إلى حدود بداية التسعينات الفائتة، كانت تونس تصنف كدولة مصدرة للمهاجرين، أساسا نحو أوروبا. وكان عدد الأجانب فيها لا يتجاوز بضعة آلاف أغلبهم مستثمرون وموظفون أوروبيون وبصفة أقل طلبة وعمال أفارقة وعرب. لكن منذ أواخر القرن الفائت بدأت الأمور تتغير. ففي سنة 1995، تمّ إرساء فضاء “شنغن” الأوروبي الذي فرض تأشيرات دخول من الصعب على أغلب التونسيين ومواطني “دول الجنوب” الحصول عليها، وهو ما نتج عنه لجوء الحالمين بمكان في “النعيم الأوروبي” إلى الهجرة غير النظامية (“الحرقة” كما تسمى في المغرب العربي). كما أن تونس اختارت في نفس تلك الفترة تطوير علاقتها مع دول أفريقيا جنوب الصحراء واستكشاف فرص الاستثمار والتعاون. ومن بين نتائج هذه السياسة اجتذاب عشرات آلاف الطلبة الأفارقة للدراسة في الجامعات التونسية الخاصة. ثم أتت أحداث الثورة التونسية و”الربيع العربي” في بداية 2011 لتخلق واقعا أمنيا جديدا وتحديات غير مسبوقة. فمن جهة، استغلّ عشرات آلاف التونسيين فرصة تضعضع الأجهزة الأمنية المحلية لمحاولة عبور المتوسط نحو سواحل إيطاليا، ومن جهة أخرى أجبرت الحرب في ليبيا مئات آلاف البشر إلى الفرار نحو تونس طلبا لحماية مؤقتة أو للجوء السياسي.
كما أن تونس أصبحت دولة عبور رئيسية بالنسبة للمهاجرين الأفارقة والعرب غير النظاميين. فالطريق المغربية-الإسبانية شبه مغلقة والطريق الليبية-الإيطالية غير آمنة. وهكذا وجدت تونس، البلد الإفريقي الذي يقع على بعد عشرات الكيلومترات فقط من سواحل أوروبا، نفسها في قلب حركية متعددة المحاور: جنوب/جنوب وجنوب/شمال. بلد هجرة واستقبال وعبور ولجوء. لكن هل استوعبت المدونة القانونية التونسية كل هذا الزخم؟ وهل هناك سعي حقيقي للتأقلم مع المتغيرات السياسية والاجتماعية والديموغرافية؟
الهجرة غير النظامية
قرابة مليون ونصف تونسي يقيمون في الخارج بشكل قانوني (حسب أرقام وزارة الشؤون الاجتماعية). فالتونسيون لم يتوقفوا يوما عن الهجرة إلى أوروبا منذ الستينات الفائتة. في البداية كانت الأمور سهلة: يكفي أن يكون لديك ثمن تذكرة سفر لبلد أوروبي وأحد الأقارب أو الأصدقاء يقيم هناك ويأويك بانتظار أن تعثر على عمل وتسوي وضعيتك وتصبح مقيما. لكن منذ الثمانينات، بدأت الأمور تتعقد. فلقد قلت حاجة الأوروبيين إلى العمال المهاجرين. شهدت اقتصادات القارة العجوز نوعا من الركود جعلها تتبنى سياسات هجرية أكثر فأكثر تشددا وصولا إلى احداث منطقة “شنغن” وفرض تأشيرات دخول بشروط تعجيزية في أواسط التسعينات. حينها ظهر أول “قوارب الموت” التونسية التي تعبر المتوسط نحو الشمال حاملا فقراء بلا تأشيرات ولا جوازات سفر، ليبدأ عصر “الحرقة”. في البداية، كانت الهجرة غير النظامية خيار عدد محدود من المهاجرين أغلبهم تونسيون. ثم بدأت الأعداد تتطور وشبكات المهربين تتطور ودخلت جنسيات أخرى على الخط. فأصبحت تونس أرض عبور/ترانزيت. في المقابل، لم تكن هناك قوانين خاصة للتعامل مع هذه الظاهرة، فقط بعض الفصول العامة من قوانين قديمة مثل الفصول 4 و5 و23 و25 من قانون عدد 7 لسنة [1]1968 المتعلق بحالة الأجانب بالبلاد التونسية:
- الفصل 4 – لا يمكن الدخول إلى تراب البلاد التونسية أو الخروج منه إلا من نقط الحدود التي يقع تعيينها بقرار من كاتب الدولة للداخلية.
