سيدة وطفلها عادا لتفقد منزلهما خلال وقف إطلاق النار في الجزء الأكثر دمارًا بحي حطين حيث يتمركز "الشباب المسلم"
يجلس رجل سبعيني على حجر في أحد زواريب حي الراس الأحمر في مخيّم عين الحلوة، وتحديدًا على طرف الساحة الصغيرة التي كان يتجمّع فيها شبّان لجان أحياء المخيم يتشاورون في كيفية مساعدة الناس المنكوبة، يسند وجهه بيديه فيما عيناه مغرورقتان بالدموع.
ناس بعضهم فرّوا من نيران تقاتل الأخوة، فيما علق آخرون وسط سقوط القذائف والغزارة النارية غير المشهودة في جولات سابقة اختبرها المخيم منذ أواخر الثمانينيات، وأوائل التسعينيات، بوتيرة مختلفة في كل مرّة عن الأخرى. لكن الجولتين الأخيرتين منذ 29 تموز 2023 ولغاية 14 أيلول يوم إعلان وقف إطلاق النار الأخير الذي ما زال ساريًا حتى الساعة، هما الأقسى والأكثر تدميرًا، طبعًا بعد جرف المخيّم في الاجتياح الإسرائيلي في 1982.
جولتان خاضتهما حركة فتح و”الشباب المسلم”، وخلّفتا 18 قتيلًا بينهم 5 من المدنيين في المخيّم ومدني واحد من صيدا حتى الآن، وسط رعب الأهالي من تجدّد الاشتباكات كما حصل إثر هدنة وقف النار بعد جولة 29 تموز والتي سقطت مع تفجّر الجولة الثانية في 7 أيلول الجاري. صيدا نفسها وصلها الرصاص وذخيرة المعارك ونال من أمنها واستقرارها، وسقطت فيها ضحية وعدد من الجرحى، فأقفلت معظم الإدارات والمحلات أبوابها ومن بينها المستشفى الحكومي في المدينة، وعاش أهلها، في خضم المعارك، منع تجوّل حقيقيًا.
نقترب من الرجل السبعيني فنجد يديه ترتجفان وعينيه تغرقان في وجهه فيما الأسى يخيّم على محيّاه، يرفض التعريف عن نفسه “ما مهم شو إسمي، ما مهم مين أنا، بهدلونا وذلّونا وخسّرونا حتى المخيم لي كان ساترنا، ما بدي إحكي شي”.
يرفض الرجل المفجوع الذي دُمّر منزله في الراس الأحمر، مغادرة المخيم “عم ينام بالشارع أوقات، ما بيقبل ياخدوه أقاربه ينام عندهم”، يقول أحد الشبّان الذي حمل إليه بعض الماء ورغيف خبز مع مثلث جبنة معلّبة. الرجل السبعيني نفسه بكى أمس بمرارة حين أحضر شاب من عين الحلوة فرّوجيْن مشوييْن من خارج المخيم، بعدما وجد كثيرين يعانون من الجوع في الراس الأحمر، فيما يسدّ البعض الآخر رمقه بما “يتصدّق” به عليه المتقاتلون من المعلّبات. تهافت على الفرّوجين نحو “خمسين شخصًا، يعني كل واحد يمكن أكل لقمة”، يقول الشاب نفسه.
حين سمع الرجل السبعيني، أبو أحمد، كما قيل لنا لقبه لاحقًا، إعادة رواية قصة الفرّوجين، خرج عن صمته بصوت مرتجف ومتهدّج وحزين بل مفجوع: “هيدا مش مخيّم عين الحلوة، هيدا ساحة معركة”، وقال كمن يُحدّث نفسه: “عين الحلوة قاتل الإسرائليين في اجتياح 1982. يومها احتُلّت بيروت قبل شهر من تمكّنهم من جرف المخيم بعد حصار أشهر طويلة. عين الحلوة عاصمة الشتات، عين الحلوة رمز البندقية المقاومة التي قضى عليها التقاتل الداخلي، وعين الحلوة كانت محطتنا للعودة، هلأ صارت عين المهزلة، لم تعد حلوة، كنت أرفع راسي بس قول أنا من عين الحلوة، هلأ بوطّيه وبخجل”. ودموعه تتدحرج لتملأ خدوده، يعجز الرجل عن السيطرة على يده ليمدّها ويمسح بها وجنتيه.
