مع تكثيف السلطات الحالية في مصر اللجوء الى تدبير منع السفر بما فيه من تقييد لحرية أساسية من الحريات الشخصية وهي حرية التنقل وخصوصا ضد معارضيها، تنشر المفكرة هنا دراسة للدكتور فتوح الشاذلي يبين فيها مخالفة هذا التدبير للدستور فضلا عن عدم استناده الى أي مسوغ شرعي. وترحب المفكرة بأي مقال أو شهادة حول كيفية فرض هذا التدبير من قبل السلطات الحالية: فما نفع صناعة الدساتير الواحد تلو الآخر مع ما يستغرقه ذلك من نقاشات ومطولات واستفتاءات، ما نفع ملء الدستور بلوائح للحقوق والحريات، إذا بقي الدستور بجميع مواده، تحت سقف ما تراه السلطة مناسبا من دون رادع؟ (المحرر)
د. فتوح الشاذلي
نصت المادة 54 من مشروع الدستور الجديد على الحرية الشخصية باعتبارها حقاً طبيعياً، وهي مصونة لا تمس. وفيما عدا حالة التلبس، لا يجوز القبض على أحد أو تفتيشه أو حبسه أو تقييد حريته بأي قيد إلا بأمر قضائي مسبب يستلزمه التحقيق. ونصت المادة 62 على حرية التنقل والإقامة والهجرة التي يكفلها الدستور، فلا يجوز إبعاد أي مواطن عن إقليم الدولة، ولا منعه من العودة إليه. ولا يكون منعه من مغادرة إقليم الدولة، أو فرض الإقامة الجبرية عليه، أو حظر الإقامة في جهة معينة عليه، إلا بأمر قضائي مسبب ولمدة محددة، "وفي الأحوال المبينة في القانون". وكان دستور 1971 ينص على الحق في حرية التنقل وعدم جواز تقييدها إلا وفقاً لأحكام القانون، كما نص عليها دستور 2012 واشترط لمنع المواطن من مغادرة الدولة أو فرض الإقامة الجبرية عليه أن يكون ذلك لمدة محددة وبأمر قضائي مسبب طبقاً للقانون، وعلى ذلك نص الإعلان الدستوري النافذ حاليا.
فطبقاً للدساتير المصرية، يلزم لإمكان منع مواطن من السفر إلى خارج البلاد أن يحدد القانون الأحوال التي يجوز فيها المنع من السفر، وأن يصدر الأمر من جهة قضائية، وأن يكون مسببا ومقيدا بمدة يحددها الأمر القضائي الصادر بالمنع. لكن الممارسة الفعلية لإجراء المنع من السفر على أرض الواقع لا تتقيد بأي ضمانة من هذه الضمانات الدستورية.
أولاً: عدم وجود قانون يبين حالات وشروط المنع من السفر:
لا يوجد في قانون الإجراءات الجنائية أو أي قانون آخر في مصر نص يخول سلطة التحقيق إصدار الأمر بمنع أي مواطن من السفر. ولا يقال أن للمحقق أن يتخذ أي إجراء يراه لازما لمصلحة التحقيق الجنائي، وأن إجراءات التحقيق غير محددة في القانون على سبيل الحصر. فهذا القول مردود عليه بأن الإجراءات الجنائية، لا سيما تلك المقيدة للحقوق والحريات الواردة في الدستور، تخضع لقاعدة الشرعية الإجرائية، ومقتضاها طبقاً للنصوص الدستورية أن كل إجراء منها يجب أن يكون له سنده القانوني. فالدستور لا يجيز المنع من مغادرة إقليم الدولة إلا "في الأحوال المبينة في القانون"، ولا يمكن أن يغنى عن القانون أي إرادة أخرى أدنى من القانون.
ومع ذلك جرى العمل على أن يصدر النائب العام أو قاضي التحقيق أمراً بمنع بعض المتهمين من السفر كإجراء احتياطي من إجراءات التحقيق، دون الاستناد إلى نص قانوني محدد، وذلك في إطار تحقيق يجري مع المتهم. لكن المواطن قد يفاجأ عند سفره إلى خارج البلاد، وبعد إنهاء إجراءات سفره، أنه مدرج على قوائم الممنوعين من السفر، دون أن يكون هناك أي تحقيق يجري معه. وفي هذه الحالة، يتم استرجاع حقائبه من الطائرة، ويسمح له بمغادرة الدائرة الجمركية، إذا كان المنع غير مقترن بالضبط والإحضار. وهو لا يعلم متى تم إدراج اسمه على قوائم الممنوعين من السفر، أو سبب ذلك، أو الجهة التي أمرت بإدراج اسمه على هذه القوائم. وقد يتطوع ضابط الجوازات بالمطار ويبلغ المواطن أن جهة أمنية هي التي أمرت بذلك، أو يخطره بها كي يتوجه إليها لمعرفة سبب الإدراج على القوائم.
