“
تشدُّك هذه البلدة الجُبيلية عند الوصول إليها. فالحصون جنّةٌ من غابات الأشجار المُعمّرة، فيها السنديان والملول والصنوبر والشربين، وفيها الينابيع التي تغذّي سائر قرى قضاء جبيل وتُستعمل لريّ الخضار والورود، كنبع أبو الطرابيش، ونبع عين الغارة، ونبع عين الجوزة…
ولكن ما سيكون موقفك لو رأيت في قلب هذا الغطاء الأخضر ورماً خبيثاً يحاول منعه عن الخفقان؟
نتكلم هنا عن منطقة صناعية تم استحداثها بالمرسوم رقم ٤٨٤١ الصادر في بداية العام ٢٠٠١.
يحدّد هذا المرسوم، وهو تصديق لتصميم توجيهي جزئي، حدود منطقة صناعية تضمّ أجزاءً من قرى الحصون، بزيون وعين الدلبة. ولم يشمل المرسوم الأراضي الباقية المحيطة بالمنطقة المستحدثة، فبقيت هذه الأراضي، أي الأجزاء السكنية، الزراعية والحرجية التابعة عقارياً للقرى المذكورة, غير منظمّة.
أما المنطقة الصناعية، فتضم العقارات الأكبر مساحةً في خراج بلدة الحصون. ويشرح مصدر في البلدية الحالية أن “إنشاء المنطقة الصناعية اقتُرح بالإجمال من قبل أصحاب العقارات المستفيدة ولم يكن للبلدية السابقة آنذاك دور بارز. أنشئت المنطقة إذاً لغايات غالبها شخصية منفعية، وبالدرجة الثانية إنمائية” . ويضيف: «ما زالت مسألة الدور السياسي والحزبي في الضغط لإنشاء هذه المدينة الصناعية مدار جدل في البلدة، ولم تتّضح الصورة النهائية حول الجهات الحزبية التي كانت لها مصلحةٌ مباشرةٌ بإصدار هذا التصنيف».
وكان معظم سكان البلدة، بحسب المصدر عينه، عارضوا إنشاء المدينة الصناعية. ولهذه الغاية، نظموا عريضة تعبيراً عن رفضهم تحويل تلك الهضاب والمساحات الخضراء إلى كيان صناعي. إلا أن إدارة المواجهة مع القيّمين على إنشائها ومع أصحاب النفوذ لم تصل إلى درجة ترغمهم على التراجع، ممّا أدّى إلى تغليب الرأي المؤيد على حساب الرأي المعارض.
وعليه، تم إنشاء المنطقة الصناعية مع تصنيفها ضمن الفئتين الأولى والثانية ،[١]بغض النظر عن الآراء المتعارضة. وهي تضمّ اليوم مصانع غذائية نذكر منها مصنع بن نجّار، مصنع المجموعة اللبنانية للتحميص ش.م.ل. أو ما يُعرف بكاستانيا، ومصنع القزّي للتجارة، وهما متخصّصان بإنتاج المكسرات والبزورات. وتوجد ضمنها مزارع للألبان والأجبان، ومصانع للرخام والغرانيت، ومصانع لحجر الخفّان، ومصانع ومجبل للباطون الجاهز، كسارة للبحص والبودرة، ومصانع للمواد البلاستيكية، فضلاً عن مصنع للأسمدة والأدوية الزراعية.
لا شكّ بأنّ من شأن هذه المؤسسات أن تضع الحصون على خارطة الصناعة اللبنانية، وأن توفّر فرص عمل للناس (رغم أن غالبية العمال يأتون من خارج البلدة لأقدميتهم في الشركات). وهي تُشكّل حاجة لتنمية هذه المنطقة الريفية الجُبيلية المختلطة طائفيًا. فهي من جهة تزيد إيرادات البلدية المعنية وتسهّل حصول السكان على الخدمات من مياه، وكهرباء، وطرق ومواصلات.
إنما بالمقابل، هي تُحدث خللاً في سلامة أهالي البلدة بشكل خاص والبيئة بشكلٍ عام، فنلحظ طمساً لمعالم الطبيعة وتخريباً للغطاء النباتي. أما عن الغبار والانبعاثات الناتجة في أوقات التشغيل أو عند أعمال الإنتهاء، فلها تأثيرات سلبية على صحة القاطنين حول المنطقة الصناعية.
من جهةٍ أخرى، من شأن غياب شبكات الصرف الصحي المشترك في موازاة توجه عدد من المصانع لحفر الآبار الإرتوازية لضمان حاجاتها، أن يشكل خطراً على مياه الآبار الجوفية وعلى تجمّع المياه سواء كان تجمّعاً مرحلياً خلال الشتاء، أو موسمياً سنوياً في الأنهار والينابيع التي سبق وذكرنا أنها تغذّي معظم قرى قضاء جبيل. بالتالي فإن التأثير البيئي الصحي للمنطقة الصناعية، المتمثل بالتسرّبات والانبعاثات، يتعدّى حدود بلدة الحصون. وتجدر الإشارة إلى وجود أضرار على البنى التحتية للبلدة كالطرقات العامة غير المصمّمة التي تتحمل الحمولة الزائدة للآليات الثقيلة التي لا تراعي الشروط.