عين الحلوة من الداخل: أثرٌ بعد عين
من يعرف عين الحلوة سيُفجع كما الرجل السبعيني. يمتدّ المخيم على مساحة كيلومتر مربع، يسكنه نحو 70 ألف نسمة غالبيتهم العظمى من الفلسطينيين، ويقال إنّه المخيم “الأصفى” فلسطينيًا، خصوصًا بعد الذي حلّ بمخيّم نهر البارد وصبرا وشاتيلا. وبمجرّد أن تأتي على ذكر نهر البارد حتى يلتفت من حولك وفي عينيه ألف سؤال: معقول عم يتدبّر لنا نهر بارد تاني؟
وعين الحلوة مفتوح على صيدا، رغم الجدار الذي بنتْه السلطة اللبنانية لحجبه عن عاصمة الجنوب، جدار رغبتْ السلطة في تسميته جدار الحماية ولكن ذلك لم يخفّف من قسوته، رغم الرسوم الملوّنة والغرافيتي التي خطّها عليه أطفال المدارس والمراهقون. والمخيّم كان سوق صيدا وبعض الجنوب بأسعار تجّاره المتواضعة. وعلاقة صيدا وعين الحلوة معزّزة بالمصاهرة المتبادلة حتى أنّ لهجة الصيداويين مطعّمة بفلسطين ورنّة لهجتها المحكية. وعين الحلوة مضياف، فتح أهله بيوتهم لأخوتهم من الفلسطينيين السوريين منذ 2011 ولغاية اليوم، فيما يلجأ إليه بعض فقراء لبنان للسكن بالإيجار في شقق هاجر بعض أهلها أو هجّرهم الفقر أو الاقتتال المتواتر على مرّ أكثر من ثلاثين عامًا. والأهم أنّ عين الحلوة مخيّم حيّ، يعجّ بالناس الكادحة وراء لقمة عيش صعبة في ظلّ التضييق على حق الفلسطينيين في العمل في مهن كثيرة، وفي ظلّ وصمة وصفه “خزّان” الخارجين على القانون أو المطلوبين وبعض من هؤلاء مطلوب بتهمة إطلاق نار في الهواء ولكنه لا يجرؤ على تسليم نفسه خوفًا من تقارير أمنية افترائية وانتقامية في بعض الأحيان في ظلّ تداخل أجهزة المخابرات وكذلك تصارع الفصائل التي تلامس العشرين فصيلًا فلسطينيًا، وهي فصائل تتقاسم أحياءه والسيطرة عليها.
كنتِ تسيرين في عين الحلوة وسط الباعة المتجوّلين وبين نحو مائتي صبّاب قهوة يخدمون الجالسين على ناصية طرقاته خارجين من ضيق زواريب أحيائه ورطوبتها التي لا تصلها الشمس، ولا يتجاوز بعضها المتر عرضًا. ولعين الحلوة سوق خضار مسقوف أخرج باعته فاكهتهم وخضارهم إلى حوافيه ينادون عليها بأسعارها المكسروة، تاركين المحلات لتجّار السلع على أنواعها. وكنتِ إن حللتِ في عين الحلوة لا يمكنكِ مقاومة إغراء شراء الفساتين التي طرّزتها نساؤه بالقطبة الفلسطينية ومعها أغطية الرأس والشالات والجزادين الصغيرة والكبيرة.
كل ذلك أصبح اليوم أثرًا بعد عين، ليحلّ محلّه الخوف والتهجير والمذلّة حيث ينام بعض من هُجّروا من المخيم على فرش إسفنجية على أرصفة عبرا أو في حدائق صيدا وفسحاتها القليلة أصلًا، فيما حركة 60 آلية “بيك آب” لا تهدأ لنقل أثاث من صمدوا أو تركوا كل شيء وفرّوا حفاة لينجوا بأطفالهم من القذائف التي تهطل عليهم من كلّ حدب وصوب “كل بيك آب بينقل تلات بيوت على الأقل كل يوم”، يقول الصاروخ، كما يناديه أهل المخيم، الذي يملك وحده مع أخوته ثلاث آليات بيك آب تشهد عزّ الشغل حاليًا.