- الفصل 5 – يجب على كل أجنبي يحل بالبلاد التونسية أن يستظهر بجواز سفر قومي ساري المفعول أو وثيقة سفر تسمح لحاملها بالرجوع إلى البلاد التي أصدرتها ومؤشر عليهما من طرف السلط القنصلية التونسية.
- لفصل 23 – يعاقب بالسجن من شهر إلى سنة وبخطية تتراوح بين ستة دنانير ومائة وعشرين دينارا الأجنبي الذي: يدخل البلاد التونسية أو يخرج منها بدون أن يمتثل للشروط المنصوص عليها بالفصلين 4 و5 من هذا القانون والنصوص التي ستصدر لتطبيقه.
- الفصل 25 – يعاقب بالسجن لمدة تتراوح بين شهر وسنة وبخطية تتراوح بين ستة دنانير ومائة وعشرين دينارا الشخص الذي يعتمد إعانة أجنبي بصفة مباشرة أو غير مباشرة أو يحاول تسهيل دخوله إلى البلاد التونسية أو خروجه منها أو جولان أو إقامته بها بصفة غير شرعية.
أو الفصلين 34 و35 من قانون عدد 40 لسنة 1975[2] المتعلق بجوازات السفر ووثائق السفر:
- الفصـل 34 – يتحتم على المسافرين عند دخولهم إلى التراب التونسي ومغادرته المرور وجوبا من المراكز الحدودية المعدة لهذا الغرض والمضبوطة بقائمة حسب قرار مشترك صادر عن وزيري الداخلية والمالية.
وكل تونسي لا يمتثل لأحكام الفقرة السابقة يكون معرضا إلى العقوبات الواردة بالفصل 35 من هذا القانون.
وباستثناء ما اقتضته الاتفاقيات الدولية الجارية وخاصة اتفاقية جنيف المؤرخة فـي 28 جويلية 1951 المتعلّقة بنظام اللاجئين، فإن كل شخص يتعمد من غير التونسيين خـرق الأحكام الواردة بهذا القانون يمكن ارجاعه خارج الحدود من طرف سلطات الأمن دون أن يمنع ذلك من تطبيق العقوبات المنصوص عليها بالفصل 23 من القانون عدد 7 لسنة 1968 المؤرخ في 8 مارس 1968 المتعلّق بوضعية الأجانب بالبلاد التونسية.
- الفصل 35 – كل تونسي يتعمد مغادرة التراب التونسي أو الدخول إليه بدون وثيقة سفر رسمية يعاقب بالسجن لمدة تتراوح بين 15 يوما وستة أشهر وبخطية تتراوح مـن 30 إلى 120 دينارا أو بإحدى هاتين العقوبتين.
وفي صورة العود يمكن عقاب المخالف بضعف العقوبة المنصـوص عليهـا بـالفقرة السابقة.
طبعا هذه الفصول وضعت في زمن لم تكن فيه الهجرة غير النظامية موجودة، على الأقل بالشكل الحالي، وهي لا تمكن من التعامل مع ظاهرة عابرة للأوطان وتتداخل فيها عدة أطراف: راغبون في الهجرة، وسطاء، مهربون، أصحاب قوارب، مكلفون بإيواء المهاجرين المحتملين ونقلهم في البر قبل عبور البحر، الخ. في الواقع لم تكن الهجرة غير النظامية مزعجة فعليا للنظام التونسي. فهي تخلصه سنويا من آلاف الشباب العاطلين عن العمل وتجعل منهم عمالا مهاجرين يرسلون حوالات بالعملة الصعبة إلى عائلاتهم في تونس ويرجعون كل صيف بعد حصولهم على الإقامة فينفقون مبالغ كبيرة ويبنون منازل ويبعثون مشاريع. أما من يلقى حتفه في البحر، فالأعمار بيد الله وكل شخص يتحمل مسؤوليات أفعاله.
