كشفت جائحة الكورونا أن اهتمامات بعض النواب بمجلس نواب الشعب ما تزال دون مشاغل الشعب الحقيقية. فرغم تصاعد مستوى الخوف من تفاقم الأزمة والتأهب الكامل تحسبا للأسوأ، وتزامنا مع الحرب التي تقودها الدولة مع المحتكرين وسماسرة الأدوية، أمضى 46 نائبا من مختلف الكتل على مبادرة تشريعية تحت عنوان "أخلقة الحياة السياسية والاجتماعية" أو كما عُرفت على مواقع التواصل الاجتماعي بمشروع قانون تحجير القذف الالكتروني، والتي تولى تقديمها إلى مكتب المجلس للنظر الاستعجالي النائب عن حزب تحيا تونس ووزير أملاك الدولة سابقا مبروك كرشيد نيابة عن زملائه في 12 مارس 2020. مقترح القانون الذي تضمن تسليط عقوبة بالسجن سنتين وخطية مالية تتراوح بين 10 و20 ألف دينار على مرتكبي هذه الجرائم الالكترونية بحسب نص المقترح، أثار موجة سخط واسعة لدى العديد من المنظمات الوطنية والجمعيات وعلى رأسها الهيئة الوطنية للمحامين والنقابة الوطنية للصحفيين التونسيين، إضافة إلى الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان. ضغط دفع العديد من النواب الممضين على مقترح القانون إلى سحب تواقيعهم ليضطر النائب مبروك كرشيد إلى إعلان سحب هذه المبادرة التشريعية يوم 30 مارس 2020 متعللا بأن الظرفية الراهنة لا تسمح بطرحها.
مبادرة خارج إطار التاريخ
في حين تركز جل برلمانات في العالم على تعزيز الإجراءات القانونية من أجل معاضدة حكوماتها لمجابهة وباء كورونا، وخارج سياق النقاش العام وأولويات المرحلة، أطل النائب مبروك كرشيد على المشهد بطرح مبادرة تشريعية يوم 12 مارس 2020 تحت يافطة مكافحة الجرائم الإلكترونية والتصدي لانتشار الأخبار الزائفة، والتي تهدف بالأساس إلى إجراء تحويرات على الفصلين 245 و247 من المجلة الجزائية، اللذان يتعلقان بجريمة القذف وعقوبتها.
مبادرة اعتبرها الأستاذ نعمان مزيد المحامي لدى التعقيب وكاتب عام فرع صفاقس الجنوبية للرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان في تصريحه للمفكرة القانونية مستعجلة جداً ولا تحترم أبجديات القانون لا من الناحية الشكلية حيث غلب عليها الإنشائيات والألفاظ المبهمة ولا من ناحية المضمون. فمشروع القانون الذي تم تقديمه، وعلى الرغم من أهمية القضية التي طرحها، إلا أنه لم يعرّف أركان الجريمة كما ينبغي وتركها غير واضحة. ليضيف: الحديث على جرم إلكتروني يجب أن تتداخل فيه جميع الأطراف من وزارة تكنولوجيات الاتصال ووزارة الداخلية لمعرفة حيثيات التدوينة مثلا، كما أن الحساب المستعمل قد يكون وهميا أو تم قرصنته… كثير من النقاط الهامة التي يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار لم ينتبه إليها أصحاب هذه المبادرة، وهو ما يتعارض مع أدبيات القانون الجزائي الذي يرتكز على قاعدة أساسية وهي "شرعية الجرائم والعقوبات". فالدقة الكاملة عنصر ضروري لا غنى عنه في القانون الجزائي، وفي حال عدم توفره فسيُؤوّل الفصل والتحكيم لوكيل الجمهورية أو للقاضي، مما قد يفتح الباب على مصراعيه أمام التأويلات المختلفة أو عدم التساوي أمام القانونفي بعض الحالات.
وإضافة إلى الهنات التقنية في نص مقترح القانون، اعتبر صاحب المبادرة مبروك كرشيد أن هذا القانون موجود في الديمقراطيات العريقة على غرار فرنسا وألمانيا وهدفه تحصين الديمقراطية من الأخبار الزائفة والإشاعات، إلا أن نص القانون الفرنسي يختلف اختلافا جذريا عن المشروع الذي طرحه كرشيد حيث اعتبر الأستاذ نعمان مزيد في حديثه مع المفكرة، أن القانون الفرنسي بالفعل يتعامل مع الجريمة الإلكترونية على أنها جريمة كاملة الأركان حتى أنه ضبط الخطية المالية للمخالفين للقانون بـ 75 ألف أورو، غيره أنه ضبط تفعيل القانون خلال فترة الإنتخابات فقط وذلك للحفاظ على شفافية الانتخابات كما أنه يقتصر على المنصات الاجتماعية الضخمة والمؤثرة أي أنه لا يستهدف مدونا عاديا أو صفحة أعداد متابعيها ضئيل، بل يستهدف أساسا الصفحات الضخمة والمؤثرة في المشهد السياسي.