ومع زحمة نقل الأثاث للإفادة من وقف إطلاق نار غير موثوقة، يعيش المخيّم مأساته: تتكدّس النفايات في الشوارع كما في الزواريب الضيّقة وحتى على أبواب المنازل وخصوصًا المهجورة منها، فيما كان يعمل أحد المتعهّدين على تفريغ مكبّات النفايات التي تجمّعت بالأطنان، بتكليف من الأونروا التي أوقفت خدماتها إلى حين تبليغها بانتهاء الاشتباكات وليس بهدنة هشة من هنا ومن هناك. وعلا في المخيم الدخان الناتج عن قيام بعض الأحياء بإحراق أكوام النفايات لتجنب ضررها الكبير وروائحها، وبين النفايات ومن حولها يتنقل الذباب والبعوض في رفوف يدخل بعضها البيوت مع الروائح الكريهة، فيما انفجرت مجارير المياه الآسنة لتسيل سواقي في الطرقات، تزامنا مع انقطاع المياه التي اخترق الرصاص خزاناتها ولم تعد صالحة. أما الكهرباء فإن حنّتْ بها شركة كهرباء لبنان فالأسلاك مقطوعة لتحول ليل عين الحلوة إلى رعب حقيقي ونهاراتها إلى جهنم يفتقر فيها الناس لنقطة ماء باردة وسط استحالة تبريد الأطعمة للحفاظ عليها. انهيار يحاول شبان لجان الأحياء في المخيم معالجة بعض ذيوله ونتائجه الكارثية على المجتمع الصامد بإمكانيات معدومة قوامها التطوّع والتبرّع.
خريطة الدمار في المخيّم
ومع تهجّر عدد كبير من المخيم أو من بعض أحيائه (لا توجد أرقام رسمية بشأنهم إنّما تصل أعداد النازحين خارج المخيم بأقلّ تقدير إلى 10 آلاف فيما يصل مجموع النازحين من بيوتهم داخل وخارج المخيم وفق العديد من التقديرات إلى 25 ألف نسمة)، فتح البعض محلّاتهم ومعهم السوق المقبي (المسقوف) بينما بقيت الحركة خفيفة جدًا، لا تشبه نهارات المخيّم المزدحم. وانشغل الصامدون ومعهم بعض العائدين مؤقتًا في تفقّد الأحياء التي يمكن ارتيادها، وطبعًا حسب الجهة التي يُحتسب عليها البعض: هنا قذيفة قتلت رجلًا في منتصف الطريق، هنا رصاص نخر مبنى بأكمله، هنا لَنشر (وهي قنبلة أصغر من قنبلة آر بي جي) سقطت في سقف منزل عائلة. أما المنازل المدمّرة فلا يمكن إحصاؤها حيث هناك مبان كثيرة مدمّرة كليًا أو جزئيًا. لكن الأغلب يتحدّث عن مئات الوحدات سكنية المتضرّرة بدرجات متفاوتة منها 300 على الأقل بشكل كبير.
وتؤكد جولتنا في المخيم أنّ الدمار الأكبر نال من حيّ حطّين الذي يسيطر عليه “الشباب المسلم” ويشرف عليه جغرافيًا جبل الحليب، معقل “فتح”، مما جعله هدفًا سهلًا لكلّ تلك الغزارة بالذخيرة والقصف وهي غير مسبوقة كما يجمع سكان المخيم. بعد حطّين، نال الدمار من حيّ التعمير الذي يتمركز في أجزاء منه “الشباب المسلم”. ويمتدّ التعمير من حدود حي أوزو (فتح) ولغاية جامع الموصلي على حافة المخيم من ناحية صيدا، وهي نقطة تجمّع للهاربين من النيران قبل توزّعهم على صيدا وخارجها. وبعد أحياء حطّين والتعمير والراس الأحمر، نالت الأضرار من حي البراكسات، وهو حي تسيطر عليه “فتح”، ولكن ليس بنفس نسبة دمار الأحياء السالفة.
بعد حطّين والتعمير، يبرز الدمار وضرر المواجهات في حي الراس الأحمر الذي سيطر عليه “الشباب المسلم” بعد اقتحامهم مكتب “فتح” ومعه بعض منازل الفتحاويين وإحراقها. وهي معارك زواريب على ما يبدو من تركيبة الحي، أنتجت دمارًا في الشقق المتلاصقة إلى حد الالتحام وزرعت الرعب في نفوس قاطني المنازل، وساهمت في تصدّر الحي مع حطّين والتعمير النسبة الأعلى من المهجّرين من المخيّم.