المشكلة كانت تتمثل أساسا في الضغوط الأوروبية. فتونس التي وقعت اتفاقية شراكة مع الاتحاد الأوروبي في سنة 1995 (دخلت حيز التنفيذ في 1998) والتي ظل اقتصادها تصديرا وتوريدا واستثمارا مرتبطا بشكل شبه كلي بالأوروبيين كانت في موقع ضعف لا يسمح لها بالمناورة كثيرا أمام المطالب الأوروبية المتكررة بضرورة التصدي للهجرة غير النظامية سواء تعلق الأمر بتونسيين أو بأجانب. وقعت تونس على اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الجريمة المنظمة (معاهدة باليرمو 2000) وبرتوكولاتها الثلاثة بما فيها “بروتوكول مكافحة تهريب المهاجرين عن طريق البر والبحر والجو.” لكن هذا لم يكن كافيا بالنسبة للأوروبيين: وعليه، سنّ البرلمان التونسي “قانون عدد 6 لسنة [3]2004″ لكن ليس كقانون خاص بالهجرة غير النظامية بل كتنقيح لقانون عدد 40 لسنة 1975 المتعلق بجوازات السفر ووثائق السفر. أي أن الدولة ستتصدى لظاهرة دون أن تعترف بوجودها، ربما حتى لا يتوجب عليها أن تجد حلولا حقيقية. لم تتضمن الفصول الجديدة عقوبات مشددة في حق المهاجرين غير النظاميين بل ركزت على الفاعلين الآخرين من وسطاء وناقلين وموفري المأوى. مثلا يقول الفصل 38 من هذا القانون الجديد/القديم: “يعاقب بالسجن مدة ثلاثة أعوام وبخطية قدرها ثمانية آلاف دينار كل من أرشد أو دبّر أو سهّل أو ساعد أو توسّط أو نظّم بأيّ وسيلة كانت، ولو دون مقابل، دخول شخص إلى التراب التونسي أو مغادرته خلسة سواء تمّ ذلك برا أو بحرا أو جوّا، من نقاط العبور أو من غيرها. والمحاولة موجبة للعقاب وكذلك الأعمال المعدة مباشرة لارتكاب الجريمة”. وهذه العقوبة هي الأخف فالعقوبات السجنية يمكن أن تصل إلى 20 عاما، والغرامات المالية إلى 100 ألف دينار تونسي. هذا القانون يعاقب أيضا كل من علم بوجود تدبير لعملية هجرة غير نظامية ولم يشعر الأجهزة الأمنية بذلك، هذه “الوشاية” الإجبارية مضمنة في الفصل 45: “يعاقب بالسجن مدة ثلاثة أشهر وبخطية قدرها خمسمائة دينار كل من يمتنع عمدا ولو كان خاضعا للسرّ المهني عن إشعار السلط ذات النظر فورا بما بلغ إليه من معلومات أو إرشادات وبما أمكن له الاطلاع عليه من أفعال حول ارتكاب الجرائم المنصوص عليها بهذا الباب. ويستثنى من أحكام الفقرة المتقدمة الأصول والفروع والإخوة والأخوات والقرين. ولا يمكن القيام بدعوى الغرم أو المؤاخذة الجزائية ضدّ من قام عن حسن نيّة بواجب الإشعار”. حتى من يساعد مهاجرين غير نظاميين في حالة خطر في البحر أو في البر أو يتعاطف معهم إنسانيا ويأويهم دون أي مقابل أو يساعدهم على الفرار من الملاحقة الأمنية، يمكن أن يسجن لمدة 4 أو 5 سنوات ويدفع غرامة مالية قدرها 10 آلاف دينار فما فوق. لكن كل الوقائع تدل على أن هذه القوانين الزجرية لم تنفع كثيرا. فما زال الآلاف من التونسيين والعابرين الأفارقة يغادرون السواحل التونسية كل سنة. يموت بعضهم في الطريق ويصل بعضهم إلى أوروبا أو يلقى عليه القبض فيرحل إلى تونس. ما زالت الضغوط الأوروبية مستمرة بشكل يشبه الابتزاز وما زالت السلطات التونسية تلعب دور خفر سواحل بالوكالة، والكل يتعامى عن الأسباب والحلول الحقيقية.
