“
وضعت نساء لبنانيات وسوريات اليد باليد بمناسبة اليوم العالمي للمفقودين الذي حددته الأمم المتحدة في 30 آب من كل عام. وقعت النساء من البلدين عريضة تطالب الحكومة السوريّة والمعارضة المسلّحة في سوريا بالكشف عن المفقودين. كما مدت رئيسة لجنة أهالي المفقودين في لبنان وداد حلواني، اليد للسوريات مشاركة إياهن 37 عاماً من النضال في سبيل معرفة مصير مفقودي الحرب اللبنانية. اللقاء حصل مساء 4 أيلول 2019، بدعوة من منظمة العفو الدولية في لبنان بالتعاون مع جمعيّة “نوفوتوزون-Nophotozone” تحت عنوان “المفقودون في لبنان وسوريا” في مركز Antwork في القنطاري-الحمرا.
حضرت الندوة مجموعة من النساء اللبنانيات والسوريّات اللواتي قدمن ثلاث حافلات من المخيمات وأماكن اللجوء. فقدت هؤلاء، سواء في لبنان أو في سوريا، شخصا أو اكثر من عائلاتهنّ في الحرب اللبنانيّة أو السوريّة، بالإضافة إلى مجموعة من الدبلوماسيّين والصحافيّين والناشطين.
مهدت الباحثة المختصّة بالشأن اللبنانيّ في منظّمة العفو سحر مندور للقاء بمطالبة الحكومة السوريّة الكشف عن مصير المفقودين في سوريا، والحكومة اللبنانيّة بتطبيق القانون 105 الخاص بالمفقودين في لبنان، والذي يكرّس “حقّ المعرفة لأفراد أسر المفقودين والمخفيين قسرًا بشأن مصائر هؤلاء”.
رغم نقاط الاختلاف بين قضيّة المفقودين في لبنان وسوريا، ذكرت مندور، التي أدارت النقاش لاحقا، أنّ اللقاء هو محاولة لمشاركة المعاناة والأحداث الشخصيّة، وإضاءة على النضال في قضيّة المفقودين بمستوييه الخاصّ والعامّ. شاركت في الندوة وداد حلواني، رئيسة لجنة أهالي المخطوفين والمفقودين في لبنان، ونورا غازي، محامية ومؤسّسة منظمّة “نوفوتوزون” السوريّة ومديرتها، لعرض تجارب الفقدان الخاصّة بهما ونضالهما في سبيل معرفة مصير المفقودين في لبنان وسوريا.
ردّا على سؤال مندور عن وقع الفقدان على الفرد والعائلة، عبّرت حلواني عن استحالة قياس المعاناة أو الوجع مؤكدة أن المعاناة السوريّة واللبنانيّة “واحدة”. سردت قصّة اختفاء زوجها عدنان في العام 1982، ورحلة نضالها ونضال لجنة أهالي المخطوفين التي طالت 37 عاما منذ تأسيسها، وما زالت مستمرّة.
أمّا نورا غازي، فتكرّرت معاناتها من فقدان والدها واعتقاله وهي في سنّ الخامسة، إلى اختفاء خطيبها باسل خرطبيل الصفدي، مع بداية الصراع في سوريا، وقبل أسبوعين من موعد زفافهما. اختفى باسل للمرة الأولى في 2012 قبل أن تعرف عن اعتقاله في سجن عدرا، ثمّ في سجن صيدنايا بعد اختفاء ثانٍ. نورا التي علمت بخبر الإختفاء وهي ذاهبة لشراء فستان الزفاف، تزوّجت من باسل في السجن خلال إحدى الزيارات. كمحامية متابعة لموضوع الإعتقالات، كانت على يقين بما يجري للمعتقلين في سجون النظام أو سجون الجهات الأخرى. كانت مشاعر نورا تتأرجح بين غضب ونقمة من باسل لاختفائه قبل عرسهما: “بس لو لبسنا هالفستان”، وبين شعور بالذنب لأنها هي من أصرّت على البقاء في سوريا، ولأنّ باسل قدم أدلة ضد نفسه تنفي تهما كانت موجهة لها وبالتالي ألغى ثلاث مذكرات توقيف كانت صادرة بحقها.
