بعد قراره الأول في 12 أيلول 2019 (رقم 23/2019) والذي تخلى فيه المجلس الدستوري الحالي عن صلاحياته بتفسير الدستور لصالح مجلس النواب، أصدر المجلس ذاته قراره الثاني رقم 2 في 9 نيسان 2020 والذي قضى برد الطعن المقدم بقانون الموازنة العامة للعام 2020 التي صدرت من دون إقرار قانون قطع الحساب كما تفرضه المادة 87 من الدستور.
والظاهر أن المجلس الدستوري بتركيبته الحالية بات متخصصا في لوحات السيارات كونه اعتبر في قراره الأول أن عدم تخصيص سيارات القضاة بحرفي J أو R هو خرق للضمانة القضائية المنصوص عليها في المادة 20 من الدستور. ومن خلال مراجعة قراره الجديد نلاحظ أيضا أن المجلس الدستوري لم يجد في كل الموازنة ما يستحق الإبطال سوى المادة المتعلقة أيضا بالرسوم على لوحات السيارات كونها أوردت الحرف R من ضمن رموز أرقام اللوحات المخصصة لعموم المواطنين والتي يجب أن تخضع لرسم خاص بالنسبة لأصحاب الأرقام المميزة، بينما المفروض استثناء هذا الحرف من هذه الرسوم انسجاما مع قرار المجلس الدستوري الأول، فما كان من هذا الأخير سوى إبطال حرف “R” الذي ورد في المادة 25 من قانون الموازنة العامة.
بعيدا عن هذا الجدل التقني، أكثر ما يثير الاهتمام في قرار المجلس الدستوري الأخير هو التعليل الذي رفض بموجبه مرة أخرى إبطال الموازنة بسبب صدورها دون قيام مجلس النواب مسبقا باقرار قانون قطع الحساب. وعلى الرغم من أن المجلس الدستوري أعلن صراحة أنه “بالنسبة لقانون موازنة عام 2020 فنشره قبل قطع الحساب بالنسبة للسنة السابقة يشكل مخالفة للمادة 87 من الدستور، إلا أنه يظل من الضروري معرفة ما إذا كان مجرد حصول هذه المخالفة يوجب إبطال القانون المطعون به أم أن وجود معطيات وظروف محددة يمكن أن تحول دون الإبطال”. وبالفعل اعتبر المجلس أن الظروف الإستثنائية التي يمر بها لبنان تسمح للمشترع بالخروج عن المبادئ الدستورية لذلك فهو “لا يرى ضيراً في صدور قانون الموازنة ونشره من دون قطع الحساب الذي لم ينجز ويقرّ لأن البديل أي عدم إقرار الموازنة ونشرها يؤدي إلى إطلاق يد الحكومة في الإنفاق من دون تحديد أي سقف لهذا الإنفاق ما يشكل خللا أكبر في النظام العام المالي وضرراً فادحاً بمصالح البلاد العليا”.
لا يكتفي المجلس بالإستناد على نظرية الظروف الإستثنائية التي باتت المخرج لتأمين التبرير القانوني لأي خرق يرتكبه مجلس النواب للدستور، بل يعمد إلى الإستشهاد بقرار للمجلس الدستوري الفرنسي صدر في 31 كانون الأول سنة 1979 اعتبر فيه أن للبرلمان والحكومة الحق باتخاذ كافة الإجراءات المالية التي تدخل في صلاحياتهما من أجل تأمين استمرارية الحياة الوطنية ومن ضمن هذه التدابير إقرار قانون خاص يجيز للحكومة متابعة جباية الضرائب والرسوم في ظل غياب الموازنة على أن يستمر العمل بهذا القانون الخاص حتى صدور الموازنة الجديدة.
إن استشهاد المجلس الدستوري اللبناني بقرار نظيره الفرنسي أمر يثير الإستغراب كون القياس عليه غير جائز بسبب الإختلاف الكبير في الوقائع. صحيح أن المجلس الدستوري الفرنسي وافق على إصدار قانون خاص في ظل التأخر بإقرار قانون الموازنة العامة لكنه لم يوافق على ذلك إلا لأنه قبل خمسة أيام فقط قام بإبطال قانون موازنة عام 1980 بسبب مخالفتها الآلية الواجب اتّباعها من أجل إقرار القوانين المالية.
فقانون الموازنة الفرنسي، وعملا بأحكام المادة 31 من القانون الأساسي المتعلق بالقوانين المالية الصادر في 2 كانون الثاني 1959، يجب أن يقسم إلى قسمين: الأول يتضمن الأموال المقدرة التي ستتم جبايتها، بينما القسم الثاني يخصص للاعتمادات المفتوحة والمتعلقة بالإنفاق. وتضيف المادة 40 من القانون الأساسي المذكور شرطا جوهريا إذ تعلن أن التصويت على القسم الثاني لا يمكن أن يتم إلا بعد إقرار القسم الأول وذلك تأمينا لمبدأ التوازن بين الجباية والإنفاق. لكن الحكومة، رغبة منها في الإسراع في إقرار الموازنة دون إدخال تعديلات معقدة ومتشعبة عليها دفعت بالجمعية الوطنية إلى تبني قانون الموازنة دفعة واحدة دون احترام مبدأ ضرورة الإقرار المتعاقب للقسم الأول ومن ثم للقسم الثاني.
