نهار الأربعاء 22 شباط 2012، خرجت متأخراً من المكتب. إستقلّيت سيارتي متّجهاً إلى ساحة ساسين في الأشرفية لزيارة جدتي. مررت في أزقة فرن الحايك لتفادي زحمة الليل وإذ أفاجأ بزحمة سيارات وأناس متجمهرين قرب مدخل أحد المنازل يلفحهم هواء شباط الجليدي. لم أعر للأمر أهمية وجاهدت لإستكمال طريقي إلى منزل جدتي. عند وصولي، كان التلفزيون مضاءً وكانت جدّتي تتابع كلمة للوزير شربل نحّاس، وهي من محبّيه، يُلقيها من منزله حيث إعترضتني الزحمة خلال توجهّي إلى هنا. نحّاس، كان قد إستقال قبل يوم واحد من منصبه كوزير للعمل في الحكومة آنذاك، على خلفية رفضه التوقيع على مرسوم “بدل النقل” غير القانوني وبعد نجاحه في إستصدار مرسوم خاص برفع الحد الأدنى الرسمي لأجور المستخدمين والعمّال في لبنان. استمعت إلى نحّاس مذهولاً، ينتابني نوع من الكآبة والتشاؤم إزاء مصير قطاع العمل وبشكل أعم حكم القانون والإصلاح الموعود في لبنان تبعاً لتلك الإستقالة.
“خسرنا وزير فهمان” قالت جدتّي، في وقت كان نحّاس يستذكر في تصريحه خلفيات إصدار قانون العمل سنة 1946 قائلاً: “كان في إرادة ما يكون في نقابة مستقلة [في لبنان]…” (فالمشرّع آنذاك لم يكن يريد إدراج فصل خاص بالنقابات في قانون العمل)، “واليوم – من غير شرّ – بين ما يسمونه هيئات إقتصادية وما يسمونه قيادة إتحاد عمّالي عام، رجعوا بدهم يفرضوا توحيد لنقابات العمّال ونقابات الرأسماليين… وهو إعادة للنظام الفاشي في هذا البلد”.
في الوقت عينه، وعلى بُعد بضعة كيلومترات في بلدة ضبيّة الساحلية، كان صوت نحّاس يصدح عبر تلفاز منزل آل طوق وترنّ كلماته في أذن سمير طوق خلال تحضيره وجبة العشاء مع زوجته بعد نهار طويل من العمل في متجر سبينس (Spinneys) المحاذي لمنزلهما. “رجل فهمان… صحيح منّه من الفريق السياسي اللي أنتمي إليه، لكنه رجل فهمان” فكّر سمير في قرارة نفسه “منيح قدر زمّط مرسوم زيادة الأجور قبل أن يستقيل… الوضع المعيشي لم يعد يطاق في البلد”.
وفي الوقت عينه، وعلى بُعد بضعة أمتار من منزل الوزير المُستقيل، كان هواء شباط يصفّق على زجاج مكتب مايكل رايت البريطاني، في فرع متجر سبينس في الأشرفية، حاملاً معه صدى صرخة نحّاس وحرقته. كان مايكل يقرأ بريداً يتضمّن ترجمة لفحوى مرسوم زيادة الأجور. الأمر لا يناسبه. رفع أجور موظفي شركة “غراي ماكنزي ريتايل ش.م.ل.” التي يديرها (صاحبة متاجر “سبينس”) سوف يؤثر سلباً على أرباحها، يجب إيجاد بديل. يدخل مايكل إلى بريده الإلكتروني، يفتح قسم المسودّات ويبدأ تدوين كتاب ينوي إرساله بعد بضعة أيّام إلى رؤساء فروع الشركة.
