كالساحر الذي يخرج من قبعته أيّ شيءٍ يريده، أخرجت الهيئة التي أطلقت على نفسها تسمية “طاولة الحوار” مجلس الشيوخ من قبعة النظام السياسيّ اللبنانيّ، محاولةً إدخال تعديلاتٍ في بنية هذا الأخير بغية إنقاذه وضخّ حياةٍ طائفيةٍ متجددةٍ في جسده المتهالك. ولم تكتفِ “طاولة الحوار” بمصادرة عمل المؤسسات الدستورية ومناقشة أمور لا شأن لها بها بل ذهبت أبعد من ذلك، إذ ارتأت تعديل الغاية التي من أجلها أقرّت المادة 22 من الدستور، أيّ إنشاء مجلس الشيوخ من خلال الفصل بين إلغاء الطائفية السياسية وإستحداث مجلس الشيوخ العتيد.
ولمّا كانت قصة مجلس الشيوخ في لبنان قد بدأت مع تبني الدستور وإعلان الجمهورية اللبنانية، كان لا بد من سرد تاريخ هذه المؤسسة وتبيان طبيعتها في فقرةٍ أولى، ومن ثم دراسة الهدف الذي توخّاه إتفاق الطائف عبر النصّ على إعادة مجلس الشيوخ إلى الوجود مجدداً في فقرةٍ ثانية.
مجلس الشيوخ في زمن الإنتداب
بدأت رحلة مجلس الشيوخ في العام 1925، مع المجلس التمثيليّ الذي أوكلت إليه مهمة صياغة دستور لبنان. إذ شكّل هذا المجلس في 10 كانون الأول 1925 لجنةً مؤلفةً من 13 عضواً تولّت توجيه مجموعةٍ من الأسئلة حول طبيعة النظام الدستوريّ المرتقب إلى شخصياتٍ مرموقةٍ وهيئاتٍ تمثّل مختلف شرائح الشعب اللبنانيّ (رؤساء الطوائف، موظفون كبار، قضاة، نقابات المحامين والأطباء، غرف التجارة، الصحافة، …). وبالفعل، أعدّ مقرّر اللجنة شبل دموس تقريراً حول الأجوبة التي حصلت عليها اللجنة، عرض فيه نتائج الإستطلاع ومن ضمنها ما يتعلق بمجلس الشيوخ. من خلال مراجعة التقرير، يتبيّن لنا أن 125 من أصل 132 إعتبروا في إجابتهم على السؤال الثاني أنه يجب على البرلمان أن يتألف من غرفتين، لما في ذلك من ضمانةٍ لحسن التمثيل والعمل التشريعيّ. أما في ما يتعلق بالسؤال التاسع الذي يعالج مبدأ إنشاء مجلس الشيوخ وتحديد كيفية إختيار أعضائه، إن عبر الإنتخاب أو التعيين، فقد أجمعت الإجابات على الطبيعة المختلطة للمجلس، بحيث يتمّ تعيين قسم من الشيوخ وإنتخاب القسم الأخر. وقد اختلفت آراء المستطلعين حول عدد أعضاء مجلس الشيوخ ومدة ولايتهم، إلا أن مندوب المفوض الساميّ لدى دولة لبنان الكبير ليون سولومياك كان قد سبق له وتباحث في هذه النقطة مع رئيس المجلس التمثيليّ موسى نمّور، واتفقا على أن يتألف المجلس من 16 شيخاً موزعين على الطوائف.
أقرّ المجلس التمثيليّ الدستور في 23 أيار 1926 مستحدثاً سلطة تشريعية تتألف من مجلسٍ للنواب ومجلسٍ للشيوخ (المادة 16)، بينما نصّت المادة 22 منه على التالي: “يؤلّف مجلس الشيوخ من ستة عشر عضواً، يعيّن رئيس الحكومة سبعةً منهم بعد استطلاع رأي الوزراء، ويُنتخب الباقون. وتكون مدّة عضو مجلس الشيوخ ست سنوات، ويمكن أن يعاد إنتخاب الشيوخ الذين انتهت مدة ولايتهم أو أن يجدّد تعيينهم على التوالي”· وخلافاً لما أورده البعض، فإن المقصود برئيس الحكومة هنا ليس رئيس مجلسالوزراء بل رئيس السلطة التنفيذية، أيّ رئيس الجمهورية. إذ يذكر النص الفرنسيّ الأصليّ للمادة رئيس الدولة (chef d’Etat) وليس رئيس الحكومة كما جاء في الترجمة العربية. وتأتي المادة 53 من الدستور لتقطع الشكّ باليقين لمّا تنصّ صراحةً على التالي: “رئيس الجمهورية يعيّن الوزراء، ويسمّي منهم رئيساً، ويقيلهم، ويعيّن عدداً من الشيوخ، عملاً بالمادة الثانية والعشرين…”.