والحقيقة أن المنع من السفر ينظمه قرار لوزير الداخلية صدر في 1994 بشأن تنظيم قوائم الممنوعين من السفر وترقب الوصول. هذا القرار حدد في مادته الأولى الجهات التي يجوز لها طلب المنع من السفر، ومن بينها المحاكم والنائب العام وجهاز الكسب غير المشروع والنيابة العسكرية والرقابة الإدارية والأمن العام وجهات أمنية وعسكرية أخرى. ونص قرار وزير الداخلية على تفويض الإدارة العامة للجوازات والهجرة والجنسية للنظر فيما يرد لها من طلبات من الجهات الأمنية والعسكرية التي حددها القرار. كما أنشأ القرار لجنة للنظر في التظلمات التي ترد إليها من قرارات المنع من السفر. والمنع من السفر نوعان: المنع البسيط وفيه يسمح للمسافر بمغادرة الدائرة الجمركية وتسلم حقائبه، والمنع المقترن بالضبط والإحضار وفيه يجرى القبض على المسافر وتسليمه إلى الجهة التى طلبت الإدراج.
كذلك كانت المادة الثامنة من قرار رئيس الجمهورية بالقانون رقم 97 لسنة 1959 في شأن جوازات السفر، تخول وزير الداخلية سلطة تحديد شروط منح جواز السفر، وسلطة رفض منح الجواز أو تجديده، وسحبه بعد إعطائه، بما يؤدي إلى منع المواطن من السفر، باعتبار جواز السفر هو الوسيلة الوحيدة التي تمكن المواطن من مغادرة وطنه والعودة إليه. لكن المحكمة الدستورية العليا، في حكمها الصادر بتاريخ 4 نوفمبر سنة 2000، قضت بعدم دستورية نص المادتين 8، 11 من القرار بقانون في شأن جوازات السفر، لأن المشرع بهذين النصين يخول السلطة التنفيذية، ممثلة في وزير الداخلية، بتنظيم ما يمس الحق في حرية التنقل التي كفلها الدستور، وهو بذلك يخالف الدستور الذي لم يعقد للسلطة التنفيذية اختصاصاً بتنظيم هذا الأمر، ويتنصل من اختصاصه بوضع الأسس العامة التي تنظم موضوع جوازات السفر الذي يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالحق في حرية التنقل.
وبذلك لا يوجد في الوقت الحالي أي سند قانوني للقرارات الصادرة من النائب العام أومن غيره من السلطات بطلب إدراج المواطن على قوائم الممنوعين من مغادرة البلاد. وما يحدث عملاً أن النائب العام يصدر أمره بمنع الشخص من السفر، ثم يرسل الملف إلى وزارة الداخلية، التي تصدر قرارها، عن طريق الإدارة العامة للجوازات والهجرة والجنسية، بالإدراج على قوائم الممنوعين طبقاً لقرار وزير الداخلية المشار إليه، والقرار رقم 3937 لسنة 1996 الصادر تطبيقاً للمادة 11 من القرار بقانون رقم 97 لسنة 1959، والتي حكم بعدم دستوريتها، فسقطت وسقط معها القرار المستند إليها، ومنذ صدور هذا الحكم الدستورى، حدث فراغ تشريعي بصدد موضوع المنع من السفر، لا يزال قائماً حتى وقتنا الراهن.
ثانياً: التكييف القانوني لإجراء المنع من السفر:
يتبين مما تقدم أن قرار المنع من السفر الذي يصدره النائب العام أو غيره من الجهات التي حددها قرار وزير الداخلية، لا يعدو أن يكون مجرد طلب يتقدم به مصدر القرار إلى وزير الداخلية، صاحب الاختصاص، غير القانوني، في إصدار قرارات الإدراج على قوائم الممنوعين من السفر. فالقرار لا يصدر من النائب العام أو غيره من الجهات، وإنما يصدر من وزير الداخلية، الذي يستطيع أن يستجيب لطلب النائب العام أو غيره أو لا يستجيب، طبقاً للاعتبارات الأمنية التي يقدرها الوزير. فجهة الإدارة ممثلة في وزير الداخلية أو من يفوضه يكون لها سلطة تقديرية في الاستجابة أو عدم الاستجابة لطلب الإدراج على قوائم الممنوعين من مغادرة البلاد. ونستند في هذا الفهم إلى نص المادة الثالثة من قرار وزير الداخلية، بشأن تنظيم قوائم الممنوعين من السفر، فهذه المادة تخول مدير مصلحة وثائق السفر والهجرة والجنسية سلطة البت في الطلبات التي تقدم من الجهات التي نصت عليها المادة الأولى من قرار وزير الداخلية، وتنص صراحة على أن "توجه طلبات الإدراج على القوائم والرفع منها إلى مصلحة وثائق السفر والهجرة الجنسية … وتسلم هذه الطلبات إلى مدير إدارة القوائم بالمصلحة لاتخاذ اللازم نحوها"، كما تنص في فقرتها الثانية على أن "يكون لمدير مصلحة وثائق السفر والهجرة والجنسية النظر في طلبات القيد بقوائم الممنوعين من مغادرة البلاد أو من الدخول إليها أو الرفع من القوائم والبت فيها".