الإقامة وشروطها
الدخول إلى تونس سهل: فمواطنو عدد كبير جدا من البلدان معفون من تأشيرة الدخول أو يتحصلون عليها بسهولة، لكن التعقيدات تبدأ عند محاولة الحصول على بطاقة الإقامة بها وأحيانا عند الخروج منها. لكن هذه التعقيدات لا تنطبق على الجميع. فالأوروبيين لا يعاملون كالأفارقة وأفارقة جنوب الصحراء أقل حظا من أفارقة الشمال والطلبة القادمون من جنوب الصحراء أكثر حظا من العمال القادمين من نفس المنطقة، وهكذا دواليك. والملاحظ أن قوانين صدرت في 1968 ما زالت تحدد سياسات الدولة فيما يتعلق بالأجانب في تونس والذين يبلغ عددهم اليوم أكثر من سبعين ألف حسب أرقام المنظمة الدولية للهجرة. تفرش الدولة السجاد الأحمر للمستثمرين خاصة الأوروبيين والخليجيين وتقدم لهم جملة من الإعفاءات الجمركية عند إدخال آلات ومعدات لمصانعهم المنتصبة في تونس وتمنحهم إعفاءات ضريبية مهمة وإمكانية تحويل جزء هام من أرباحهم إلى الخارج بالعملة الصعبة وحتى شهادة الإقامة تقدم لهم بسرعة بمجرد تقديم طلب وعدد قليل من الوثائق والمستندات. وكذلك يحظى الموظفون الأوروبيون الذين يعملون في مؤسسات وشركات أوروبية منتصبة بتونس بتسهيلات كبيرة للحصول على شهادة الإقامة. حتى المتقاعدون الأوروبيون الذين يقررون قضاء بقية أعمارهم تحت شمس تونس يتحصلون على شهادة الإقامة في وقت وجيز. المهم أن يكون لديك مدخول مالي جيد وأن لا تكون مشروع “حارق” (مهاجر غير نظامي) أو إرهابي. وهناك نوعان من بطاقة الإقامة في تونس، الأولى مؤقتة ولا تتجاوز صلاحيتها سنة واحدة في حين أن الثانية عادية ومدة صلاحيتها سنتان تجدد بشكل شبه أوتوماتيكي، عندما لا يكون هناك تغيير في وضعك المادي أو العائلي. الذين يتحصلون على النوع الثاني هم المحظوظون وأغلبهم أوروبيون. لكن عندما يتعلق الأمر بطلبة وعمال من دول الجنوب خاصة الأفريقية تصبح الأمور أصعب بكثير حتى وان كنت تمتلك المال.
القوانين التونسية في مجال عمل الأجانب حمائية بشكل كبير[4]. فهذا القانون يمنع العمال الأجانب من منافسة التونسيين ومن البحث عن عقد عمل أفضل أو الانتقال إلى محافظة أخرى او حتى تغيير نوع العمل. لا يمكن للعامل الأجنبي إذا ما حصلت معجزة وتحصل على ترخيص العمل وكل الوثائق إلا الحصول على شهادة إقامة صالحة لسنة واحدة ويجب عليه أن يقيم 5 سنوات دون انقطاع في تونس ويجدد الإقامة المؤقتة 5 مرات حتى يستطيع الحصول على الإقامة العادية التي تمتد صلاحيتها لخمس سنوات.
