نشر هذا التقرير ضمن العدد 66 من المفكرة القانونية حول “الثورة في مواجهة السلطة وعنفها”، وهو جزء من سلسلة تقارير توثّق أساليب قمع السلطات اللبنانية لحرية التظاهر بعد اندلاع انتفاضة 17 تشرين. تظهر هذه التقارير حجم تضحيات القوى المعترضة في لبنان وتشكّل مضبطة اتّهام بحقّ السّلطة، وتحديداً المرفق القضائي-الأمني، لجهة استخدام القوّة ضدّ معارضيها وارتكاب الأجهزة الأمنية جرائم عديدة وجسيمة بقيت بمنأى عن أيّ محاسبة جدّية. في الجزء الأوّل، نتناول التوقيفات التي تعرّض لها المتظاهرين والمنتفضين خلال الفترة الممتدة بين 17 تشرين الأوّل 2019 و15 آذار 2020. في الجزء الثاني، نتناول العنف والتعذيب بحقهم خلال هذه الفترة. في الجزء الثالث، نتطرّق إلى قمع حرية التظاهر خلال فترة إعلان التعبئة العامة والإغلاق لمواجهة وباء كوفيد-19 بين 16 آذار و30 حزيران 2020. وفي الجزء الرابع، نتناول استدعاءات المنتفضين الى التحقيق خلال هذه الفترة. للإطلاع على منهجية التوثيق، إضغط هنا.
نقدّم في هذه المقالة تحليلاً للإحصائيات والشهادات حول العنف الجسدي والتعذيب الذي تعرّض له المدنيّون المشاركون في الانتفاضة منذ 17 تشرين الأوّل 2019 وحتى إعلان التعبئة العامة لمواجهة وباء كورونا في 15 آذار 2020. خلال هذه الفترة، تمكّن فريق التوثيق في “المفكرة القانونية” بالتنسيق مع “لجنة المحامين للدّفاع عن المتظاهرين” من توثيق 732 إصابة في صفوف المشاركين في الانتفاضة. يظهر هذا التوثيق مدى خطورة الجرائم التي ارتكبتها الأجهزة الأمنية وأحزاب السلطة ضدّ المتظاهرات ذكوراً وإناثاً خلال هذه الفترة. وإذ يدحض هذا التوثيق خطاب النظام الحاكم السّاعي إلى تجريم الثورة وإخفاء جرائم مُمَثليه وأعوانه، فإنّه يهدف أيضاً إلى تعرية الأساليب والنهج اللذين قد يتبعهما هذا النظام في المرحلة المقبلة. ومن المهم أن نقول هنا إنّ الجهد التوثيقي الذي يقوم عليه هذا الملف ما كان ليرتدي هذه الأهمية لولا اقتناع المنتفضات والمنتفضين بأهميّته، ومثابرتهنّ وجرأتهن غير الاعتيادية على الإدلاء بشهاداتهنّ في هذا المضمار، سواء لـ”المفكرة” أو للعديد من وسائل الإعلام. وقد توفّر لنا بنتيجة ذلك كمّ كبير من الصور والفيديوهات والمقالات والشهادات الشخصية.
في الجزء الأوّل، سنتناول ثلاثة أسئلة: من هم الأشخاص الذين تعرّضوا للاعتداء؟ ومن هي الجهة التي اعتدت عليهم؟ وما أنواع الإصابات التي نتجت عن العنف ضدّهم؟ في الجزء الثاني، سنحاول الجواب على سؤال رابع: ما هي الظروف التي تمّ الاعتداء فيها على المتظاهرين؟ فمحاولتنا هذه تهدف بشكل خاص إلى تحليل ثلاثة أنماط من العنف: (1) العنف المرتكب من الأجهزة الأمنية في الشوارع وساحات التظاهر؛ (2) العنف والتعذيب أثناء الاحتجازات والتوقيفات والتحقيقات؛ و(3) العنف الذي ارتكبه مرافقو السياسيين ومناصرو أحزاب السلطة. وإذ ترّكز هذه المقالة على العنف الجسدي الذي تعرّض له المنتفضون كونه الأكثر وضوحاً وإثباتاً، إلّا أنّ ذلك لا يخفي العنف المعنوي الذي تعرضّوا له سواء من جرّاء الخطابات الرسمية أو أقوال الأجهزة المولجة تنفيذ القانون وممارساتها.
وإذ يصل تحليلنا لوقائع العنف المرتكب من السّلطة ومناصريها إلى خلاصات تُثبت ارتكاب جنح وجنايات بحقّ المنتفضين، بموافقة من النظام الحاكم وفي ظلّ انكفاء السّلطة السياسية والقضاء والنيابات العامّة عن ملاحقة المرتكبين، سوف نُبيّن في هذا التوثيق مختلف العوائق التي حالت دون تطبيق القانون، تظهيراً لحاجات المعالجة وطرقها.
1- الجزء الأوّل
a. من هم الأشخاص الذين تمّ الاعتداء عليهم بسبب مشاركتهم في الانتفاضة؟
تمكّن فريق التوثيق في “المفكرة” بالتنسيق مع “لجنة المحامين للدفاع عن المتظاهرين” من توثيق 732 إصابة ضمن المشاركين في الانتفاضة ومن ضمنهم 75 امرأة و19 قاصراً على الأقل.