الفصل الأول – نشأة النقابة
كان سمير يلهث جراء تنقّله من موظفة إلى موظف في فرع سبينس في ضبيه. “أربعة أشهر! أربعة أشهر دون أي شيء ملموس” يقول في قرارة نفسه. نحن في مطلع حزيران 2012، أربعة أشهر مرّت على دخول مرسوم رفع الحدّ الأدنى للأجور حيّز التنفيذ من دون أن ترفع سبينس التي يعمل فيها سمير أجر أي من موظفيها، “ولا حتى قرشاً واحداً”. “الوضع المعيشي لم يعد يطاق”، وحان الوقت لمطالبة الشركة بتطبيق القانون و”زيادة المعاشات”. ارتأى سمير أن إستنساخ العملية الديمقراطية داخل الشركة قد يفي بالغرض، وذهب ينظّم عريضة تطالب القيّمين على الشركة بتطبيق المرسوم المذكور وتالياً رفع أجور الموظفين، ومضى يتنقل من موظفة إلى موظف لحثهم على التوقيع على العريضة. في هذه الأثناء، كان مدير فرع سبينس ـ ضبيه ونائبه يعيدان قراءة البريد الإلكتروني الذي كان قد أرسله لهما المدير العام للشركة ورئيس مجلس إدارتها مايكل رايت قبل ثلاثة أشهر تقريباً، مفاده أن رفع الأجور المنصوص عنه في المرسوم لا يتناسب أبداً مع أوضاع الشركة المالية وأنه خارج عن المألوف في الإقتصادات الناجحة. وقد أعطى مايكل تعليمات إلى رؤساء الفروع بأن يخفضوا ساعات عمل أجرائهم كي يتفادوا رفع أجورهم، مشدداً على ضرورة تذكير الموظفين بـ”أن هذا الأمر يعني أننا (أي الشركة) ندفع أكثر على ساعة العمل… فنحن نصرّ على عمل وفعالية أكثر في الساعة وأننا سوف نقيس إنتاجية الموظفين”. بمعنى آخر أراد مايكل من موظفيه أن ينتجوا بالمستويات نفسها خلال ساعات عمل أقل ومن دون أيّة زيادة لأجورهم، مضيفاً في نهاية رسالته “نحن نطبّق القانون، لكننا نعدّل سبل تطبيقه”.
تلبية لما تضمّنته رسالة مايكل، كانت إدارة الشركة قد بدأت السعي وراء موظفيها سواء لإبلاغهم بتخفيض ساعات عملهم، مثلما حصل مع إيلي أبي حنّا، أحد الموظفين في فرع الأشرفية، أو لإلزامهم بالتوقيع على كُتُب نموذجية تظهر وكأنها موجهة رضائياً من الأجير المعني إلى الشركة، يتنازل من خلالها هذا الأجير “بشكل نهائي وغير قابل للرجوع عنه عن زيادة الأجور التي أقرت بموجب المرسوم رقم 7426 تاريخ 25/01/2012” (بعد أشهر من ذلك، عندما بدأت العمل على ملف قضية عمّال سبينس في مكتب المحاماة الذي توكّل عنهم، إستطعت الإطلاع على مثل هذه الكتب النموذجية. وقد لفت نظري حينها، رمز أو تشفيرة وردت أسفل الصفحة، جهة اليسار، وهي عبارة عن إسم الشخص المعني والتاريخ – أي من كان من المفترض أن يكون صادراً عنه الكتاب – مكتوبين بأحرف لاتينية وبالحجم والخط نفسهما، على الشكل التالي: Letter of Foulan Foulani 20 03 2012. وأوحى لي هذا التوقيع المشفّر بأن مجمل هذه الكتب صادرة عن الحاسوب نفسه أو عن الشخص نفسه. وسرعان ما سألاحظ مثله لاحقاً في مستندات لم أتوقع إطلاقاً إيجاده فيها، لا سيما نظراً لمصدرها وكاتبها؛ وهو أمر سوف أعود إليه لاحقاً أدناه).