ولم تكتفِ الفصائل المتقاتلة بتحويل منازل الناس وأسطح الأبنية إلى متاريس وأمنكة للقنص، بل سيطروا على تجمّعات مدارس المخيم وخصوصًا تلك التي تفصل بين حي التعمير (الشباب المسلم) وبستان القدس (فتح) وتحويلها ليس إلى خطوط تماس فقط بل إلى متاريس وخصوصًا لعناصر “الشباب المسلم” الذين يتركّزون في مدارس قنية والفلوجة ومرج عامر وحطّين (اسم المدرسة وليس حي حطين)، حيث اغتيل مسؤول الأمن الوطني في صيدا محمد حسن العرموشي (أبو أشرف)، وهو من كبار المسؤولين الأمنيين في “فتح”.
كلّ هذا يعزّز تخوّف أهالي المخيّم من استئناف القتال، مستشهدين بحال عائلات عناصر حركة “فتح” التي لم تعد لغاية الساعة من نزوحها: “يعني عارفين إنه في جولة جديدة”، وكذلك عائلات عناصر “الشباب المسلم” الذين يتذرّعون بتدمير الأحياء التي يسيطرون عليها، وبالتالي لا منازل صالحة لعودة أسرهم، كما يقولون. انطباع تعزّزه خطوط التماس المضحكة المبكية، حيث رفع الجانبان المتقاتلان سواتر من الشوادر القماشية أو النايلون قرب خطوط التماس، وشيّدت وراءها “الدشم”. ومن بينها ذلك الستار عند مدخل حي الطيرة الذي تسيطر عليه “فتح”، وآخر بين حي أوزو الذي تسيطر عليه “فتح” في مواجهة حي التعمير الذي يسيطر عليه “الشباب المسلم”.
يقول د. عامر السمّاك، المدير العامّ والطبّي لجمعيّة النداء الإنساني (تابعة للجبهة الشعبية) إنّ الجراح الجسدية على بشاعتها، إذا لم تترك إعاقات، يمكن معالجتها، ولكننا نواجه تحدّيًا نفسيًا كبيرًا وانهيارات عصبية خلال جولتي القتال الأخيرتين”. عالجت مستشفى الجمعية نحو 190 مصابًا مؤخرًا بينهم خمسة قتلى كلّهم من المتقاتلين، وهي تحاول أن تستعين بأخصائيّ علم نفس وأعصاب وأطباء نفسيين للتعامل مع الانهيارات التي تشهدها يوميًا “الناس بتصير تصرّخ كل الوقت، سواء خوفًا أو رعبًا أو هستيريًا، ولكنه انهيار واضح وجلّي”.
الأثر النفسي عينه تلمسه خلال الحديث مع ناس المخيّم سواء الذين استغلوا هدنة وقف إطلاق النار ليتفقدوا منازلهم أو الذين رغبوا في أخذ احتياجاتهم، وهناك فئة جاءت لتقول “لن أخرج من المخيّم إلّا إلى فلسطين أو إلى القبر، بيكفّينا تهجير وإذلال وبهدلة، ما حدا قادر يحمل حدا، ونحن ما معنا نتحمل كلفة السكن والعيش خارجًا”. من بين هؤلاء “فتحية” التي تهجّرت من أحد زواريب حي حطّين إلى منزل قريبتها في صيدا مع ستّ عائلات أخرى، ثم قرّرت العودة لأنّ التهجير “مذلّة لن أكررها. إن متّ مع أولادي هنا فسأموت في بيتي وبكرامتي”. الأولاد أنفسهم كان يجب أن يبدأوا عامهم الدراسي في 2 تشرين الأول المقبل (بعد 11 يومًا) ولكن الدمار الذي طال المدارس لا يمكن إصلاحه قبل هذا التاريخ حتى لو استمرّ توقّف القتال، وعليه ثمة خوف من ضياع العام الدراسي في عين الحلوة.