وضعية الطلبة الأجانب ليست أفضل بكثير. فحتى وإن كان لديهم تسجيل في جامعة تونسية وموارد مالية كافية للإنفاق على حاجياتهم فإنهم مطالبون بتقديم ملف ضخم من شبه المستحيل تجميعه في أسابيع وجيزة بعد القدوم إلى تونس. وهكذا قد يجد الطالب نفسه بعد نهاية صلاحية تأشيرته مقيما غير شرعي نظرا لأنه لم يحصل على بطاقة الإقامة بعد.
أما إذا دخل الأجنبي البلاد بطريقة غير قانونية فلا يمكن له أبدا تسوية وضعيته. فوزارة الداخلية تشترط عند فحص ملف طالب بطاقة الإقامة أن “يكون قد دخل البلاد بطريقة شرعية” أي من منفذ حدودي بوثيقة سفر رسمية وتأشيرة. وعند عدم قدرة أجنبي على تقديم ملف طلب بطاقة الإقامة لأول مرة أو عند تجديدها في الآجال فإنه سيجد نفسه مقيما غير شرعي ويتوجب عليه دفع غرامة مالية عن كل أسبوع يقضيه في وضعية غير قانونية ولن يستطيع مغادرة البلاد قبل دفع المبلغ المطلوب. أما عندما يرفض مطلبه فهو مطالب بمغادرة البلاد فورا وإذا ما استحال عليه ذلك فإنه معرض للإحتجاز (الفصول 26 و27 من قانون عدد 7 لسنة 1968) في انتظار أن يجمع له أصدقاؤه أو أهله ثمن تذكرة سفر، إذ أن الدولة التونسية لا تتكفل أبدا بمصاريف الإبعاد.
فضلا عن طرد الأجانب الذين دخلوا البلاد و/أو أقاموا فيها بطريقة غير قانونية فإنه بإمكان الدولة طرد الأجنبي المقيم بطريقة قانونية والذي “يشكل وجوده خطرا على الأمن العام” (الفصل 18 من قانون عدد 7 لسنة 1968) دون توضيح أشكال ودرجات هذا الخطر.
اللجوء السياسي
تقول الأسطورة أن “اللاجئة السياسية” الفينيقية هي من أسست “قرطاج”. وبعيدا عن الأساطير، فإن لهذه الرقعة الجغرافية التي تسمى اليوم تونس تاريخا طويلا في حماية الهاربين من الاضطهاد الديني والعرقي والسياسي. وفي العصر الحديث، آوت تونس الليبيين الهاربين من الاحتلال الإيطالي في بداية القرن والجزائريين خلال حرب التحرير ضد فرنسا في الخمسينيات والحرب الأهلية في التسعينات وكذلك قيادة منظمة التحرير الفلسطينية بعد الخروج من بيروت في أواخر صيف 1982. وتبقى سنة 2011 فارقة في تاريخ تونس، فلقد تدفق على حدودها مئات آلاف الفارين من الحروب وبقوا في البلاد لفترة تتراوح مدتها حسب الجنسيات والحالات. ثم تم تنظيم عودة أغلبهم إلى بلدانهم الأصلية ودراسة ملفات بضعة آلاف طلبوا اللجوء. ورغم أن تونس كانت تعيش حينها انتقالا سياسيا مزلزلا، فإن التضامن الشعبي والدور الكبير للمجتمع المدني والأمم المتحدة مكنا تونس من تجاوز أزمة المليون “لاجئ” بسلام. وتعالت حينها أصوات بإصدار تشريع محلي ينظم مسألة اللجوء السياسي.