أعطي مجلس الشيوخ صلاحيات هامة، إذ كانت الحكومة مسؤولة أمامه أيضاً. كما اشترطت المادة 55 من الدستور ضرورة حصول رئيس الجمهورية على موافقة ثلاثة أرباع أعضاء مجلس الشيوخ قبل اقدامه على حلّ مجلس النواب. في المقابل، حرم مجلس الشيوخ من حق اقتراح القوانين الذي انحصر برئيس الجمهورية والنواب، كما جعلت المادة 19 من الدستور موافقة مجلس الشيوخ على القوانين التي يقرّها مجلس النواب إختيارية، بحيث لا تحال القوانين على مجلس الشيوخ للمناقشة إلا في حال أبدى هذا الأخير خلال ثمانية أيام رغبته في ذلك.
أما أول تكريس للطائفية السياسية بشكلٍ واضحٍ في الدستور فكان مع المادة 96 التي وزعت المقاعد في مجلس الشيوخ على الطوائف وفقا للصيغة التالية: “توزّع الكراسي في مجلس الشيوخ وفقاً لأحكام المادة الـ 22 والـ 95 على الطوائف بالنسبة الآتية: 5 موارنة، 3 سنيون، 3 شيعيون، 2 أرثوذكس، 1 كاثوليك، 1 درزي، 1 اقليات”، على أن يكون الشيخ “بالغاً من السن خمساً وثلاثين سنة كاملة” (المادة 23).
وهكذا، يكون مجلس الشيوخ التكريس الدستوريّ الصريح الأول لقاعدة التوزيع الطائفي. ولمّا كان إنشاء مجلس الشيوخ يستتبع ضرورة إجراء انتخابات، وتفادياً لإجراءٍ شبيهٍ كان من شأنه أن يعتبر كاستفتاء من قبل الشعب على الدستور الوليد، نصّت المادة 98 على التالي: “تسهيلاً لوضع هذا الدستور موضع الإجراء في الحال، وتأميناً لتنفيذه بتمامه، يعطى لفخامة المفوّض السامي للجمهورية الفرنسوية الحقّ بتعيين مجلس الشيوخ الأول المؤلف وفاقاً لأحكام المادة الـ 22 والـ 96 إلى مدى لا يتجاوز سنة 1928”. وبالفعل، قام المفوض السامي هنري دو جوفنيل بتعيين كلّ أعضاء مجلس الشيوخ في 24 أيار سنة 1926، من دون الحاجة لإجراء انتخابات، علماً أيضاً أن طريقة إنتخاب الشيوخ لم تكن قد حدّدت بعد.
اجتمع مجلس الشيوخ في 25 أيار، وانتخب الشيخ محمد الجسر رئيساً له. وفي 26 أيار، انتخب مجلسا النواب والشيوخ في جلسةٍ مشتركة شارل دباس كأول رئيس للجمهورية اللبنانية. وهكذا، انطلقت الحياة الدستورية في لبنان. ولكن، سرعان ما ظهرت المناكفات السياسية وتعثر إقرار القوانين، بسبب ثنائية السلطة التشريعية المقسومة بين مجلسي الشيوخ والنواب. فقد تأخر إقرار موازنة سنة 1926 التي لم تصدر إلا في 27 نيسان من سنة 1927 (المقارنة مع وضع الموازنة اليوم فيه شيءٌ من التحسّر والسخرية)، ما دفع المفوض السامي بونسو إلى التفكير بتعديل الدستور. وقد أشار إلى ذلك في التقارير التي أرسلها إلى “عصبة الأمم”.
