مع بداية حصة العمل الصباحي ليوم 11 -10-1991، وردت على فاكس وكيل الجمهورية لدى المحكمة الابتدائية بقرمبالية برقية إعلام من رئيس مركز حرس المرور بمنزل بوزلفة مفادها “تلقينا إخطارا هاتفيا مجهول المصدر خلال الساعات الأولى من اليوم مفاده أن سيارة مجهولة صدمت شخصا بمنطقة خالية وتركته ملقى أرضا. تحوّلنا على متن السيارة الإدارية لمكان الحادث على وجه السرعة. عثرنا على المعني ملقًى على حاشية الطريق وبجانبه شظايا بلورية لمرآة عاكسة. كان يتنفس بصعوبة فتم نقله على وجه السرعة لمستشفى نابل للعلاج”. ساعات بعد ذلك ترد على ذات الفاكس برقية ثانية من نفس المصدر ورد فيها “توفي المصاب ولم نتوصل لمعرفة هويته. تولينا نقل الجثة لغرفة الأموات بمستشفى شارل نيكول بالعاصمة”. بعد أربعة أيام من هذه المراسلات، وجه مركز الحرس لوكيل الجمهورية بحثا أوليا ورد فيه أن مصالح التعريف العدلي أكدت أن الهالك يدعى فيصل بركات وهو معروف لمصالح الأمن لأنه مفتش عنه من أجل جرائم انتماء. وقد تم إعلام أسرته بالحادث وهي تطلب الإذن لها بدفن جثة ابنها. كانت عائلة فيصل تقطن بمدينة سليمان وكان أفرادها يعلمون أن ابنهم لم يمت في حادث مرور كما يدعى لأنه وبكل بساطة كان الأمن قد قبض عليه بمحضرهم ونقل إلى مقر فرقة الأبحاث والتفتيش للحرس بنابل حيث كان شقيقه جمال موقوفا على ذمة ذات التهمة.
بعد الدفن وقبل بناء القبر، يتوجه والد فيصل لوكيل الجمهورية يحدثه بأن ابنه كان موقوفا بما لا يقبل معه ادعاء أنه تعرض لحادث مرور. يطمئنه الوكيل ويؤكد له أن الأبحاث ستكشف الحقيقة وينبهه بأن الحكام يحكمون بالدليل وليس بالتخمين. بعد خمسة أشهر من وفاة فيصل، تمكّن الأب من الدليل الذي طلب منه. فلقد أفرج الأمن على إبنه جمال وهو شاهد عيان على كل ما حصل. اصطحبه للمحكمة وطلب لقاء الوكيل دون أن يفصح عن موضوع حديثه، فكان له ذلك. قال للمسؤول القضائي: “هذا ابني جمال كان موقوفا مع فيصل، سيشهد بالحقيقة سيدي الرئيس”. مباشرة ودون انتظار الإذن، تحدث جمال بما شاهد وعلم. فقال: “لقد عذب أعوان الفرقة أخي لمدة أربع ساعات متواصلة كنا نسمعه فيها يستغيث إلى أن خمد أنينه وعلمنا أنه قد مات. سيدي الرئيس لقد اغتصبوا فيصل بعصا غليظة… ربطوا عضوه التناسلي بخيط صنارة… عذبونا جميعا دون رحمة”. عند هذا الحدّ، انفعل المسؤول القضائي وأنهى اللقاء صائحا: “ما عادش تقول الكلام هذا. تو نتصرفو”[1].
كانت تلك آخر مرة يستجاب فيها لطلب أحد أعضاء أسرة “بركات” بالتحدث إلى وكيل الجمهورية. لم يمنع حديث جمال القاضي من أن يخط على محضر البحث قراره ب “فتح بحث تحقيقي ضد كل من سيكشف عنه البحث من أجل القتل على وجه الخطأ إثر حادث مرور” وأن يتخير من قضاة التحقيق واحدا “منسجما” ليبحث بسرعة في تلك القضية وينتهي دون حاجة لسماعات لإصدار قرار “بحفظ الأبحاث مؤقتا لحين التوصل لمعرفة الجاني”.
لم يجد والد فيصل وشقيقه في قصر العدالة العدل الذي وعدا به. فاشتكيا ظلم الحكام لمكتب منظمة العفو الدولية بتونس. تحدثوا إليهم بحكاية فيصل وأمدوهم بما توصلوا له من وثائق تمثلت في صورة من شهادة حررها الطبيب الذي عاين الوفاة. تحمست العاملون في المنظمة للقضية: نقلوا أوراقها إلى مكتبها المركزي. انتدبوا هناك طبيبا شرعيا يدعى “دريك جوهن باوندا” لدراسة الشهادة الطبية. انتهى الخبير إلى تأكيد أن الوفاة كانت نتيجة مباشرة “لإدخال شيء خارجي طوله يناهز 15,5 سم باغتصاب في الدّبر مما ترتب عنه انفلاق الأمعاء الغليظة”. عرضت المنظمة ما توصلت له على الحكومة التونسية وطلبت منها السماح لمحققيها بلقاء مسؤولين قضائيين بمحكمة قرمبالية.