في حي السينما في حطّين، نجد سيدة منهارة “لي صار فينا ما صار بحدا، نحن مدنيين قاعدين ببيوتنا بحالنا، حرقوا بيوتنا، حرقوا ذكرياتنا، حرقوا طفولة اولادنا، شو بدي قلك؟ بيتي محروق، عشت عمري كله أرملة أربي أولادي، اليوم كبروا الأولاد طلعنا تحت القصف والرصاص، حملت أولاد ابني تلاتة تحت القصف والرصاص ووين بدي لاقي بيت يضبنا؟” تقول. تنهمر دموع المرأة سخية على خدودها، وتتابع “تهجّرت ع بيت بنتي بحي الصفوري (وهو حي تسيطر عليه “فتح” ولا تماس له مع الأحياء التي يتواجد فيها أي من “الشباب المسلم”، وهو آمن نسبيًا) “ما بدّي روح برّا المخيم، روحنا بالمخيّم ووجعنا المخيّم، وما إلنا خلاص منّه. كنا نقول لأهالينا ليش بيبكوا ع فلسطين، نحن منبكي على المخيم، كان حلمي إرجع ع فلسطين صار حلمي إرجع ع حطّين، هيك بدهم؟ يتغيّر حلم العودة إلى بلادنا بحلم العودة إلى زاروب بحي بالمخيّم؟”. نال حي حطّين الذي يسيطر عليه “الشباب المسلم” خصم حركة “فتح” خلال الجولتين الأخيرتين حصّة كبيرة من التدمير.
خريطة الفصائل ومناطق سيطرتها
ينشط في مخيّم عين الحلوة 19 فصيلًا سياسيًا وعسكريًا. هذا عدا عن “الشباب المسلم” الذي لم يؤطّر نفسه كفصيل رسمي ولم يتنظّم ولا يملك مكاتب في المخيّم، بل يشبه التحالف ويقتصر على أولئك الذين تجمّعوا من الإسلاميين الذين يصفهم البعض بـ “المتطرفين” فيما ينكر مؤيّدوهم هذا التوصيف، برغم من اعتراف كثر أنّ بعضهم يؤمن بالفكر القاعدي، نسبة إلى تنظيم “القاعدة”. ومن هؤلاء من تبقّوا من جند الشام المشهورين، بعض فلول من قاتلوا مع شاكر العبسي في مخيم نهر البارد، بعض مؤيّدي النصرة، وربما داعش، كما يُقال، وهي معلومات تتقاطع من مصادر أمنيّة عدّة معنيّة بالمخيم.
يتقاسم الفصائل و”الشباب المسلم” المخيّم ليس أحياء فقط بل زواريب حتى. ففي جولتنا في حي حطّين (“الشباب المسلم”)، نُنهي أحد طرقاته الفرعية لنجد أنفسنا مكشوفين على عناصر “فتح” المسلّحة المرابضة في الشارع المتفرّع في سفح الجبل الأبيض. هناك، لا يفصل بين الأخويْن اللدوديْن سوى إطلالة رأس تعرّضه للقنص المباشر. وفي حطّين نفسه الذي لا تملك فيه “فتح” أيّ سيطرة عسكرية، هناك بيوت كثيرة لفتحاويين، وهو اختلاط مدنيّ سكانيّ لا يمتّ للانتماء السياسي في الأيام العادية بصلة.
ورغم كثرة الفصائل، إلّا أنّ حركة “فتح” لا تزال تسيطر على نحو نصف مساحة المخيّم ولديْها العدد الأكبر من المقاتلين. وفيما يقول إعلامها إنّ لديها 3000 عنصر مسلح، إلّا أنّ أهل المخيّم يرون مبالغة في الرقم. “مش كل مين حمل سلاح بيكون مقاتل حقيقي”، يعلّق أحد شبّان المخيّم على الرقم. وتبسط “فتح” سيطرتها على أحياء جبل الحليب والبراكسات وبستان القدس (اليهودي سابقًا) وحيّ أبو جهاد الوزير وحيّ الطيري.