من هذا النص يتضح بجلاء أن مدير مصلحة وثائق السفر هو صاحب السلطة المختص بالبت في الطلبات الخاصة بالمنع من السفر التي تقدم من الجهات التي أجاز لها قرار وزير الداخلية التقدم بها. فلا اختصاص للنائب العام في وضع الشخص على قوائم الممنوعين من السفر ولو كان يجري معه تحقيقا جنائيا. ولا اختصاص لغيره من الجهات الأمنية أو العسكرية بالإدراج على قوائم الممنوعين. وإنما الذي يقوم بالإدراج هو وزير الداخلية أو من فوضه، بقرار وزاري صادر من وزير الداخلية ذاته، لا يستند إلى نص قانوني يخوله إصدار مثل هذا القرار. فالدستور لم يجز تقييد حق المواطن في حرية التنقل لغير السلطة التشريعية على أن يتم ذلك بقانون يحدد ماهية هذه القيود وموجبها وشروط فرضها والسلطة المفوضة باتخاذ القرارات في هذا الخصوص. فالجدير أن يكون تنظيم الحق في حرية التنقل تنظيماً دقيقاً يتلاءم وسموه وبضمانات تليق به.
وبناء على ما تقدم يكون القرار الصادر من وزير الداخلية بمنع المواطن من السفر قراراً إدارياً يفتقد السند التشريعي طبقاً لصحيح الدستور والقانون. ويجوز لمن صدر بحقه هذا القرار أن يطعن عليه أمام القضاء الإداري مطالبا بإلغائه، ولو صدر بناء على طلب من النائب العام. ولم تخرج أحكام القضاء التي تعرضت لموضوع المنع من السفر عن هذا الفهم عند تكييفها لأوامر المنع لتحديد موقفها منها.
ثالثاً: موقف القضاء المصري من أوامر المنع من السفر:
أكد القضاء، في ظل النصوص الدستورية المصرية المتعاقبة، اختصاص المشرع المانع واحتكاره دون غيره تنظيم موضوع المنع من السفر، في إطار النصوص الدستورية المقررة للحق في حرية التنقل، وما يرد عليه من قيود وإجراءات، تمس الحرية الشخصية وتجردها من بعض خصائصها. فمن المقرر قضاء أن تنظيم الحقوق والحريات العامة يكون من قبل المشرع وحده، المنوط به سن القوانين المنظمة لها، وهو اختصاص استئثاري، لا يقبل تفويضاً في ممارسته، ولا يجوز التنصل منه ونقله إلى أي من السلطتين التنفيذية أو القضائية، وإلا كان مسلكه مخالفاً للدستور.
فمحكمة النقض المصرية كان لها فضل السبق في تقرير مبدأ عدم جواز المنع من السفر، في حكم أصدرته الدائرة المدنية سنة 1988، ألغى حكماً استئنافياً بمنع الشخص من السفر ضماناً لتنفيذ الأحكام الصادرة ضده. واستندت المحكمة إلى المادة 41/1 من دستور 1971 التي كانت تتطلب صدور قانون لتقرير المنع من التنقل أو السفر، مقررة أن هذا المنع لا يكون إلا بقانون صادر من السلطة التشريعية، وليس من سلطة أخرى بناء على تفويض، ولا بأداة أدنى مرتبة من القانون، حتى لا تطلق السلطة يدها فيما قيد الدستور سلطتها فيه.
وقضت محكمة القضاء الإداري، في دعوى أقامتها زوجة، كانت تعمل بوزارة الخارجية، مطالبة بوقف تنفيذ وإلغاء قرار وزير الداخلية بإدراج اسمها على قوائم الممنوعين من السفر، بناء على طلب زوجها، بالاستجابة للطلب المستعجل، مقررة وقف نظر الدعوى وإحالة أوراقها إلى المحكمة الدستورية العليا، التي أصدرت حكمها في سنة 2000 بعدم دستورية المادتين 8 و11 من القرار بقانون رقم 97 لسنة 1959 في شأن جوازات السفر.