أمام هذا الواقع، قام المجلس الدستوري الفرنسي بابطال موازنة 1980 في 26 كانون الاول 1979 أي أنه أبطل الموازنة وهو على يقين كامل بأن السنة المالية الحالية هي على وشك الإنتهاء وأن السنة الجديدة (1980) ستبدأ دون وجود موازنة، ولم يعتبر المجلس إطلاقا أن قراره هذا سيؤدي إلى اطلاق يد الحكومة في الإنفاق وسيضرب مصالح البلاد العليا كما أعلنه المجلس الدستوري اللبناني في تبريره لقراره.
بعد صدور قرار المجلس الدستوري الفرنسي، قام البرلمان الفرنسي بإقرار قانون خاص يجيز الإستمرار بالجباية ريثما تصدر موازنة 1980. وبالفعل، تمّ الطعن بهذا القانون أمام المجلس الدستوري الفرنسي الذي أجاز اللجوء إلى هذا التدبير الخاص كون الدستور لم يلحظ فرضية قيام المجلس الدستوري بإبطال قانون الموازنة قبل نهاية العام، أي بعد الإنقضاء الفعلي للمهل التي يلحظها الدستور لإقرار الموازنة. لذلك يكون اعتبار المجلس الدستوري الفرنسي أن القانون الخاص يدخل في التدابير الضرورية من أجل تأمين استمرارية الحياة الوطنية هو نتيجة لإبطاله قانون الموازنة أي لحالة غير ملحوظة في الدستور الفرنسي، وبالتالي تكون الحالة الإستثنائية هنا، في حال فرضنا وجودها، ناجمة عن المجلس الدستوري نفسه الذي لم يتورع عن إبطال الموازنة قبل أيام فقط من نهاية السنة بسبب عدم احترام مبدأ التوازن في طريقة إقراراها، أي إقرار الأموال المقدرة من الجباية أولا، ومن ثم إقرار النفقات. فاذا كانت مخالفة هذا المبدأ مبررا لإبطال الموازنة، فكم بالحري صدور موازنة من دون قانون قطع حساب، أي من دون معرفة مجلس النواب لكامل الحسابات المتعلقة بجباية وإنفاق الأموال لكل إدارات الدولة. فكما أن مبدأ التعاقب بين قسمي الموازنة كان المبرر الكافي لإبطال موازنة 1980، فإن المبدأ الدستوري الأقوى للتعاقب بين قانون قطع الحساب والموازنة يحتم إبطال أي موازنة لا تحترم الموجب الدستوري القطعي المكرس في المادة 87 من الدستور.
والأغرب من ذلك أن عدم إقرار قانون قطع الحساب هو بسبب تقاعس الحكومة، وأن قيام مجلس النواب بإقرار الموازنة يعني أن المجلس استطاع الاجتماع والتشريع بغض النظر عن الاحتجاجات التي كانت تحيط بمقر المجلس. فالاحتجاجات قد تشكل ظرفا استثنائيا للتأخر في إقرار قانون قطع الحاسب أو الموازنة سويا لكنها لا تبرر إطلاقا اجتماع المجلس لإقرار الموازنة من دون قطع الحساب، ما يسقط عن نظرية الظرف الاستثنائي حجيتها.
ويضيف المجلس الدستوري أن لبنان يمر بظروف سياسية ومالية واقتصادية صعبة موحيا أن هذه الأوضاع هي التي تشكل أيضا ظرفا استثنائيا. ولا شك أن هذا التبرير لا يستقيم كون الأوضاع الصعبة هي نتيجة إهمال السلطة السياسية لواجباتها خلال سنين طويلة وإنفاقها للمال العام من دون موازنات أو قطع للحساب، أي أن الظرف الإستثنائي المالي سببه الخرق المتمادي الدستور، ولا يمكن بالتالي تبرير خرق مجلس النواب للدستور بعدم إقرار قطع الحساب بوجود ظرف استثنائي هو بدوره ناجم عن خرق أسبق للدستور ارتكبته السلطة السياسية. فمعنى قرار المجلس الدستوري الحالي يؤدي إلى الدخول في حلقة مفرغة بحيث يصبح خرق الدستور سببا لنشوء وضع استثنائي يبرر بدوره خرقا آخر للدستور.
إن قرار المجلس الدستوري الفرنسي لم يسمح بصدور موازنة دون قطع حساب لا بل هو أبطل موازنة سنة 1980 برمتها قبل خمسة أيام من انصرام سنة 1979 بسبب عيب في آلية إقرارها. وهو أجاز صدور قانون خاص يتعلق بالجباية بسبب غياب أي نص دستوري يحكم فرضية إبطال الموازنة، بينما في لبنان نحن أمام نص دستوري صريح يفرض إقرار قانون قطع الحساب قبل إصدار الموازنة وهكذا ينهار القياس الذي بنى عليه المجلس الدستوري في لبنان تبريره بغية رد الطعن برمته باستثناء إبطال حرف واحد.
وفي النهاية، لا بد لنا من الإشارة إلى ملاحظة قد يظن البعض أنها شكلية لكنها في الحقيقة بالغة الدلالة. فخلافا لكل قرارات المجلس الدستوري السابقة التي كان المجلس يعلن ضرورة إبلاغها إلى المراجع الرسمية المختصة، يختم المجلس الدستوري الحالي ولأول مرة قراره بضرورة إبلاغه إلى “فخامة رئيس الجمهورية ودولة رئيس مجلس النواب ودولة رئيس مجلس الوزراء” مكرسا ألقاب التعظيم السياسية في مخاطبته لتلك الجهات ما يعكس الصورة التي ينظر فيها هذا المجلس الدستوري لنفسه ودوره.