بعد أسبوع تقريباً، وما إن علمت إدارة الشركة بالعريضة التي ينظمها سمير، استدعته لإجتماع في مكتب رئيس فرع ضبيه. روميو مخلوف، نائب الرئيس، يعرف سمير منذ سنوات، فحاول إستعطافه مُعيداً إنتاج فحوى رسالة مايكل رايت قائلاً له “أنظر كيف ترقيّت في الشركة… ومعاشك عالي… والشركة لم تظلمنا يوماً…”، طالباً منه التوقف عن عملية توقيع العريضة من زملائه لأن هذا الأمر يضرّ بمصالح الشركة ويهدد ديمومة بعض الوظائف فيها. ولكنّ سمير لم يرضخ، مفسراً لروميو أن ما تفعله الشركة هو ببساطة مخالفة للنظام العام، فهي ليست قاضية ولا مشرّعة لتطبّق قوانين الدولة على كيفها وبما يتماشى ومصالح مساهميها. “عم نطالب بحقنا” أوضح سمير، مضيفاً أن الوضع المعيشي والإقتصادي يتدهور مع الأيام وأنه وزملاءه بحاجة إلى الزيادة.
سمير معروف لدى إدارة الشركة، يتمتّع بشخصية “قائد” يتمتّع بالإندفاع والميل إلى إطلاق المبادرات والمثابرة فيها ولديه علاقات متنوعة مع مختلف أجراء الشركة في مختلف فروعها، لا سيما في فرع ضبيّه حيث عدد كبير منهم من بلدة سمير، بشرّي. هذا أمر لا يناسب الشركة، لا سيما أن الإدارة أصبحت على يقين أن عدد الموظفين الذين وقعوا على العريضة تعدّى المائة. شبح نقابة عمّالية بدأ يظهر في الأفق. وفي اليوم التالي للجلسة التي عُقدت في مكتب رئيس الفرع مع سمير، إستدعى روميو مخلوف هذا الأخير مجدداً إلى مكتبه طالباً منه التوقيع على كتاب نقله من فرع ضبيه إلى فرع صيدا[1]. ذُهل سمير بهذا الأمر، “عم تحاولوا إقصائي عن زملائي! وصيدا بعيدة جداً عن بيتي! مع حالة الزحمة بالبلد بدي إقضي على الأقل أربعة ساعات على الطرقات ذهاباً وإياباً… هيدا عقاب!”، “هني بحاجة ليد عاملة إضافية خلال شهر رمضان” أجابه روميو، “هيدا تغيير لشروط العمل يا روميو، وهو بمثابة صرف مبطّن” أجاب سمير، “نظام الشركة الداخلي بيسمح بنقلك من فرع إلى آخر” قال روميو، “ربما، ولكن ضمن شروط معينة مثل تأمين مسكن هناك إلخ.، لكن هيدا النقل تحديداً هو بمثابة عقاب لي بسبب العريضة! هذه أوّل مرة يتم نقلي من فرع إلى آخر… شو هل الصدفة!” أجاب سمير، “منّو عقاب يا سمير…” قال روميو. ولكنّه بالفعل كان عقاباً وإقصاءً وتغييراً جوهرياً لعقد عمل سمير، ما دفع هذا الأخير إلى رفض التوقيع على كتاب النقل مع التقدم بشكوى إلى وزارة العمل طالباً منها التدخّل. ولكن هذه الأخيرة لم تحرّك ساكناً. وبعد أسبوعين تقريباً، بتاريخ 29 حزيران فوجئ سمير بكتاب من إدارة الشركة تدعوه فيه إلى الحضور إلى مكاتب الإدارة لتصفية حقوقه وإستقالته الحكمية من العمل نتيجة عدم إلتحاقه بمركز عمله الجديد في صيدا. هكذا وبكل بساطة، صرفت الشركة سمير بعد أكثر من 10 سنوات من العمل لديها مقصية إياه عن زملائه.