تحدث دستور سنة 1959 عن المسألة في الفصل 17 المقتضب جدا “يحجر تسليم اللاجئين السياسيين”. أما دستور 2014 فخصص لها الفصل 26 الذي ينص على كون “حق اللجوء السياسي مضمونا طبق ما يضبطه القانون، ويحجر تسليم المتمتعين باللجوء السياسي.”. لكن المشكل في عبارة “طبق ما يضبطه القانون”. فإلى حدود اليوم، ليس لتونس قانون لجوء سياسي خاص بها، وتبقى الاتفاقيات الدولية هي المرجع الوحيد. فلقد انضمت تونس لاتفاقية جينيف في 1957 وطلبت من المفوضية الأممية السامية لشؤون اللاجئين التدخل بعد لجوء آلاف الجزائريين إلى تونس في أواخر الخمسينات ثم منحتها تمثيلية شرفية في تونس سنة 1963. كما وقعت على بروتوكول 1967 المكمل لاتفاقية جينيف ثم وقعت اتفاقية منظمة الوحدة الأفريقية للاجئين في 1989. أما بعد الثورة فلقد تم توقيع اتفاق تعاون مع المفوضية السامية لشؤون اللاجئين في 2011 قبل منحها تمثيلية رسمية في شهر 9 من نفس السنة. وبالتالي أصبحت المفوضية هي الجهة المخولة بالنظر في ملفات طالبي اللجوء المتواجدين في تونس.
وأبدت تونس اهتمامها بسن تشريع محلي عام 2012 وذلك بإشراف وزارة العدل التونسية والمفوضية السامية لحقوق اللاجئين والمعهد العربي لحقوق الإنسان. وكان من المفترض أن هذا القانون سيمر بسرعة. فالعديد من قادة الطبقة السياسية الجدد كانوا لاجئين سياسيين في دول أوروبية وعربية ويعرفون جيدا أهمية هذا الأمر بالنسبة للمضطهدين. لكنه إلى اليوم لم يعرض القانون على البرلمان بعد، مما يعني بكل بساطة أن الحكومات التونسية المتعاقبة ليست متحمسة كثيرا للأمر. الرهانات كبيرة في هذا الموضوع. تونس هي المنفذ الأول لليبيا والمقيمين فيها وهذا البلد مهدد بشكل مستمر باندلاع نزاعات مسلحة عنيفة قد تجبر الكثيرين على الفرار إلى تونس وطلب اللجوء فيها. كما أن هناك حديثا عن ضغوط أوروبية تريد تركيز نقاط لتجميع طالبي اللجوء من أفريقيا جنوب الصحراء إلى أوروبا في تونس في انتظار الموافقة على ملفاتهم أو رفضها. سن قانون محلي للجوء السياسي يعني مسؤوليات والتزامات كبيرة وربما هذا ما تخشاه السلطات التونسية.
مكافحة العنصرية والإتجار بالأشخاص
في السنوات الأخيرة، سنّت تونس قوانين حقوقية تقدمية مهمة. وهي ليست موجهة مباشرة للأجانب لكنها تهمهم بدرجة كبيرة : القانون الأساسي عدد 61 لسنة 2016 المتعلق بمنع الاتجار بالأشخاص[5] والقانـون الأساسي عدد 50 لسنة 2018 المتعلق بالقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري[6]. القانون الأول يهم خاصة الأجانب الفقراء الذين يقيمون بطريقة غير قانونية في تونس، فوضعيتهم الهشة وعجزهم عن العودة إلى بلدانهم الأصلية و/أو رغبتهم في الهجرة إلى أوروبا تجعل الكثير منهم يسقطون ضحايا لأحد أشكال الإتجار بالبشر التي ذكرها وشرحها المشرع في الفصول الأولى من القانون. فالأجنبي، خاصة