أما “الشباب المسلم” الذي خاضت “فتح” معه المعارك الأخيرة ويقدّر عديدهم مجتمعين كمجوعات بـ 150 إلى 200 مقاتل، فيتحصّن في أحياء التعمير والصفصاف التحتاني والصفصاف الفوقاني والراس الأحمر وحطّين. ويتقاسم النافذون في “الشباب المسلم” هذه الأحياء حيث يتزعّم التعمير هيثم الشعبي مع أخيه محمد، ومعهما أبناء أختهما من زوجها أبو هريرة اللبناني الذي قاتل مع شاكر العبسي في نهر البارد، وأحدهم من لائحة المتهمين بقتل أبو أشرف العرموشي. وتتأتى الزعامة هنا من حجم عائلة الشعبي أخوة وأقارب يتمتعون بالنفوذ والقيادة وطبعًا الإمكانيات. ويمون “الشباب المسلم” على جزء من التعمير وليس كلّه، حيث لديهم نحو 40 مقاتلًا فقط.
ويتركّز “الشباب المسلم” في حطّين أيضًا ويبرز من بين قادتهم رائد جوهر وزياد أبو نعاج ويوسف شبايطرة ومحمد دحابرة بشكل أساسي. ويترأس “الشباب المسلم” في حي الراس الأحمر أبو حمزة منصور، فيما يترأسهم في حي الصفصاف التحتاني أحد المقاتلين الملقب بـ “الحُب”. من جهة أخرى، يقود محمد العارفي (لبناني) وعبد فضة “الشباب المسلم” في الصفاصف الفوقاني، وهؤلاء مع العناصر في هذه الأحياء مطلوبون للدولة اللبنانية. ويقال إنّ بلال بدر الذي كلّف إخراجه من الطيري في 2017 تدمير الحي بكامله قد عاد من إدلب ليستقرّ في التعمير أيضًا إلى جانب هيثم الشعبي. وهناك أيضًا مجموعة في حي طيطبة شرق المخيم يتزعّمها أسامة الشهابي. ويتداول البعض اسم توفيق طه، زعيم كتائب عبد الله عزام، الذي لم ينخرط مع “الشباب المسلم” وليس لديه أي نشاط أمني أو عسكري، لكن اسمه وارد في ملفات أمنية خطيرة.
إلى جانب “الشباب المسلم” هناك فصائل إسلامية توصف بـ “المعتدلة” خصوصًا مقارنة معه. ومنها الحركة الإسلامية المجاهدة التي يقودها الشيخ جمال الخطّاب ويعتبر حي المنشية منطقة سيطرتها، وهي من الفصائل التي تدخل مع حركة “حماس” ضمن الهيئة السياسية المشتركة في الوساطة لوقف الاقتتال.
ويُعتبر حي الزيب وحي عرب الغوير عند مدخل المخيم من ناحية الحسبة في صيدا محايدَين وقد شكّلا وجهة للنزوح الداخلي في عين الحلوة. يتمتع حي عرب الغوير بخصوصية عشائرية للعرب الذين سمّي الحيّ على اسمهم. وضع هؤلاء نظامًا داخليًا للعشيرة منعوا عبره تركيز أيّ فصيل فلسطيني مكاتب له في الحي برغم السماح لشبّان العشيرة بالانتماء الفردي إلى أي فصيل يريدون، ولكن الاقتتال داخل الحي خط أحمر. قضى شبّان عرب الغوير لياليهم ونهاراتهم خلال جولتيْ الاقتتال يضعون الفرش والكراسي على نواصي طرقات وأزقة الحيّ ليمنعوا أيّ أحد أن “يطخّ” (يطلق النار باللهجة الفلسطينية)، تجنّبًا لأي تقاتل في الحي.
أما حي الزيب وهو يوصف بـ “حي مدني” برغم وجود المركزية الإدارية لعصبة الأنصار (جماعة أبو محجن سابقًا) أي عائلة آل السعدي في حي مسمّى على اسمهم في الزيب، إضافة إلى التيار الإصلاحي (اللينو)، وهناك أيضًا تواجدٌ في الزيب للأمن الوطني (فتح) ومكاتبهم ملاصقة لمكاتب الآخرين، وذلك يسري على حي بستان أبو جميل، وهو حي بين الزيب وحي عرب الغوير، بعدما تقسّمت الأحياء لجانًا.
أما في حي الصفوري، فيتواجد الأمن الوطني (فتح) في الشارع، والتيار الإصلاحي (اللينو) الذي يعتبر مركزه في الحي مركز فصيله في كلّ مخيّمات وتجمّعات فلسطينيي لبنان، كما تتواجد مركزية حركة “حماس” التي تتكوّن من نحو 300 إلى 400 مقاتل.