وكرد فعل على تلك الخطوة، إجتمع عدد من أصدقاء وزملاء سمير في منزل أحدهم قرب فرع سبينس في ضبيّه. وفي غرفة الاجتماع، كانت رائحة القهوة العربية تفوح من الرّكاء الموزّعة على الطاولات. كان من بين الحضور، فضلاً عن سمير ذاته، كل من ميلاد بركات وإيلي أبي حنّا ومخيبر حبشي من فرع سبينس الأشرفية، وكان الجو مشحوناً حيث ساد مزيج من الغضب والإحباط. حاول المجتمعون إستيعاب صدمة صرف سمير. وبدأوا يناقشون فكرة التكتّل لمواجهة إدارة الشركة، “موظفو الشركة ليسوا راضين بالوضع، المعاشات لم ترتفع وشروط العمل قاسية” قال ميلاد، مضيفاً “إذا بادرنا إلى تأسيس نقابة، منصير نفاوض مع الإدارة رسمياً كتكتل للموظفين وما بتعود تقدر تصرفنا لأنه عم نطالب بحقوقنا… منصير محميين بالقانون من الصرف”. اقتنع الحضور أن إنشاء نقابة عمّالية قد يكون الخطوة الأكثر عقلانية لمواجهة إدارة الشركة وحماية من يواجهها ويفاوضها من الصرف، وذهبوا يتكاتفون ويتّصلون بمعارف لهم للوصول إلى ناشطين عمّاليين ونقابيين يساعدوهم في هذه الخطوة.
لاحقاً تواصل معنا سمير وزملاؤه وكنت لا أزال مساعد محام آنذاك في مكتب المحامي نزار صاغية. أذكر أنّي فور تواصلهم معنا فتحت قانون العمل اللبناني لمراجعة الفصل الخاص بتأسيس النقابات العمّالية، وقرأت المادة 86 التي تنص أنه “لا تنشأ نقابة […] إلا بعد الترخيص من وزير العمل”. إستغربت هذا الأمر، الجمعيات العادية تحتاج فقط إلى علم وخبر من وزارة الداخلية كي تؤسس، فلماذا تحتاج النقابات إلى ترخيص؟ تذكرت خطاب شربل نحّاس في منزله بعد استقالته قبل ثلاثة أشهر: “سنة 1946 حصل إضراب في معمل الريجي في فرن الشباك، حيث كانت العاملات في المعمل يضربن للحصول على حقوقهن، وقررت آنذاك إدارة الريجي إدخال شاحنة إلى المعمل بالقوة… قُتلت عاملة إسمها وردة بطرس إبراهيم… تبعاً لذلك شهدت البلاد إحتجاجات دامت ثلاثة أشهر ضغطت لإصدار قانون العمل الذي تضمن مادة رقمها 83 تنص أن هناك نقابات مستقلة للعمّال ولأرباب العمل…”. مستقلة؟ إنتقلت إلى المادة 83، لا تأتي على ذكر كلمة “مستقلة”، لا بل فحوى المادة 86 وفرضها لترخيص من وزير العمل قد يلغي بنيوياً الهوية المستقلة للنقابات. فضولي دفعني للبحث عن وردة بطرس إبراهيم التي ذكرها شربل وحراك عمّال الريجي سنة 1946. أوّل ما قرأته في إحدى الصفحات الإلكترونية هو أنه ما أن أعلن عمّال الريجي الإضراب العام، حتى اتّخذت إدارة الريجي “قراراً بنقل جان تويني، أبرزِ القادة العمّاليّين في الريجي، من مركز الشركة الرئيسي في بيروت إلى فرعها في طرابلس[2]“. يا للصدف! بعد 66 سنة من تلك الأحداث، ها هي إدارة سبينس تعيد إنتاج نمطيات إدارات الشركات إزاء حراكات عمّالها، فتنقل قائدهم من فرع إلى آخر قبل صرفه من العمل. أيقنت في هذه اللحظة أننا أمام معركة صعبة وقد تكون طويلة. فخصومنا ليسوا إدارة الشركة وحلفاءها فحسب، بل أيضاً العوائق البنيوية غير البشرية مثل نص قانون العمل بحد ذاته. وبدأت أتساءل من هم حُلفاؤنا في المقابل؟