القادم من دول أفريقيا جنوب الصحراء، الذي يصعب عليه الحصول على عمل قانوني وبطاقة إقامة قد يضطر للعمل في ظروف غير إنسانية بأجور متدنية وأحيانا بلا مقابل عند وقوعه في براثين شبكات الإتجار بالأشخاص. بالإضافة إلى الأحكام المشددة ضد المتاجرين بالبشر فإن هذا القانون يقضي بتأسيس «هيئة وطنية لمكافحة الاتجار بالبشر” تتولى وضع استراتيجيات وطنية وتلقي الإشعارات بالجرائم والتنسيق بين مختلف السلط والجهات المعنية بالملف في الداخل والخارج وتجميع بيانات وإصدار تقارير دورية وتنظيم ندوات وملتقيات ودورات تكوينية. كل هذا مهم وضروري، لكن يجب على الدولة قبل كل شيء أن تعاود النظر في القوانين والإجراءات التي تضيق على الأجانب وتصعب وصولهم إلى سوق الشغل وتسوية وضعياتهم وتجبرهم على العيش في وضعيات هشة وحتى التفكير في ركوب “قوارب الموت” المتجهة نحو السواحل الأوروبية. أرقام الهيئة الوطنية لمكافحة الاتجار بالبشر لا تترك مجالا للشك: الأجانب الفقراء خاصة الأفارقة هم الأكثر تعرضا للمخاطر. ففي تقريرها لسنة 2018 أحصت الهيئة 780 ضحية نصفهم تقريبا من مواطنات ومواطني “الكوت ديفوار”، وهذا دون احتساب الجنسيات الأخرى.
أما القانون الثاني الخاص بمكافحة العنصرية، والذي اعتبر مكسبا للأقليات في تونس خاصة ذوي البشرة السوداء سواء من المحللين أو من الأجانب، فإنه يهم بدرجة أولى أفارقة جنوب الصحراء المقيمين في البلاد. هذه الشريحة هي الأكثر عرضة للانتهاكات العنصرية سواء اللفظية أو الجسدية والتي تصل إلى حد القتل. ففضلا عن جهل جزء من الأجانب لحقوقهم، فإن الكثيرين منهم يتحاشون تقديم شكاوى رسمية إما لمعرفتهم المسبقة بأن قضاياهم لن يتم التعامل معها بجدية أو لأنهم لا يمتلكون أوراق إقامة قانونية ولا يريدون الاحتكاك بأجهزة الأمن. حتى أن الكثير من المنحرفين يعرفون أن هذه الفئة من الأجانب بلا حماية تقريبا فلا يتوانون في الاعتداء بهدف السرقة أو من منطلق عنصرية بحت.
خاتمة
ما زالت قوانين سنت في ستينات وسبعينات القرن الفائت سارية المفعول فيما يتعلق بأوضاع الأجانب وحقوقهم في تونس رغم كل التغيرات الكبيرة التي شهدتها البلاد وكذلك تطور وتنوع الأدفاق الهجرية في أفريقيا وبين ضفتي المتوسط. مازال الأجنبي غير الغربي مثيرا للشبهات بالنسبة للسلطات التونسية ومصدر محتمل لإثارة المشاكل والقلاقل. ورغم الإخفاق الكبير الذي حققته السياسات الأمنية للاتحاد الأوروبي وبعض دول الجنوب في وقف ظاهرة الهجرة غير النظامية، فما زال هناك من يعتقد أن النصوص القانونية “الصلبة” والعقوبات المشددة هي الحل. طبعا من حق كل دولة حماية حدودها ومراقبة حركة الدخول والخروج وممارسة سيادتها على مجالها لكن هذا لا يعني أن تتحول تونس إلى أجير عند الاتحاد الأوروبي يحمي حدوده بالوكالة عنه ومقابل بعض القروض والتسهيلات والاتفاقيات.