أزعجت الطلبات رئيس الجمهورية فأمر بتنظيم اللقاء المطلوب وبالعمل بسرعة على غلق هذا الملف المقلق. وتم تكليف وزير العدل بالموضوع، فكلّف بدوره مدير المصالح العدلية بإجراء اللازم. وعليه استقبل وكيل الجمهورية الوفد، مؤكدا لهم أن ما تعرض له فيصل حسب ملف القضية حادث مرور وأن حكاية التعذيب تلك لم يبلغه علم بها في السابق. وأضاف: “القضاء سيبحث في هذه الادعاءات. فالفصل 121 من مجلة الإجراءات الجزائية يسمح باستئناف التحقيق لأعماله إذا برزت أدلة جديدة ونحن ملتزمون بالوصول للحقيقة”.
ثلاثة أيام بعد هذا، ينتقل الوكيل مصحوبا بقاضي التحقيق لمكتب وزير العدل بناء على طلب من الأخير. أشاد الوزير بحسن أداء الوكيل ويمر الحديث سريعا للتخطيط لمستقبل ملف فيصل. كانت التعليمات بأن يعاد التحقيق، فأذن قاضي التحقيق بتكليف لجنة من الأطباء الشرعيين طلب منهم إبداء رأيهم في تقرير الطبيب “باوندا”. تبعا لذلك، فنّد الأطباء استنتاجات هذا الأخير، ليحفظ الملف بالنتيجة نهائيا. تم الأمر كما خطط له ووجه ملف فيصل لخزينة المحكمة ليقبر هناك. لكن تلك النهاية لم تقنع شقيقه “جمال” الذي تواصل مع الحقوقي خالد مبارك المقيم خارج تونس وسلّمه توكيلا يسمح له بأن يطلب تعهد اللجنة الدولية لمناهضة التعذيب بملف شقيقه.
أعتبر رئيس الجمهورية وصول الملف للجنة أمرا يهدد سمعة تونس. جمع وزارات الصحة والعدل والداخلية والخارجية وطلب من القائمين عليها تقديم مقترحات له تكفل بتجاوز الإشكال. اقترح المسؤولون أن يعاد فتح الملف التحقيقي وأن يستمع القضاء لمن ورد اسمهم بقائمة الشهود والشاكين. واقترحت ذات اللجنة أن يتعهد محام “متعاون”، من دون علم أهل فيصل وبمعزل عنهم، برفع قضية في التعويض من أجل حادث مرور باسم ورثة فيصل بما يوحي بكونهم لا ينازعون في الوقائع. نفذ المخطط وفق نصه المعد سلفا وانتهى بأن أصدر قاضي التحقيق قرارا جديدا بحفظ القضية. ترجم عمل التحقيق ووجه للمصالح الدبلوماسية التي اعتمدت عليه لتطلب من اللجنة رفض الدعوى شكلا. خلافا لما كان يأمل النظام به، قبلت اللجنة الدعوى وأمرت السلطة التونسية بإعادة تشريح جثة فيصل. وفي سنة 2009، فتح التحقيق مجددا ولكن دون اتخاذ أي إجراء.
الحلقة الثانية: قاضي التعليمات برسم الشماخي[2]
أرسلت بتاريخ 31-10-1991 فرقة الأبحاث والتفتيش بنابل برقية لوكيل جمهورية قرمبالية ذكرت فيها أن رشيد الشماخي الذي احتفظت به من أجل جريمة “تخطيط لقلب النظام باستعمال السلاح” تعكرت بشكل فجائي حالته الصحية ليلة 26-10-1991. فتمّ نقله لمستشفى نابل حيث فارق الحياة في صباح اليوم الموالي وقد أكد الطبيب الذي عاين جثته أنه كان يعاني من مرض مزمن بالكبد وقصورا كلويا أديا لهلاكه.
تنبّه مساعد وكيل الجمهورية الذي كان يباشر حصة الاستمرار لخرق كبير للقانون حيث أن الأمن لم يصرّح سابقا عن هذا الاحتفاظ خلافا لما هو واجب عليه. كما لم يعلم بالوفاة في وقت حصولها. حمل البرقية للوكيل وأعلمه بما اكتشف. لم يهتم وكيل الجمهورية لما ذكر مساعده وأمره بترك الوثيقة والأمر له.
اتخذ وكيل الجمهورية وقد اختلى بنفسه قرارا بفتح بحث تحقيقي من أجل جرائم القتل العمد وهي العادة في الوفيات التي تتم بمراكز الإيقاف والسجون، وعهد بالأبحاث ذات قاضي التحقيق المنسجم الذي كان يبحث في قضية فيصل بركات (ضحية أخرى من ضحايا التعذيب). اكتفى القاضي المنتدب للمهمة بمحضر بحث مختصر ليتخذ قرارا سريعا في حفظ القضية لعدم وجود جريمة. اطلع الوكيل على قراره ولم يسجل استئنافه له.
