خلال الأسبوع المنصرم، أعلنت النّيابة العامّة التمييزيّة عن سلسلة من الإجراءات بخصوص الأملاك العامة البحرية المُعتدى عليها، بما يُعطي إنطباعاً على حرصها في استعادة هذه الأملاك. يأتي هذا التطوّر بعد ستّة أشهر من إنتهاء المهلة القانونية (30 ت1 2019) لتقديم طلبات معالجة المخالفات البحريّة وفق قانون 2017، وبعدما ثبت أن أكثر من 640 اعتداء موثّقا لم يُقدّم بشأنها أيّ طلب قبل هذا التاريخ. وكان قانون 2017 فرض في هذه الحالة إسترداد الأملاك المُعتدى عليها، مع إلزام المسؤولين عنها بتسديد غرامات مضاعفة عن الفترة الماضية، فضلاً عن مُلاحقتهم بجرم الإستيلاء على الأملاك العامة. وقد بدا تأكيد المشرّع على وجوب التشدّد إزاء الإخلال بموجب المعالجة، وكأنه العقاب الذي سينتظر كلّ من يستعلي على الدولة رغم تساهلها إزاء الإعتداء المتمادي عليها طوال عقود.
وقد تمثّلت إجراءات النيابة العامة التمييزيّة بشكل خاصّ في نشر الكتاب الذي وجّهته لوزارة الأشغال العامة (مديرية النقل البحري) بتاريخ 7 أيار. وبالتدقيق في مضمونه، يتبيّن أنّ الإجراء الوحيد الذي أعلنت نيتها القيام به هو تكليف مفارز الشواطئ التابعة لقوى الأمن الداخلي باستدعاء المعتدين الذين لم يتقدّموا بملفات معالجة للمخالفات المرتكبة منهم أو الذين لا تتوفر فيهم شروط المعالجة (المخالفات المرتكبة بعد 1994) بغرض حملهم على التقدّم إلى وزارة الأشغال العامة بطلب لتسديد غرامة التأخير المضاعفة (3 مرات). بمعنى أن هذا الكتاب لم يتحدث قطّ عن إقفال هذه المؤسسات أو استردادها وفق ما نصّ عليه قانون 2017، بل فقط عن حمل أصحابها على تقديم طلب لدفع الغرامة التي تستحق أصلاً من دون أي طلب.
وقد تضمّن الكتاب معلومات أخرى من شأنها أن تفسّر مضمونه. فبعدما كشف في مقدّمته أنّه يأتي تِبعاً لاجتماع حصل منذ قرابة أربعة أشهر (20/1/2020) وحضره مدير عام الواردات في وزارة المالية لؤي شحادة ومدير عام النقل البحري عبد الحفيظ القيسي ورئيسة مصلحة الإستثمار في وزارة السياحة حول هذا الموضوع، كشف بأنّ اتّفاقاً حصل آنذاك على وضع دراسة لآلية وضع اليد على المخالفات التي لم يتقدّم أصحابها بطلبات معالجة وكيفية استثمارها لاحقاً من قبل الدولة تحقيقاً للإيرادات مع إعطاء الأولوية لملاحقة الشاغلين لغايات سياحية والتنسيق مع وزارة الشؤون الإجتماعية للإشغال السكني غير السياحي. وقد انتهى الكتاب تاليّا إلى دعوة الوزارة إلى البدء بوضع اليد على المخالفات المذكورة واتخاذ الإجراءات اللازمة لتحديد الشروط المفروضة لكيفية إستثمارها لاحقاً تحقيقاً للإيرادات لجهة دفاتر الشروط والبتّ فيها في دائرة المناقصات ووضع خطة سكنيّة بالتنسيق مع وزارة الشؤون الإجتماعية. ولم ينسَ الكتاب التأكيد على تواصل الشاطئ للعموم مع أجزاء مفتوحة من الأملاك العامة البحرية المشغولة بترخيص.