تونس التي يعيش قرابة المليونين من أبنائها في المهجر ويساهمون بمدخراتهم وتحويلاتهم المالية في زيادة احتياطي البلاد من العملات الصعبة وتنشيط اقتصادها وإعالة مئات الآلاف من مواطنيها، هي في موقع يسمح لها بتفهم الأهمية الحيوية للهجرة والمهاجرين بالنسبة لدول الجنوب. وتونس التي اضطر الآلاف من أبنائها لطلب اللجوء السياسي في عدة بلدان هربا من الديكتاتورية والاضطهاد، يجب أن تكون لها سياسة لجوء فعلية وفعالة حتى وإن كانت دولة “فقيرة”. وتونس التي عاشت منذ سنوات قليلة ثورة يجب أن تترجم وضعها الجديد في قوانين تقدمية يتفوق فيها الهاجس الحقوقي على الحسابات الأمنية والسياسوية. بعض البشائر بدأت تلوح لكن المشوار ما زال طويلا وصراع الإرادات ما زال مستمرا. طبعا تعديل القوانين أو اصدار أخرى أكثر تماشيا مع العصر والقيم الكونية ليس إلا الخطوة الأولى فالأجهزة الأمنية والقضائية والإدارية هي المسؤول الأول عن تحول هذه النصوص إلى واقع.
[3] https://legislation-securite.tn/ar/node/45000
[4] هذا التضييق نلاحظه في فصول القانون عدد 7 لسنة 1968:
– الفصل 6 – إذا كان قصد الأجنبي من الدخول إلى البلاد التونسية مباشرة مهنة مأجورة يجب عليه ان يقدم زيادة عن الوثائق المذكورة بالفصل الخامس من هذا القانون عقد شغل محررا طبق تراتيب الشغل الجاري بها العمل بالبلاد التونسية.
الفصل 8 – لا يمكن لأي أجنبي احتراف مهنة أو القيام بعمل مقابل أجر بالبلاد التونسية إذا لم يكن مرخصا له في ذلك من طرف كتابة الدولة التي يهمها الأمر.
اما مجلة الشغل (قانون عدد 27 لسنة [4]1966) فهي تعقد الأوضاع أكثر، خاصة بعد التنقيحات التي أدخلها قانون عدد 62 لسنة 1996 في الفصول 258 و259 ,262 :
(الفصل 258-2: يتعين على كلّ أجنبي يريد أن يتعاطى عملا مأجورا مهما كان نوعه بالبلاد التونسية أن يكون حاملا لعقد شغل ولبطاقة إقامة تحمل عبارة “يسمح له تعاطي عمل مأجور بالبلاد التونسية“.
يبرم عقد الشغل لمدّة لا تتجاوز السنة قابلة للتجديد مرّة واحدة. غير أنّه يمكن تجديد عقد الشغل أكثر من مرّة في حالة تشغيل أجانب بمؤسّساتهم العاملة بالبلاد التونسية في نطاق إنجاز مشاريع تنموية مصادق عليها من طرف السّلط المختصّة.
ويجب تأشير هذا العقد وتجديده من طرف الوزير المكلف بالتشغيل.
تضبط بقرار من الوزير المكلّف بالتشغيل مثال هذا العقد وشروط إسناده وتجديده.
ولا يمكن انتداب أجانب عند توفّر كفاءات تونسية في الاختصاصات المعنية بالانتداب.
الفصل 259: لا يمكن لأي مؤجر أن ينتدب أو يبقي في خدمته عاملا أجنبيا غير حامل للوثائق المنصوص عليها بالفصل 258 ـ 2 من هذه المجلّة. كما لا يمكن لأي مؤجر أن ينتدب أو يبقي في خدمته عاملا أجنبيا في مهنة أو ولاية غير مذكورتين في عقد الشغل.
الفصل 262 : لا يمكن لأي مؤجر أن ينتدب عاملا أجنبيا قبل انقضاء مدّة عقد الشغل الذي يربطه بمؤجر سابق.
وبصرف النظر عن العقوبات المترتبة عن مخالفة هذا التحجير يمكن القيام بدعاوي جبر الضرر الناجم عن هذه المخالفة.
غير أنّه يمكن للعامل الأجنبي إبرام عقد جديد بعد تقديم ما يثبت أنّ عقده السّابق وقع فسخه بالتراضي أو بالتقاضي.
“