جولتان أم مخطط لنهر بارد ثانٍ؟
بدأت بواكير التوتّر الذي أنتج جولتي القتال الأخيرتين في 29 تموز 2023 عندما نزل محمد زبيدات الملقب بالصومالي من حي البركسات (تسيطر عليه “فتح”) إلى حي الزيب وقتل عبد الرحمن فرهود (من “الشباب المسلم”) وأوقع ثلاثة جرحى بينهم طفلتان.
في اليوم التالي وفي محاولة لنزع فتيل التوتر، اجتمعت هيئة العمل الفلسطيني المشترك (تأسست في 2019 برعاية رئيس مجلس النوّاب نبيه بري) ومهمّتها حفظ أمن واستقرار المخيمات الفلسطينية في لبنان وإدارتها، وهي هيئة تضمّ كل الفصائل الفلسطينية (19 فصيلًا) مع استثناء تجمّع “الشباب المسلم” والتيار الإصلاحي الديمقراطي وحركة الانتفاضة الفلسطينية كون وجودها يستفزّ فصائل التحالف، وكذلك الحزب الشيوعي الثوري الفلسطيني الفاعل في بيروت وليس في عين الحلوة. وقرّرت الهيئة بناء على أسس عملها أنّ كلّ مخلّ بالأمن يُسلّم إلى الجيش اللبناني. وبما أنّ حركة “فتح” بادرت إلى القول فورًا إنّ الصومالي قاتِل الفرهود مفصول من صفوفها، فقد بادر مسؤول الأمن الوطني في صيدا أبو أشرف العرموشي إلى الإعلان بأنّه سيعمل على تسليمه.
بعد صلاة ظهر 30 تموز الماضي، قصد العرموشي حي البراكسات لمقابلة الصومالي ولكنه لم ينجح في إقناعه بتسليم نفسه للقضاء اللبناني، واندلع سجال كلامي بين الرجلين. ترك العرموشي البراكسات سيرًا باتجاه مركزه في بستان القدس (اليهودي سابقًا) وهو شارع يُعتبر امتدادًا لشارع التعمير حيث يتمركز “الشباب المسلم” بقيادة هيثم الشعبي، برغم أنّ هناك مَن حذّر العرموشي من وجود مسلّحين لـ “الشعبي” في الطابق الثاني في إحدى المدارس المطلّة على الشارع الذي سيقطعه سيرًا مع مرافقيه وعددهم 11 عنصرًا. ولكنه قال لهم “أنا مخبّر هيثم إنّي رح أمرق من المنطقة”. عند وصول العرموشي إلى محاذاة إحدى المدارس، أطلق ثمانية عناصر النار باتجاهه ومرافقيه فأردُوا ستة من بينهم العرموشي نفسه، وجرحوا ثلاثة، فيما نجا اثنان.
إثر اغتيال العرموشي، انفجر الوضع في المخيّم، واتّهم هيثم الشعبي بالجريمة نظرًا لسيطرته مع مقاتليه على المدارس. وبعد 4 أيام من بدء قتال الجولة الأولى بين “فتح” و”الشباب المسلم”، اجتمعت الهيئة من جديد، وتوصّلت مع المتقاتلين إلى اتفاق قضى بوقف إطلاق النار وسحب المسلّحين وتشكيل لجنة تحقيق تحدد هوية مغتالي العرموشي ثمّ تسليم القتلة من الجانبين في قضيتي الفرهود والعرموشي إلى القضاء اللبناني. وتشكّلت لجنة التحقيق من خمسة أفراد، ثلاثة منهم ينتمون إلى “فتح”، إضافة إلى ممثل عن قوى التحالف وممثل واحد عن القوى الإسلامية المعتدلة، وقبِل بالاتّفاق “الشباب المسلم”. في 26 أيلول، وإثر اجتماع للهيئة ولجنة التحقيق في السفارة الفلسطينية في بيروت، أعلنت لجنة التحقيق هويّة المتورّطين في قتل العرموشي بالأسماء وعددهم ثمانية وينتمون لمجموعة هيثم الشعبي. لم يستجِب هيثم الشعبي لتسليم المتورّطين بمقتل العرموشي، ولم يسلّم كاميرات المراقبة، وهو ما وتّر الأجواء. وبين محاولات لمنع انفجار الوضع، تمّ رمي قنبلة ناحية “فتح” من اتجاه المدارس من التعمير، أتبعها تسلّل لعناصر من “الشباب المسلم” نحو الحادية عشرة ليلًا باتجاه المدارس فحصل اشتباك مع “فتح” لينفجر اتفاق وقف النار ويستأنف القتال جولته الثانية. واتُهم هيثم الشعبي أنّه افتعل الاشتباك لكي لا ينفّذ اتفاق تسليم المدارس للهيئة لكي لا يفقد خط دفاعه الأوّل عن التعمير باتجاه منطقة “فتح”. وفاجأت حركة “فتح” الجميع بتوسيع دائرة الاشتباك نحو الأحياء التي يسيطر عليها “الشباب المسلم” من حطّين إلى الراس الأحمر والصفصاف، ممّا أوقع كلّ المخيم تحت نيران الاقتتال.