بعد شهر واحد من صرف سمير، وبعد شهر واحد من بدء إجتماعات الأجراء ومشاورتهم لناشطين حقوقيين ونقابيين آخرين، تقدم زملاء سمير بتاريخ 26 تموز 2012 بطلب رسمي إلى وزير العمل للترخيص لهم بتأسيس “نقابة عمّال سبينس في لبنان”. وفي 31 من الشهر عينه، نظموا مؤتمراً صحافياً أعلن فيه رئيس الهيئة التأسيسية للنقابة، ميلاد بركات، تأسيس النقابة وإيداع وزارة العمل أوراقها، داعياً زملاءه في الشركة للإنضمام إليها. دائماً ما أحاول تخيّل أين كان مايكل رايت في تلك الأثناء… وما المشاعر التي إنتابته وما الأفكار التي خطرت في باله عندما شاهد المؤتمر الصحافي؟ إدارة الشركة لن تبقى مكتوفة الأيدي… عليها أن تتحرك، وأن تتحرك سريعاً للتصدّي للنقابة قبل حصولها على ترخيص وزير العمل، أي قبل إكتساب مؤسسيها الصفة النقابية وتالياً الحماية القانونية من الصرف.
وزير العمل آنذاك، سليم جريصاتي، لم يبدِ أي إستعجال في إعطاء الترخيص، رغم الضغوط التي كانت تمارس على هيئة نقابة العمّال التأسيسية، والتي نقلتها عدد من وسائل الإعلام. مرت أسابيع والترخيص لم يصدر. ولكنّ ذلك لم يمنع ميلاد وزملاءه عن المثابرة في العمل النقابي. وفي مثل أي نشاط نقابي وديمقراطي معتاد، ذهبوا يتنقلون من موظفة إلى موظف بهدف تعريفهم على النقابة وماهية أهدافها وتشجيعهم على الإنضمام إليها. بموازاة ذلك، كانت إدارة الشركة هي الأخرى تجهد لصدّ النشاط النقابي هذا. فبدأت بعض الزعامات السياسية تتدخل لدى بعض أجراء الشركة الذين دخلوا إليها في إطار التوظيف السياسي، والذين تالياً يمكنها التأثير عليهم وحثهم على عدم الإنضمام إلى النقابة؛ وفي حال إنضموا إليها، حثهم على الإنسحاب منها. وكان لافتاً بشكل خاص تدخل النائب جبران طوق ونجله وليم وهما أصحاب الأرض في ضبيّة حيث بني فرع سبينس، وحيث تم توظيف عدد هام من الأشخاص المحسوبين عليهما سياسياً. والواقع، أن قسماً هاماً من التوظيف في مختلف فروع الشركة حصل على أساس الإنتماءات الحزبية والولاءات السياسية، وهو أمر يشرح قدرة الأحزاب والزعامات السياسية على التأثير والضغط على أجراء الشركة. فضلاً عن ذلك، ورداً على التغطية الإعلامية التي حظي بها ميلاد ورفاقه، بدأت وكالات الإعلانات، بدفعٍ من الشركة، تتدخل لدى مختلف وسائل الإعلام، من محطات تلفزيونية وجرائد مطبوعة، مستخدمة معها سياسة العصا والجزرة. والرسالة التي أرادت إيصالها أن الشركة تعتزم إعادة النظر في حملاتها الإعلانية الموعودة لدى أية وسيلة تنشر مواد متعلقة بقضية عمّال سبينس. وفي حين صمدت بعض المحطات التلفزيونية والجرائد، تراجع معظمها عن تغطية القضية. وبرزت “الجزرة” في