ركّزت نورا على فكرة أنّ عائلات المفقودين لا تتخطّى الفقدان بل تتعايش معه. ولذلك تهدف منظّمة “نوفوتوزون”، التي تأسّست في العام الماضي، إلى مناصرة قضيّة المخطوفين والمفقودين وإلى نشر الوعي القانونيّ والحقوقي المتعلّق بها. وهي المنظمة الأولى التي تعمل مع الموالاة والمعارضة في سوريا، مركّزة على الجانب الإنساني البعيد عن تعقيدات السياسة، بحسب قول غازي.
وعن النضال في زمن الحرب، قالت وداد حلواني إنّ ذلك لم يكن سهلا. في البداية، تمثل النضال في مطالبة السلطات الرسميّة بإطلاق جميع المفقودين، بالرغم من ضعف سلطة الدولة مقارنة بسلطة الميلشيات المسلّحة. وصفت حلواني ما تعرضت له النساء المطالبات بكشف مصير أفراد عائلاتهن من “أساليب الترغيب والتهديد من قبل الميلشيات، الابتزاز العاطفيّ والماليّ، التحرّش الجنسيّ، إعطاء الأمل الكاذب، وتهديد بالخطف”. أمّا الجواب الرسميّ للحكومة فكان “العين بصيرة واليد قصيرة”. واجهت لجنة أهالي المخطوفين عقبات الحرب والاقتتال الطائفيّ، وفي حين كانت اللجنة تنتظر السلم كي تعرف مصير مفقوديها، “جاء السلام ولم يتوقّف عند أحد من أهالي المفقودين”. وبعد الحرب، تعرّضت قضيّة المفقودين لتهميش وتعتيم إعلاميّ، وطُلب من لجنة الأهالي أن تنسى الماضي وتشارك في عمليّة الإعمار، الذي قد تكون جرافاته هي من “طحنت عظام” المفقودين، وفقا لما قالته حلواني.
أمّا في سوريا، فتقول مديرة “نوفوتوزون” نورا غازي أنّ الوضع مختلف. ف “اللجوء للدولة هو خارج الإحتمالات كونها هي إحدى الجهات الخاطفة والمعتقِلة، وهذا يصعّب إمكانيّة النضال من داخل سوريا. لذلك، كان دور الحملة التي تعمل خارج البلاد قائما على تعريف الرأي العام الغربيّ على معنى الإعتقال في سوريا”. “استثمرت” نورا، الزوجة والمحامية، قصّة باسل الذي يرجح أنه أعدم في العام 2015، كوسيلة لتعريف الناس على المحاكم الميدانيّة وسجن صيدنايا والإعدام. وهي، التي ترى في وداد حلواني نفسَها بعد ثلاثين عامًا، تعلم أنّ ملفّ المفقودين يحتاج لزمن ونضال طويلين. وشدّدت على عدم الفصل بين حقّ المعرفة وحقّ المحاسبة، لأنّ الحقّين يكمّلان بعضهما، والخيار في هذا الأمر يعود للعائلات المتضرّرة حصرا.
في الجزء الأخير من النقاش، أعلنت وداد حلواني أنّ النضال شبه اليوميّ لمدّة 36 عاما هو الذي انتزع القانون 105 الذي أقر في 2018. ولكن هذا لا يُنهي المعركة قبل أن يطبّق القانون وتتشكّل هيئة وطنيّة مستقلّة مهمتها الكشف عن مصير المفقودين. ومقابل القانون في لبنان، لجأت الحكومة السوريّة إلى إصدار شهادات وفاة وتسليم هويّات منذ سنة وثلاثة أشهر، ولكن هذا لم يكن دليلا أو يقينًأ لنورا أو للعائلات السوريّة الأخرى. ما تريده هذه العائلات هي الحقوق القانونيّة والإداريّة الناتجة عن هذا اليقين: “بدنا نعيش الحداد”.
تخلّل الندوة عرض لفيلمين، أحدهما “احكيلي حكايتك” لمنظمّة “نوفوتوزون” يروي قصّة عائلة سوريّة تعيش في لبنان بانتظار أيّ خبر عن والدها المفقود. أمّا الفيلم الثاني “آخر صورة: هيي وقاطعة” فتروي وداد حلواني من خلاله قصّة كوليت، أمّ لبنانيّة فقدت أبناءها وساهمت في نضال لجنة الأهالي المفقودين وكانت “مديرة” الخيمة التي أنشأها الأهالي في وسط بيروت من أجل المطالبة بكشف مصير أفراد عائلاتهم.
“