بعد أيام قليلة من حفظ القضية، تقدّم المحامي الحقوقي الراحل محمد شقرون بشكاية للوكيل نيابة عن والد رشيد ورد فيها “أن أعوان أمن اعتقلوا رشيد بتاريخ 23-10-1991 ونقلوه لمقر فرقة الأبحاث والتفتيش في نابل. هناك تم تعذيبه. وقد أكد شهود عيان أن حالته الصحية تعكرت ثلاثة أيام بعد الإيقاف نتيجة التعذيب المتواصل، فتم إيداعه بقسم الاستعجالي بمستشفى نابل تحت هوية “خالد بن علي”. وقد وافته المنية بعد ذلك بساعات قليلة. فحصه حينها طبيب يدعى جمال الدين سويلم و أكد أن وفاته نتيجة ضرب وحرر في ذلك شهادة طبية. لكن الأمن رفض تلك الشهادة وكلف طبيبا آخر بإعادة فحصه. لقد ادعى الطبيب المتعاون مع البوليس أن سبب الوفاة مرض قديم بالكبد”. وجّه الوكيل الشكاية لوزير العدل. اطلع الوزير على نصها وكتب بخطه عليها “التريث”، كلمة كانت كافية لترك الشكاية سنة بعد ذلك بالأدراج المغلقة ولأن تنتهي بالحفظ بعد ذلك من دون سماعات أو أبحاث. لقد قررت السلطة ألا تتورط في أبحاث تزيد متاعبها في الخارج.
الحلقة الثالثة: الوظيفة القضائية برسم بركات والشماخي: القضاء المهني ينتصر للعدالة
بتاريخ 12-02-2011، تجمّع أكثر من ألف قاض أمام قصر العدالة بتونس مطالبين باستقلالية القضاء ومتعهدين بالالتزام بقيم الثورة. ترجم القاضي علي عباس وقد كان أحدهم تلك الشعارات في مكتب التحقيق الأول بقرمبالية الذي نفض الغبار عن ملف الموت المستراب لفيصل بركات والذي كانت التعليمات قبل الثورة قد دفنته في الأدراج. في ذات المحكمة وتحديدا بمكتب التحقيق الرابع، كان القاضي برهان بوعزيزي وقد تعهد بشكاية تقدم بها بتاريخ 14-07-2011 ورثة رشيد الشماخي المشتبه في كونه مات تحت التعذيب كما فيصل سنة 1991، قد عزم على المضي في ذات السبيل.
انكبّ المحققان على ملفيهما. كانت المعطيات شحيحة في بداية عملهما خصوصا وقد تمسك كل من تم سؤاله بإنكار معرفة الوقائع. انكبّا على ما توفر من شهادات أدلى بها ضحايا أكدوا أنهم كانوا من ضمن من احتجزوا بذات تاريخ اعتقال فيصل ورشيد بمقر فرقة الأبحاث والتفتيش للحرس بنابل ليمضيا قدما في حجز وثائق إدارية وقضائية تثبت تورط أجهزة الدولة في محاولة التغطية على الجريمتين.
شملت الأبحاث التي قاما بها قيادات سياسية وأمنية وكذلك أطباء ودبلوماسيين وقضاة وانتهت في محصلتها لتقديم رسم يفكك إلى حد بعيد مفاصل الدولة البوليسية بامتداداتها المتشعبة زيادة على نصوص محاسبة من اتهموا في الواقعتين.
لم يُرضِ في حينه جهد القاضيين جانبا هاما من دوائر القرار خصوصا وأن قرارات الإيقاف التي صدرت عنهما حينها شملت شخصيات سياسية بارزة لم تفقد بعد قدرتها على التأثير. كما لم تجد الحقيقة التي توصلا لها قبولا من جانب من الوسط الحقوقي أراد أن يحتكم لشرعيته النضالية ليكون من يحدد من ينسب له الانتهاك ومن يبرأ منه.
لاحقا اتّضح أن الملفين اللذين كوناهما باتا من أهم الوثائق التي تسمح برسم صورة واضحة عن منظومة الفساد التي كانت تحكم قبل الثورة. كما كشف أداؤهما عن قدرة القاضي متى توفرت له ضمانات الاستقلالية وكان متشبعا قيم الوظيفة القضائية على تحقيق العدالة وصناعتها. وتبدو في هذا الإطار تجربتهما مثالا يستحق أن يدرس ويُدرًس.
- نشر هذا المقال في العدد 16 من مجلة المفكرة القانونية | تونس |. لقراءة العدد اضغطوا على الرابط أدناه:
[1] لا تردد هذا الحديث انا سأتكفل بالأمر .
[2] تم تجميع المعطيات التي تعلقت بهذه الصورة من أعمال قاضي التحقيق برهان العزيزي الذي تعهد سنة 2011 بالبحث في وقائع قضية رشيد وبذل مجهودا هائلا في تفكيك منظومة الفساد التي تدخلت في صناعتها ومنها القضاء.