وقررت محكمة القضاء الإداري في حكم صدر سنة 2000 أنه إذا ما قرر الدستور حقاً عاماً أو حرية عامة وأناط تنظيم استعمال الحق أو الحرية بقانون، فإنه يلزم أن يكون ذلك القانون خاضعاً لهيمنة الحكم الدستوري فلا يتغول عليه أو ينتقص منه.
وكان حكم المحكمة الدستورية العليا الصادر سنة 2000 خاتمة المطاف في هذا الخصوص، عندما قضى بعدم دستورية المادتين 8، 11 من القرار بقانون بشأن جوازات السفر، في واقعة منع زوجة من السفر بناء على طلب زوجها، وكانت محكمة القضاء الإداري، المطعون أمامها في قرار وزير الداخلية بإدراج الزوجة على قوائم الممنوعين، قد أحالتها من تلقاء نفسها إلى المحكمة الدستورية العليا. ففي هذا الحكم، أكدت المحكمة الدستورية العليا أنه إذا ما أسند الدستور تنظيم حق من الحقوق إلى السلطة التشريعية، فلا يجوز لها أن تتنصل من اختصاصها، وتحيل الأمر برمته إلى السلطة التنفيذية دون أن تقيدها في ذلك بضوابط عامة وأسس رئيسية تلتزم بالعمل في إطارها (القضية رقم 10126 لسنة 21 دستورية بجلسة 4-11-2000).
وبناء عليه قضت المحكمة بعدم دستورية النصين المشار إليهما فيما تضمناه من تفويض وزير الداخلية في تحديد شروط منح جواز السفر، وتخويله سلطة رفض منح الجواز أو تجديده، وكذا سحبه بعد إعطائه. كما قضت في الحكم ذاته بسقوط المادة الثالثة من قرار وزير الداخلية رقم 3937 لسنة 1996 فيما تضمنته من تنظيم وتجديد جواز سفر الزوجة، وتحديد الشروط اللازمة لذلك بما يجيز إلغاء الموافقة السابقة للزوج على صدور الجواز أو تجديده.
وبعد هذا الحكم الدستوري، استقرت أحكام المحكمة الإدارية العليا على أن سلطة وزير الداخلية المقررة له بمقتضى المادتين 8 و11 أصبحت لا وجود لها من الناحية القانونية (طعن رقم 10126 لسنة 47 ق.ع جلسة 23-12-2006). وقررت المحكمة ذاتها أنه فى غياب القانون الذى ينظم القواعد الموضوعية والشكلية لإصدار قرارات المنع من السفر، وفى ضوء حكم الدستورية العليا، لا تستنهض النيابة العامة هذه الولاية فى خصوص المنع من السفر ولا تقوم لها قائمة، ويكون ما تصدره النيابة العامة في هذا الشأن مجرد إجراء فاقد لسنده الدستورى والقانونى يخضع لرقابة القضاء الإداري (طعن 10932 لسنة 47 ق.ع جلسة1-1-2005) .وقضت المحكمة ذاتها بأن قرار وزير الداخلية الصادر بالمنع من السفر مستندا إلى نصوص محكوم بعدم دستوريتها وبسقوطها، يجعل هذا القرار منعدما، لا يرتب أي أثر قانوني (طعن 10444 لسنة 47 ق.ع جلسة 13-1-2007).
وبذلك تكون المحكمة الدستورية العليا قد أكدت أن حرية التنقل لا يجوز تقييدها دون مقتضى مشروع، عهد الدستور بتقديره إلى السلطة التشريعية دون غيرها، وأن المنع من السفر استثناء يرد على أصل الحرية الثابت استصحاباً، وهو ما يقتضي وجود قانون يقرر هذا الاستثناء طبقاً للنص الدستوري. وهذا القانون لم يصدر حتى الآن، وهو ما يجعل قرارات المنع من السفر منعدمة لمخالفتها للدستور، ويكون لمن صدر ضده قرار المنع الحق في اللجوء للقضاء الإداري للطعن على هذا القرار. كذلك فإن مشروع الدستور الجديد لا يسمح بالمنع من السفر إلا عن طريق القضاء، بأمر مسبب، ولمدة محددة، وفي الأحوال التي يحددها القانون، وهو ما يتطلب إصدار هذا القانون بعد إقرار مشروع الدستور.