أما التدبير الثاني، فنستشفّه من الخبر الذي نشرتْه الوكالة الوطنية (13 أيار) وقوامه أن مفارز الشواطئ باشرت بإشارة من المحامي العام التمييزي غسان الخوري استدعاء أصحاب المخالفات البحريّة كافة، على أن يبدأ إقفال المشاريع المخالفة خلال أسبوع بعد انتهاء التعبئة العامة. نلحظ هنا أن الخبر المنشور (وهو غير رسمي) يذهب أبعد من الكتاب الرسميّ المعلن عنه. فالمهمة المناطة بالمفارز وفق الخبر لا تقتصر على استدعاء أصحاب المشاريع المخالفة بل تتضمن إغلاقها وإن بعد حين (أسبوع بعد انتهاء التعبئة العامة). لكن هنا أيضا، نتحدث عن إغلاق المشاريع وليس عن استردادها والذي هو يتطلب إجراءات إضافية، أهمها اضطلاع وزارة الداخلية "المغيّبة" و"الصامتة" تماما بمسؤولياتها في هذا الخصوص.
وقبل المضيّ في تفسير هذه المواقف، يجدر التذكير بأن النيابة العامة التمييزية كانت استثارت العديد من النقد حين قررت في 6 شباط 2020 إمهال المخالفين الذين لم يقدّموا طلبات معالجة ضمن المهلة القانونية شهرا لاتخاذ الإجراءات اللازمة لتسديد الغرامات المتوجبة عليهم. كما يذكّر بأن لجنة الأشغال العامة والنقل النيابية عقدَتْ إجتماعا في 18 شباط 2020 بحضور ممثّل عن النيابة العامة التمييزية في هذا الخصوص. وقد نقلت جريدة الأخبار أنّ غالب النواب أبدوا برودة إزاء رفع يد هؤلاء عن الأملاك البحرية المُعتدى عليها مع ميل لديهم لمنح مهل جديدة بغرض تحصيل إيرادات للدولة. وبذلك، بدا مسؤولو الدولة وكأنهم يستمرّون في سياسة التراخي في التعامل مع احتلال الأملاك العامة البحرية، بما يخالف الخطاب العام حول استرداد الأموال المنهوبة ومكافحة الفساد.
إنطلاقا من ذلك، نسجل الملاحظات الآتية:
أولا، النيابة العامة تلتزم بتسليع الشاطئ خلافا للقانون
أن النّيابة العامة تقرّ أنها لا تتّخذ مواقفها منفردةً تنفيذاً للقانون، إنما بناءً على تفاهمات مع إدارات عامّة أخرى ووفق ما تراه مع هذه الإدارات ملائما. وهذا ما تعكسه الإشارة الواردة في كتابها المؤرّخ في 7 أيار للإجتماع الحاصل مع موظفين كبار في وزارات المالية والأشغال العامّة والسياحة. وقد إنعكس هذا الأمر ليس فقط على وجهة قراراتها، إنما أيضاً على ماهيّتها. فوقف الإعتداء على الملك العامّ واسترداده لا يشكلان وفق ما جاء في كتاب النيابة العامة استحقاقا فوريا تقتضيه وظيفة الحفاظ على أملاك الدولة وبخاصة العامة منها، إنما يكون كذلك فقط في حال اقتضتْه الضرورات والمصالح التي تحدّدها الإدارات العامة المذكورة. وهذا ما نتبينه بوضوح كلي من نتائج الإجتماع المذكور حيث تمّ ربط إسترداد الأملاك المعتدى عليها ليس فقط بوضع "آلية لوضع اليد عليها"، إنما أيضا بإمكانية إستثمارها لاحقا من قبل الدولة تحقيقا للإيرادات. وهذا أيضا ما يتأكد من إعطاء الأولوية لملاحقة الشّاغلين لغايات سياحية (المنتجعات)، وعمليا للمؤسسات الأكثر قابلية للإستثمار الفوري وأيضا من المطلب الذي وجهته النيابة العامة لوزارة الأشغال العامة في خاتمة كتابها بوضع دفاتر شروط والبتّ فيها في دائرة المناقصات. وخير دليل على التّلازم الحاصل بين استرداد الملك العام (بل ربما اشتراطه) وكيفية إستثماره هو تغليب كفة وزارة الأشغال العامة (التي هي المسؤولة عن إدارة الملك العام) في إجتماع كانون الثاني التنسيقي مقابل تغييب وزارة الداخليّة التي هي صاحبة الصلاحيّة لاسترداد الأملاك المعتدى عليها عنه.