ذهاب بعض هذه الوسائل إلى حد تخصيص فقرات كاملة – حتى في نشرات الأخبار المسائية أحياناً – للترويج لسبينس ولـ”حسن عملها الإجتماعي” المزعوم (مثل مناصرتها لقضايا المعوقين والبيئة إلخ.). غير أن كل هذه التكتيكات لم تنجح في ثني ميلاد ورفاقه عن العمل النقابي، لا بل أنها أدت إلى مضاعفته. هذا الوضع لم تعد إدارة الشركة تحتمله، وبتاريخ 28 آب 2012 – بعد شهر من إعلان تأسيس النقابة وبعد شهرين من صرف سمير – صرفت هذه الأخيرة ميلاد قبل إكتسابه الصفة النقابية وتالياً الحماية القانونية. وما كان لافتاً هو سخافة وعبثية أسباب الصرف المذكورة في كتاب الشركة. ففي حين تشكلت نصف الأسباب المذكورة من أفعال تعود إلى ما يفوق 10 سنوات وبالتالي مرّ عليها الزمن، تعلق النصف الآخر حصرياً بعمل ميلاد النقابي المشروع (مثل توزيعه لمناشير أو إدلائه بتصريحات لصحافيين أو حديثه مع موظفين آخرين بشأن النقابة). ولكن الشركة لم تكتفِ بصرف ميلاد، فقد أبلغت أيضاً مخيبر حبشي، وهو أحد المؤسسين الآخرين للنقابة إلى جانب ميلاد، رغبتها بصرفه قبل أن تعدل عن الموضوع في اليوم التالي وتتذرع بحصول خطأ، وكأنها تهدد هذا الأخير وتحذره من مغبة إستئنافه العمل النقابي.
ما لفت نظري أيضاً في تلك المرحلة من القضية، هو أنه وفي حين تدخلت زعامات سياسية لحث بعض الأجراء على عدم الإنضمام إلى النقابة، لم يصدر في المقابل عن أي من الأحزاب السياسية – حتى اليسارية منها – أي موقف داعم للعمّال. وإن هذا الأمر يدل على مدى تكاتف السلطات الحاكمة والسلطات السياسية بوجه حراك عمّالي مستقل – وهو أمر سوف نعود ونشاهده بشكل أفظع بعد ثلاث سنوات تبعاً لحراك صيف 2015. والواقع أن بين الموقف السياسي الموحّد وتقاعس الإدارة الرسمية، الممثلة بوزير العمل آنذاك، عن التدخل لحماية النقابيين وعمّال الشركة، وفي ظل نصوص قانونية تعزز الحتمية الإجتماعية والإقتصادية وتالياً الحتمية التاريخية إزاء الحركات العمّالية، بدأت أرى أوجه التشابه بين نقابيي سبينس وأسطورة بروميثيوس (Προμηθεύς) الإغريقية – ذاك “التايتن” الذي تحدّى الآلهة ونقل علم النار ومنافعه إلى الكائنات البشرية فعاقبته الآلهة من خلال تقييده على صخرة في جبال القوقاز حيث يأتي نسر كل صباح وينهش كبده الذي يعود لينمو من جديد مساء فيستمر عقابه إلى الأبد، إلى حين وصول البطل هرقل (Ἡρακλῆς) إلى الجبل ليفك سلاسل بروميثيوس ويحرره من العقاب. ومثل بروميثيوس، تحدّى نقابيو سبينس المنظومة التشريعية والسياسية والإقتصادية، فحاولت هذه الأخيرة إقصاءهم ومعاقبتهم وقمعهم. فأين هو هرقل في هذه القضية؟
- نشر هذا المقال في العدد | 61 | تموز 2019، من مجلة المفكرة القانونية | لبنان |. لقراءة العدد اضغطوا على الرابط أدناه:
ليس بالوطنية وحدها تحمى العمالة
[1] تبعد صيدا عن ضبيّه 56 كلم.