استعر الخلاف بين مجلسي الشيوخ والنواب في أذار 1927، إذ طالب الأول بضرورة تشكيل حكومة جديدة مصغرة تتألف من ثلاثة وزراء فقط، بينما أصرّ مجلس النواب على ضرورة تشكيل حكومة تضم سبعة وزراء. وقد شكّل إميل إده كتلةً معارضةً داخل مجلس الشيوخ تضمّ أيوب ثابت وألبير قشوع، مهمتها التصدّي للحكومة. ما دفع برئيس الوزراء أوغست باشا أديب إلى تقديم استقالته. تدخّل الرئيس دباس، وكلّف بشارة الخوري بتشكيل حكومةٍ سباعية أبصرت النور في 5 أيار، ستتولى بدفعٍ من سلطات الإنتداب الإشراف على تعديل الدستور بغية ليس فقط الغاء مجلس الشيوخ[2] بل أيضاً تقوية السلطة التنفيذية عبر منح رئيس الجمهورية صلاحياتٍ إضافيةٍ تجعل منه الحَكَم في كلّ نزاعٍ قد ينشب بين الحكومة ومجلس النواب. ويأتي ذلك علاوةً على إدخال مبدأ التضامن الوزاريّ في الدستور، بحيث باتت الحكومة تتحمّل مسؤوليةً جماعيةً عن أعمالها أمام المجلس، ما شكّل الإنطلاقة الفعلية للنظام البرلمانيّ في لبنان. أقرّ المجمع النيابيّ (أيّ، جلسة مشتركة لمجلسي الشيوخ والنواب) هذه التعديلات التي صدرت في 17 تشرين الأول سنة 1927 لتضع حدّاً طويلاً لكن ليس نهائياً لرحلة مجلس الشيوخ في لبنان.
مجلس الشيوخ خلال الحرب: مطلبٌ درزيّ
في خضم الحرب الأهلية، برزت فكرة إنشاء مجلسٍ للشيوخ من ضمن المقترحات العديدة التي قدّمت بغية إصلاح النظام اللبناني وتطويره، لكنها لم تأتِ وفقاً لصيغةٍ واحدة. فقد غاب مجلس الشيوخ عن برنامج القوى الوطنيّة والتقدميّة الذي أعلن في 19 آب 1975 ليطالب بإلغاء الطائفيّة السياسيّة، واعتبار لبنان دائرة واحدة، واعتماد النظام النسبيّ. كذلك، لم يرد ذكر مجلس الشيوخ في الوثيقة الدستوريّة التي أذاعها الرئيس سليمان فرنجية في 14 شباط 1976، إذ اكتفت بالدعوة إلى توزيع المقاعد النيابية بالتساوي بين المسيحيّين والمسلمين، وتأكيد العرف القائم بتوزيع الرئاسات الثلاث طائفياً، مع المطالبة بإلغاء الطائفيّة في الوظائف فقط.
أما المطالبة الرسمية الأولى بإستحداث مجلسٍ للشيوخ فقد سجّلت في المذكرة الصادرة عن الهيئة العليا للطائفة الدرزية في آب 1983، إذ دعت لإنشاء مجلسٍ للشيوخ برئاسة شخصيّةٍ درزيّةٍ، يتولى السلطة التشريعيّة مع مجلس النوّاب، على أن تنحصر صلاحياته بالقضايا المصيريّة التالية: تعديل الدستور، الحرب والصلح، المعاهدات والإتفاقات الدوليّة، أنظمة الأحوال الشخصيّة المذهبيّة، الجنسيّة، نظام إنتخابات مجلس الشيوخ، الموازنة العامّة، تنظيم السلطات العامّة، التنظيم الإداريّ للدولة، قانون البلديات، تنظيم القوّات المسلّحة بمختلف فروعها، وإعلان حالة الطوارئ. كذلك، طالبت المذكّرة بضرورة الحصول على إجازةٍ من مجلس الشيوخ قبل تعيين بعض الموظفين الكبار، كقائد الجيش وحاكم مصرف لبنان ورئيس مجلس الشورى والمحافظين.
من الملاحظ أن هذا المذكّرة لم تتطرق لمسألة إلغاء الطائفيّة السياسيّة، لا بل أقرّت بالتوزيع الطائفيّ للرئاسات، أيّ أنها أدخلت مجلس الشيوخ في هذه الحالة ضمن منطق المحاصصة الطائفيّة بحيث لا يشكّل نتيجةً لمسارٍ هدفه إلغاء الطائفيّة السياسيّة في النظام اللبنانيّ.
طرح الموضوع مجدداً في “مؤتمر الحوار الوطنيّ” الذي عقد في جنيف. شكّل المؤتمر لجنةً فرعيّةً ضمّت ممثلين عن مختلف الأحزاب والميليشيات، وأصدرت تقريراً في 11 تشرين الثاني 1983 تضمن في بنده الثاني إقرار المناصفة بين المسيحيّين والمسلمين في مجلس النوّاب. فما كان من ممثلي وليد جنبلاط إلا أن رفضوا هذا البند، مطالبين بإلغاء الطائفيّة في مجلس النوّاب وإعتمادها في مجلس الشيوخ.