وبذلك، تتصرّف النّيابة العامّة بشكل يخرج عن صلاحياتها ومسؤولياتها، حيث أن واجبها يقتصر على ملاحقة الإستيلاء على الملك العام، بمعزل عن كيفية استثماره، وهو أمر يجدر أن تقرره الإدارة بعد وضع اليد عليها على ضوء سياساتها العامة وما تسمح به القوانين المعمول بها.
بالإضافة إلى ذلك، تجدر الإشارة إلى أن توجّه النيابة العامة على هذا الوجه لا يشكّل تجاوزا لصلاحياتها وحسب، إنما يشكل إخلالا تامّا بقرار 144/1925 بشأن الأملاك العامة البحرية والذي نص صراحة على أن استثمارها يتمّ بشكل إستثنائي، وهو لا يحتمل علاوة على ذلك حصوله على إنشاءات دائمة هي بطبيعتها مخالفة للقانون. ولا نستغرب أن ترسي المزايدة على استثمار غالبية هذه الأملاك على مستثمريها الحاليين بالتعدي أو شركائهم، مما يشكل عمليا وجها آخر من أوجه تشريع المخالفة (وتأبيدها).
ومؤدى هذه المخالفات المتعددة في عمل النيابة العامة هو التسليم بالنموذج الذي فرضته الحرب والذي يقوم على تسليع الشاطئ، وعمليا على تحويله من مساحة عامة للجميع تندرج ضمن تصوّر معيّن للحياة المدينية والسياحة، إلى سلعة تُؤجّر وتُستثمر بغية تحقيق إيرادات مالية وتندرج في إطار الإقتصاد الريعي الذي تحكّم بلبنان طوال العقود الثلاثة الماضية. وبالطبع، هنا، لا تلام النيابة العامة وحدها، بل أيضا وزارة الداخلية التي لم تحرّك ساكناً لاستعادة أي من الأملاك البحرية، وأيضا الحكومة التي تبدو مهووسة بكيفية تحقيق إيرادات للخروج من أزمتها المالية، ولو بصور غير مستدامة وتتعارض مع خطابها المعلن لبناء اقتصاد منتج على أنقاض الإقتصاد الريعي.
ثانيا، النيابة العامة تميّز حيث لم يميّز القانون من دون مبرر
أن النيابة العامة بدت وكأنها تصنّف المخالفات التي لم يقدّم معالجة بشأنها ضمن فئتين: فئة المنتجعات السياحية وفئة المساكن. وفيما كشفت أن النيّة تتّجه إلى إجراء مزايدة بشأن الأولى بموجب دفاتر شروط تكلفت وزارة الأشغال العامة في وضعها، فإن إشغال الأماكن المستخدمة لغايات سكنيّة يتقرّر بالتنسيق مع وزارة الشؤون الإجتماعية وضمن خطة تهدف لتأمين مساكن بديلة. وفيما يفهم تماماً أن تربط الدولة إخلاء الأملاك العامة المشغولة من قبل أصحاب المداخيل المحدودة بإيجاد مساكن بديلة لهم عملا بحق السكن ذات القيمة الدستورية، فإن هذا التصنيف يطرح إشكالات عدة، أبرزها الآتية:
- أنّ وجهة إستخدام الأملاك البحرية المُعتدى عليها لا تقتصر على السكن والمشاريع السياحية، إنما نجد مجموعة من المؤسسات الأخرى، منها المؤسسات التجارية والصناعية والزراعية (المعتدية بعشرات آلاف الأمتار بالنسبة إلى بعضها) فضلا عن الشاليهات ذات الاستخدام الشخصي. وعليه، فإن هذا التصنيف الثنائي لا يعطي صورة واضحة عن حقيقة المخالفات،
- أنّ الأماكن المستخدمة لغايات سكنيّة هي الأخرى لا يجوز وضعها في خانة واحدة، طالما أن بإمكان ذوي المداخيل المحدودة وحدهم التذرّع بحقّ السّكن ومطالبة الدولة بمساعدة إجتماعية تسبق إخلاءهم من الأماكن البحرية المشغولة منهم. بالمقابل، يكون إسترداد الأملاك العامة المستخدمة للسكن واجبا فوريّا في مجمل الحالات التي يشكل فيها التعدي امتدادا لمنشآت مقامة على ملكيات خاصّة أو يمتدّ التعدي ليشمل مساحات واسعة للمسكن الواحد، من غير الجائز تبريرها بحق السكن لذوي المداخيل المحدودة.