لسنا بصدد انتقاد وجود منطقة صناعية في الحصون، فالمناطق الصناعية تشكل جزءًا مهماً من الاقتصاد المحلي أو الوطني في غالبية البلدان، إنّما تكمن المشكلة في واقع انتشار هذه المصانع في البلدة من دون توفير المؤهلات المطلوبة لمنطقة صناعية من ناحية تأمين البنى التحتية المناسبة، والصرف الصحي، والطرقات …
أما الإشكالية الأخرى فتتمثل في وجود مساكن باطون للعمّال ضمنها، تُؤجّر الغرف فيها بمبالغ زهيدة للبنانيين أو السوريين من غير عمّال المصانع، على الرغم من عدم توفر شروط السكن العمالي الملائم، وبشكل مخالف للمرسوم الذي قضى بمنع تشييد الأبنية المعدة للسكن في المنطقة الصناعية.
هذا الإهمال الاعتباطي لمناطق كالحصون من قبل الدولة اللبنانية عبر تنظيمات جزئية يصدرها التنظيم المدني ينتج إذاً ضرراً فاضحاً على صحة الناس وعلى استدامة البيئة. فكيف يتمّ ترسيم حدود منطقة صناعية دون الأخذ بعين الإعتبار ما يوجد حولها؟ كيف تُحدَّد في هذه الحالة استعمالات الأراضي غير الخاضعة لأي تصنيف على تماس المنطقة المذكورة؟ ما هي القيود التي تحدّ من التمدّد العمراني على العقارات المجاورة لها؟ ألا يمكن أن يؤدي هذا التمدّد في حال حصوله مستقبلاً، إلى رفع نسبة تأثّر السكان بالتلوّث الذي تخلّفه المصانع؟
من شأن هذا الوضع أن يتيح إذاً لأصحاب النفوذ والمشاريع إتمام مشاريعهم في غياب شبه تام لأي ضوابط (عوامل الإستثمار هي من الضوابط القليلة المحدّدة في المناطق غير المنظّمة والتي تصدر بقرار عن المجلس الأعلى للتنظيم المدني). كما من شأنه أن يتيح لمالكي العقارات الواقعة على تماس المنطقة الصناعية التصرّف باستعمالاتها بحرّيةٍ شبه تامّة. فبحسب أحد سكان البلدة، يعرض أصحاب بعض هذه العقارات بيعها مرفقين العرض بعبارات من قبيل: «صالحة لبناء منزل أو إنشاء منشرة أو معمل ألمنيوم أو معمل ألبان وأجبان…»
ما الذي يمنع إذاً توسعة المنطقة الصناعية؟
يؤكّد مصدر البلدية أن ما من شيء يحدّ هذا التوسّع سوى المجلس البلدي الحالي بمجمل أعضائه. وهو يرفض رفضاً قاطعاً التوسعة مع أن المطالبات بها قائمة حالياً. كانت المنطقة الصناعية قد وسّعت في العامين المنصرمين بناءً على طلب أحد أصحاب العقارات المحاذية لها، بموجب مرسوم تعديل للتصميم الجزئي الصادر في عام ،٢٠٠١ وذلك لاستتباع العقار صناعياً كي يتمّ إنشاء أحد المعامل.
ترى البلدية أن الكيان الصناعي بوضعه الحالي أمر واقع تتعامل معه على أساس القوانين والمراسيم التي تنظّمه. وهي «تحاول جاهدةً»، بحسب مصدر من البلدية، «بناء علاقة متينة مع أصحاب المصانع لتؤمّن سير الأعمال دون الإضرار بالجوار السكني والعقاري للمنطقة الصناعية». ولكن في ظلّ ما نسمّيه “أمراً واقعا“ في لبنان، أليس من البديهي إعادة التفكير في كيفية توجيه عمليّات تنظيم الأراضي لتكون شاملة ومنسجمة، بدل أن تكون مجتزأة تُفاقم المشاكل؟
نشر هذا المقال ضمن المنشور “انتاج اللامساواة في تنظيم الأراضي اللبنانية” في شهر تموز\يوليو ٢٠١٨، وهو نتاج مشروع بحثي لاستوديو أشغال عامة بالتعاون مع المفكرة القانونية. لقراءة المنشور بالكامل انقر/ي على الرابط: انتاج اللامساواة في تنظيم الأراضي اللبنانية
مقالات ذات صلة:
- دور المنظمات المدنية في التصدي “للتلاعب العمراني” في تونس
- إنشاء محمية شاطىء صور: الخلفية، الدوافع، والنتائج
- أين البحر في الضبيّة؟ أنا لا أراه
- التخطيط لحربٍ لم تأتِ بعد
- التنظيمات الإقصائية والتمدين غير الرسمي: حالة المجتمع الفلسطيني في نهر البارد
- التمدين المتضارب
—–
[١] تم تصنيف الصناعات بموجب المرسوم ٢٠٠١/٥٢٤٣ ضمن خمس فئات وفقا لمعايير محددة لكل منها في الترتيب الدولي لتصنيف الصناعات. الفئة الأولى، هي التي ينتج عنها خطر جدي للبيئة والمحيط وللصحة العامة، مما يوجب إبعادها عن المساكن لمنع كل ضرر ينتج عنها.الفئة الثانية، وهي التي ينتج عنها خطر للبيئة والمحيط والصحة العامة، ولا تحتم الضرورة إبعادها عن المساكن غير انه لا يمكن الترخيص باستثمارها إلا اذا فرضت عليها بعض التدابير لتلافي الضرر الناتج عنها.
“