إن هذا الفهم الملتبس لدور مجلس الشيوخ يعود ليظهر مجدداً في الدورة الثانية لـ”مؤتمر الحوار الوطنيّ” الذي عقد في لوزان في آذار 1984. إذ جاء فيورقة العمل التي عُرضت في ختام المؤتمر إعلانٌ عن “تشكيل هيئة تأسيسيّة تضمّ ممثلين عن القوى والتوجهات المختلفة في البلاد، لوضع مشروع دستور لبنان المستقبل”. وأشار الإعلان إلى أن الهيئة ستدرس “إستحداث المراكز والمؤسسات المناسبة، بما في ذلك مجلس للشيوخ”. وإلى حين تحقيق ذلك، تطرح ورقة العمل الإبقاء على النظام السياسيّ القائم مع إدخال تعديلاتٍ عليه كإقرار المناصفة بين المسلمين والمسيحيّين في مجلس النوّاب وإلغاء الطائفيّة في الوظائف العامّة باستثناء الفئة الأولى.
ما هو دور مجلس الشيوخ، إذاً؟ هل هو مجرد مطلب للطائفة الدرزيّة يترافق مع الإبقاء على النظام السياسيّ الطائفيّ؟ هل هو تكريسٌ لصيغةٍ مطوّرة من النظام، تُلغى فيها الطائفية من مجلس النوّاب على أن تنحصر في مجلس الشيوخ؟ أم هو مشروعٌ أبعد من ذلك، يترافق مع وضع دستورٍ جديدٍ للبلاد؟ يجدر التذكير هنا بأن تخصيص رئاسة مجلس الشيوخ لشخصيّةٍ درزيّةٍ لم يتكرّس أو يُقرّ في أيّ نصٍّ رسميّ، وقد بقي مجرّد مطلبٍ، إذ أن فكرة إنشاء مجلسٍ للشيوخ لم تحصل حتى على توافقٍ حولها.
مجلس الشيوخ اليوم: تعقيدٌ لتأبيد النظام
جاء إتفاق الطائف ليحسم المسألة. إذ من ضمن الإصلاحات السياسيّة (البند السابع من الفقرة أ)، نصّ على التالي: “مع إنتخاب أول مجلس نوّاب على أساس وطنيّ لا طائفيّ، يُستحدث مجلسٌ للشيوخ تتمثّل فيه جميع العائلات الروحيّة، وتنحصر صلاحياته في القضايا المصيريّة”. وقد أدرج هذا النصّ لاحقاً في متن الدستور (المادة 22 الحالية). وهكذا، يكون إتفاق الطائف قد تبنّى حلّاً وسطاً، إذ لم يقرن إنشاء مجلس الشيوخ بوضع دستورٍ جديد، لكنه في المقابل اشترط إلغاء الطائفيّة السياسيّة كخطوةٍ ضرورية قبل ذلك. ولتحقيق هذا الهدف، وضعت المادة 95 من الدستور آليةً محدّدةً تتضمّن قيام مجلس النوّاب “المنتخب على أساس المناصفة بين المسلمين والمسيحيّين” بتشكيل هيئةٍ وطنيّةٍ برئاسة رئيس الجمهورية،تتولى إقرار خطّةٍ مرحليّةٍ لإلغاء الطائفيّة السياسيّة. فيتبيّن لنا بشكلٍ جليّ أن استحداث مجلس للشيوخ لا يمكن أن يتم قبل إلغاء التمثيل الطائفيّ في الرئاسات وداخل مجلس النوّاب والحكومة.
إن إنشاء مجلس الشيوخ والإبقاء على الطائفيّة السياسيّة هو عودةٌ لمرحلة ما قبل إتفاق الطائف، ويشكّل في الحقيقة مجرّد محاولةٍ من نظام الزعامات القائم في لبنان لإيجاد أطرٍ مؤسساتيّةٍ تعينه على تثبيت سلطته وتأبيد هيمنته الطائفيّة على اللبنانيّين. فالضغوط المتعاظمة التي واجهها النظام السياسيّ مؤخراً والإشتباك المزمن القائم بين أركانه استوجبا منه ردّ فعلٍ دفاعيّ يأتي عادةً عبر “الإعتلاج السلبيّ” (entropie négative)، بحسب مدرسة التحليل السيستامي (analyse systémique). والمقصود بذلك آلية لجوء النظام إلى تعقيد بنيته عبر خلق مؤسساتٍ جديدةٍ تمتصّ الضغوط المتزايدة وتحاول تأطيرها بشكلٍ لا يهدّد ديمومته. وطاولة الحوار نفسها هي خير مثالٍ عن هكذا تعقيد، علماً أنها وصلت بدورها إلى حائطٍ مسدودٍ بسبب فشل التسوية بين أقطابها. ما دفع بالنظام، عبر رئيس مجلس النوّاب، لإدخال جرعةٍ جديدةٍ من التعقيد عبر طرح مجلس شيوخٍ لا يترافق مع إلغاء الطائفية السياسيّة.