وفيما يشكل التمييز غير المبرر بين المخالفات بحدّ ذاته مخالفة جسيمة لواجبات النيابة العامة، فإن مؤدّاه مجاملة فئات واسعة من المعتدين، قد يبقون بمنأى عن أي ملاحقة، بفعل أولويات الإسترداد المشار إليها أعلاه. وأكثر ما يُخشى تبعا لذلك، أن يتحوّل هذا التمييز إلى ذريعة يستخدمها أصحاب المنتجعات لادّعاء "المظلومية"، وهو أمر استخدمه الكثير من المعتدين بنجاح لعرقلة أي إجراء قد يتخذ ضدهم.
ثالثا، النيابة العامة تتباطأ في تطبيق القانون
أن النيابة العامة بدت وكأنها غير مستعجلة في مساعيها. وهذا ما نتبينه من سلسلة من الأمور:
- أن أول مواقفها جاء بعد ثلاثة أشهر من إنقضاء المهلة لتقديم طلبات معالجة، وقد تمثل في إعطاء مهلة شهر إضافية لهؤلاء لمراجعة وزارة الأشغال العامة بغرض تسديد الغرامة المتوجبة، كل ذلك من دون ممارسة حق الإدعاء ضد أي منهم.
- أن الكتاب الصادر عنها في 7 أيار (وهو الموقف الثاني) فقد جاء بعد زهاء 3 أشهر ونصف من الإجتماع الحاصل مع الإدارات العامة لوضع آلية لاسترداد الأملاك العامة وبعد شهرين من انتهاء المهلة التي كانت منحتها لتسديد الغرامات. علاوة على ذلك، عاد الكتاب ليربط تنفيذ القانون (استرداد الأملاك العامة المعتدى عليها) بالإنتهاء من إجراءات مستقبلية (وضع دفاتر شروط ضمانا لاستثمار هذه الأملاك). وهو أمر غير مفهوم طالما أن النيابة العامة لم تعلّق أيا من تدابير الملاحقة في أي من الجرائم الكبرى كما هي حال جرم الإستيلاء على الملك العامّ، بالتعبئة العامة. وعليه، تبدو النيابة العامة وكأنها تبعد عنها ما قدرت كأس استرداد الأملاك المنهوبة أو كأنها تسعى لكسب الوقت أو إكسابه لمن هم في موقع المعتدين أو لمن يبتغي تجنيبهم خسارة حيازتهم للملك العام أو إعطاءهم مهلا جديدة لمعالجة أوضاعهم.
رابعا، النيابة العامة تقنع وتحث ولا تفرض
أن النيابة العامة التمييزية بدت وكأنها تؤثر استخدام لغة الحثّ في مقاربة المُعتدين على الأملاك العامة على لغة الفرض. وهذا ما يتمثّل في إعطاء المهلة تلو الأخرى كما سبق بيانه، وربط وقف الإعتداء بكيفية الإستفادة من الأملاك العامة. وقد بدت النيابة العامة في هذا المضمار وكأنها تكرر النهج الذي كانت اختارته في مقاربة المصارف وانتهى إلى إخفاق ذريع.