السجون والذين يخشون استغلال هذا القانون من قبل السلطات السياسية كأداة للهروب من المحاسبة.
حتى الآن، يظهر أن صحوة المجتمع اللبناني أفشلت هذه الغايات وفق ما عبرت عنه مقاومة المقترح في الساحات والتي نجحت في الالتفاف حول أي مشروع فتنة.
“