إن التفسير الذي طرحه رئيس مجلس النوّاب يثير الإستغراب على أكثر من صعيد. فقد أعلن الرئيس نبيه برّي أن تعبير “مجلس نوّاب وطنيّ لا طائفيّ” الوارد في المادة 22 من الدستور يعني المناصفة بين المسيحيّين والمسلمين. ثم أردف أن مجلس النوّاب هو الذي يفسّر الدستور، وبالتالي يجوز تفسير كلمة “وطنيّ” على قاعدة المناصفة تلك.
يطرح هذا التأويل جملةً من الإشكاليات، أبرزها مخالفته محضر جلسة مجلس النوّاب لتعديل المادة 22 من الدستور المنعقدة في 21 آب 1990. إذ عند وجود إبهامٍ في نصٍّ قانونيٍّ ما، تشكّل المحاضر مرجعاً لتفسير النصّ عبر تبيان نيّة المشترع. وبما أن الرئيس برّي حريصٌ على صلاحية مجلس النوّاب بتفسير الدستور، يتوجب عليه مراجعة التفسير الوارد في المحضر. إذ اعترض رشيد الصلح على كلمة “وطنيّ لا طائفيّ” قائلاً: هل هذا يعني أن “مجلسنا لم ينتخب على أساس وطنيّ”؟ فما كان من الرئيس حسين الحسينيّ إلا أن تدخل موضحاً: “نحن ننتخب على أساس وطنيّ طائفيّ، والمطلوب أن ننتخب مجلساً على أساسٍ وطنيّ لا طائفيّ، هذا كلّ الفرق”. ولم يعترض أحدٌ من الحاضرين على تفسير الرئيس الحسينيّ، إذ كان ظاهراً بشكلٍ جليّ أن كلمة “وطنيّ” تعني “خارج القيد الطائفيّ”، وهو التفسير الذي ينبغي أن يركن إليه الرئيس برّي.
وفي نقطةٍ متصلة وعلى قدرٍ من الأهمية، يجب السؤال على ماذا بنى الرئيس برّي قوله بأن مجلس النوّاب هو الذي يفسّر الدستور؟ لا إختلاف حول حقّ مجلس النوّاب في تفسير الدستور، لكن وفقاً لأيّة آلية؟ فتفسير الدستور هو تعديلٌ مبطّنٌ له، ولا يمكن تفسير النصّ الدستوريّ إلا عبر إعتماد الآلية المحدّدة لتعديل الدستور، أيّ عبر إقرار قانونٍ دستوريّ. فكلّ تفسيرٍ يعتمده مجلس النوّاب بالأغلبيّة العاديّة يتمتع فقط بقيمةٍ سياسيّةٍ، ولا يمكن له أن يصبح ملزماً من الناحية القانونيّة للمحاكم والأفراد وجميع مؤسسات الدولة. فمنح مجلس النوّاب، وهو السلطة التشريعيّة العاديّة، صلاحية تفسير الدستور يشكّل خرقاً لمبدأ فصل السلطات وتوازها، إذ يجعل منه حكماً في كلّ نزاعٍ قد ينشب مع السلطة التنفيذيّة أو القضائيّة. والتفسير الذي قال به الرئيس برّي لكلمة “وطنيّ” هو أكبر دليلٍ على ذلك، إذ يتطلب كي يصبح مقبولاً من الناحية القانونيّة إقرار تعديلٍ دستوريّ يسمح بإنشاء مجلس الشيوخ قبل إلغاء الطائفيّة السياسيّة.
هو سِحرٌ يقارب الشعوذة إذاً، مارسته “طاولة الحوار” عبر مخالفتها موادٍ دستوريّةٍ لا تحتاج إلى تفسيرٍ، ومن خلال تنصيب نفسها لمناقشة أمورٍ تدخل ضمن صلاحيات المؤسّسات الدستوريّة. إنها شطحاتٌ تأويليّةٌ يتلهى بها زعماء نظامٍ ينازع ليبقى.
نشرت هذه المقالة في العدد |42|آب/أغسطس 2016، من مجلة المفكرة القانونية | لبنان |. لقراءة العدد اضغطوا على الرابط أدناه :
[2] في الحقيقة، تمّ دمج أعضاء مجلس الشيوخ مع النواب في مجلس واحد يسمى بمجلس النواب.