رفض مطلق من المنظمات الوطنية والمجتمع المدني
إضافة إلى ردة الفعل الهائلة على مواقع التواصل الاجتماعي، أثارت هذه المبادرة التشريعية استهجان ورفض العديد من الهيئات ومنظمات المجتمع المدني لا سيما من قبل المحامين الذين اتفقوا على معارضة هذا المشروع منذ الوهلة الأولى، حيث عبرت الهيئة الوطنية للمحامين في بيانها الصادر بتاريخ 29 مارس 2020 عن رفضها القطعي لهذه المبادرة واعتبارها محاولة غير مقبولة لضرب الحريات العامة بالبلاد. كما دعت الهيئة مجلس النواب إلى رفض التصويت على هذا المشروع والتصدي إلى محاولات الرجوع إلى مربع مصادرة حريات التعبير.
يرجع الرفض الكلي لهذا المشروع إلى التنقيحات التي طالب بها للفصلين 245 و247 من المجلة الجزائية، حيث صعّد هذا المقترح جدا في العقوبات في مقابل تجاهل تكييف أركان الجريمة كما يجب. فالفصل 247 من المجلة الجزائية يحدّد عقوبة القذف بالسجن لمدة ستة أشهر وبخطية قدرها 240 دينارا، بينما نص مشروع القانون الذي تقدم به مبروك كرشيد على معاقبة مرتكب جريمة القذف الإلكتروني بالسجن لمدة سنتين وبخطية مالية تتراوح بين عشرة آلاف وعشرين ألف دينار.
في هذا السياق، اعتبر عميد المحامين التونسيين إبراهيم بودربالة أن مشروع القانون قد رفع منسوب العقوبات على المخالفين لكنه لم يعرّف الجرم كما ينبغي بل تركه مبهما مما قد يدفع إلى تنفيذ غير مدروس للقانون ولن نتمكن من استشراف عواقبه ولا حتى من معارضته. أما بخصوص رفض هيئة المحامين للمشروع والدعوة إلى عدم التصويت عليه، فاعتبر بودربالة أن مثل هذه المشاريع يجب أن تخضع لاستشارة مكوّنات المجتمع المدني ذات العلاقة بحرية التعبير على غرار الرابطة التونسية لحقوق الإنسان ونقابة الصحفيين والاتّحاد العام التونسي للشغل وغيرها من المؤسسات التي تشتغل في مجال الحريات، ناهيك أن تنفيذ هذا القانون سيدمّر حياة الكثيرين خاصة أنه منع القضاء من تطبيق شروط التخفيف. يعني أن شابا بالكاد تجاوز عمره 18 سنة، قد يجد نفسه خلف القضبان لسنتين بسبب تدوينة على مواقع التواصل الاجتماعي. النتيجة ستكون كارثية بعد ذلك نظرا للارتدادات المحتملة على حياة هذا الشخص من انقطاع عن الدراسة أو الإنحراف. ولهذه الاعتبارات نحن نرفض هذا القانون أصلا.
أما الرابطة التونسية للدفاع على حقوق الإنسان، فقد سلطت الضوء على التهديد الكبير الذي قد يمثله تمرير هذا القانون على واقع الحريات في تونس. حيث اعتبرت في بيان لها يوم 29 مارس 2020 أن هذه المبادرة تشرع للالتفاف على الحقوق والحريات وعلى ما حققه الشعب التونسي بعد الثورة، وذلك بمصادرة حق الرأي والتعبير والتضييق على الحريات بسن قوانين تتعارض مع المبادئ التي رسخها الدستور. واعتبر كاتب عام الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان بشير العبيدي في تصريحه للمفكرة القانونية أن هذاالمشروع يشكل تهديدا كبيرا لواقع الحريات في تونس بل ويتعارض مع روح الدستور وروح الثورة ويشرع لعودة دولة الرقابة، لذلك نعلن رفضنا له حتى بعد إعلان المبادرين أن العقوبات لن تطال إلا المخالفين. إن الصيغة التي وضع بها القانون قد تؤدي إلى تحريفه فيما بعد وقد يتحول إلى سيف مسلط على المعارضين، لذلك نعتبر أننا قد تقدمنا بخطوات في مجال الحريات ولا ينبغي لنا العودة بتاتا إلى الخلف.
رغم أن الأزمة الحالية مثلت مناخا ملائما لانتشار الشائعات والأخبار الزائفة، في ظل حالة من القلق المتزايد في صفوف المواطنين والمواطنات نتيجة تواصل ارتفاع الإصابات المؤكدة بفيروس كورونا والتي بلغت 394 حالة حتى نهاية شهر مارس، إلاّ أن أغلب منظمات المجتمع المدني وذوي العلاقة بالساحة القانونية وقضية الحريات، اعتبروا أن هذه المبادرة التشريعية بجميع هناتها على مستوى النص والمضمون، تمثل خطرا حقيقيا على حرية التعبير ما بعد الثورة والتفافا على الدستور، مؤكدين أن استفحال الإشاعات والمخالفات المتعلقة بنشر الأخبار الزائفة حول المؤسساتي أو الأفراد لا ينبغي أن تكون ذريعة للمس من مناخ الحرية الذي تم تكريسه بعد 14 جانفي 2011 أو العودة ولو خطوة واحدة إلى مربع الاستبداد والرقابة وتكميم الأفواه.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.