ويستند المتخوّفون من سيناريو نهر بارد ثانٍ لمخيّم عين الحلوة إلى رمزية اغتيال العرموشي الذي يتّفق الجميع على حسن علاقاته مع جميع مكوّنات عين الحلوة وحكمته في إدارة الأمور، حتى يقال إنّ عناصر “الشباب المسلم” كانوا يتجوّلون في مناطق خارج أحياء سيطرتهم من دون أن يتعرّض لهم أحد. كما كان يتواصل مع الجميع بـ “حكمة” وفق توصيف غالبية المهتمّين بالشأن الفلسطيني. وكانت شخصية العرموشي كما يقول هؤلاء، صمّام أمان في وجه انفجار وضع عين الحلوة، ولذا يرون في تصفيته جرس إنذار بشيء ما يحضّر للمخيّم.
وما يصعّب الوضع في المخيم اليوم هي الخسائر البشرية التي منيت بها حركة “فتح” حيث لم يسقط من “الشباب المسلم” سوى جرحى تعافوا بعد تلقيهم العلاج فيما خسرت “فتح” نحو 12 عنصرًا في المعركة برغم بيانات إعلامها عن انتصارها هنا وهناك. وتميّز “الشباب المسلم” بقتال شرس برغم أنّ الغزارة النارية تأتي من “فتح”. ويعزو كثيرون استماتة “الشباب المسلم” في القتال لانعدام خياراتهم من جهة ثانية كونهم لا يملكون رفاهية مغادرة المخيّم فهم جميعًا مطلوبون من الدولة اللبنانية ولديهم ملفات أمنية تتدرج بخطورتها. وعليه لا ملاذ لهم أو خيار سوى الحفاظ على أماكن سيطرتهم وتواجدهم في المخيم.
وتوصّل الفرقاء إلى وقف إطلاق نار ثانٍ في 14 أيلول الجاري بعد تدخّل الهيئة والاتفاق على البنود التالية:
1- تفعيل القوّة الأمنية المشتركة المؤلّفة من كلّ الفصائل ورفدها بالعديد والعتاد للقيام بمهمّتها في حفظ أمن المخيم،
2- انسحاب هيثم الشعبي وعناصره من المدارس وانتشار القوّة الأمنية في المدارس والمحيط،
3- العمل على آلية جلب المطلوبين من الطرفين.
ولكنّ التوقعات كلّها تصبّ في خانة رفض هيثم الشعبي تسليم المتهمين بقتل العرموشي، وتخوّفه من نصب فخّ له يؤدي إلى تصفيته والسيطرة على التعمير، وهو ما ينذر بفشل المساعي، وبالتالي انفجار الوضع مجددًا برغم أنّ حركة حماس ومعها وسطاء آخرين، تعهّدت بالسعي الحثيث لإقناعه بذلك.
ما يهمّ أهل المخيم العالقين بين الفصائل الممسكة بالمخيّم وناسه كرهائن، أن يتمكّنوا من العودة إلى منازلهم وأن يتمكّن 5900 تلميذ من أبنائهم من العودة إلى مقاعدهم الدراسية. بانتظار ذلك، لا ترى من مدارسهم المتضرّرة سوى رسوماتهم الملوّنة وعبارات خطّوها عن حقهم بالتعليم والأمن والصحة على جدران ملوّنة خرقها الرصاص.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.