%90 من الأشخاص الذين أفادوا أنهم تعرّضوا للعنف الجسدي هم شباب أو رجال شاركوا في التظاهرات. من ضمن هؤلاء، رجال تجاوزوا الستّين وقاصرون، وعُمّال وعاطلون عن العمل، وطلاب في المدارس وفي الجامعات، وناشطون وصحافيون ومحامون وأطباء وأساتذة ومهندسون. معظم الضحايا كانوا أشخاصاً يحملون الجنسية اللبنانية، بالإضافة إلى عدد من الأجانب المقيمين في لبنان، علماً أنّ لجميع هؤلاء حقّ التظاهر والتعبير عن آرائهم والحماية من التعذيب والعنف من دون تمييز. كذلك، نجد من بين الضحايا أشخاص من “مجتمع الميم” LBGTQ+ أي الأشخاص الذين لديهم ميول جنسية أو هويات جندرية تخرج عن النمط السائد، وقد أدّوا دوراً بارزاً في التنظيم والحشد للتظاهر، مما أدّى إلى استهدافهم على خلفية هذا الدور.
بالرغم من أنّ أكثرية البلاغات التي تلقّيناها اتّصلت باعتداءات حصلت في بيروت (%73.4)، فقد وثقنا أيضاً اعتداءات عنيفة حصلت في مختلف المناطق. وقد بلغت نسبة الاعتداءات الموثّقة في مناطق عكار والشمال %11 (معظمهم في طرابلس والبداوي) كما بلغت قرابة 5% في كلّ من الجنوب (معظمهم في صور وصيدا والنبطية)، وجبل لبنان (معظمهم في جلّ الديب وعاليه وبعبدا) و%3 في كسروان وجبيل وحوالي %2 في البقاع (معظمهم في زحلة والبقاع الغربي). لا تعكس نسب الاعتداءات الموثّقة بالضرورة حقيقة توزيعها الجغرافي، حيث أنّ التوثيق يرتبط أيضاً بمدى التواصل بين فريق التوثيق والمعتدى عليهم ومدى استعداد المعتدى عليهم للتبليغ عن الاعتداء الحاصل عليهم وأخيراً بمدى القدرة على التأكّد من حقيقة الاعتداء، وكلّها عوامل يُعتقد أنّها تزيد من نسبة الاعتداءات الموثّقة في بيروت بالنسبة إلى مجموع الاعتداءات.
العنف ضد القاصرين
تعرّض 19 قاصراً على الأقل للعنف الجسدي على خلفية مشاركتهم في الانتفاضة، علماً أنّ العديد من طلاب المدارس والجامعات كانوا قد شاركوا في التظاهرات. في المقابلات التي أجريناها معهم، أفاد هؤلاء أنّهم تعرّضوا للضرب والتهديد على يد قوى الأمن الداخلي(15) ، والجيش ((1، ومخابرات الجيش (1)، وشرطة مجلس النوّاب (1)، ومن قِبل أحد المدنيين من مناصري أحزاب السلطة .(1) ومن أبرز الانتهاكات التي أقدمت عليها الأجهزة الأمنية بحق القاصرين، ما أخبرنا به قاصر (16 عاماً) ومفاده أنّ ما بين ثمانية إلى عشرة عناصر من مكافحة الشغب انهالوا عليه بالضّرب المبرح بعد التظاهرات في وسط بيروت في 14 كانون الأوّل 2019، وركلوه بوحشية على ظهره وبطنه، وضربوه بالعصي على وجهه وفمه وهو ممدّد على الأرض. استوجب هذا الاعتداء نقله إلى المستشفى حيث تبيّن وجود كسر في إصبعه، بالإضافة إلى تكسير أربعة من أسنانه وجرح في شفته استوجب 9 قطب.
وثّقنا أيضاً إفادة شاب قاصر آخر كان متواجداً خلال تظاهرة في وسط بيروت في 13 تشرين الثاني 2019. وقد جاء فيها أنّ عناصر من قوى الأمن الداخلي ألقت القبض عليه واعتدت عليه بالضرب المبرح في شارع فرعي، ثم نقلته إلى مخفر وسط بيروت (البرج سابقاً)، حيث تعرّض للضرب على وجهه وعينيه داخل المخفر. وحسب إفادته، لم يمنحه العناصر فرصة ليتواصل مع أهله وعندما أطلقوا سراحه، لم يتمّ إبلاغ أهله، وعاد إلى منزله بإصابات خطيرة في وجهه وكدمات واسعة حول عينيه، ممّا أدّى إلى تقديم محامي اتحاد حماية الأحداث إخباراً لدى المحكمة العسكرية حول تعرّضه للضرب.
بالإضافة إلى ذلك، أفادنا شاب قاصر آخر (15 سنة) أنّه تعرّض للتعذيب من قبل شرطة مجلس النواب بعدما تمّ سحبه من ساحة التظاهر أمام المجلس إلى ساحة النجمة، خلف الحواجز الحديدية التي وضعت لمنع المتظاهرين من الوصول إلى مجلس النواب. وصرّح القاصر أنّه كان محاطاً برجال بلباس مدني، وقد اطّلع أحدهم على هويّته، بمعنى أنّهم كانوا على علمٍ أنه قاصر. وبالرغم من ذلك، أقدموا على ضربه وتعنفيه وأرغموه على البقاء مستلقياً على الأرض خلال الاعتداء عليه، فتناوبوا عليه بالضرب والركل، وشتموه وسألوه: “ليه نزلت على الشارع؟ وليه عم بتسبّ وتعتدي على قوى الأمن؟” وثم سلّمته شرطة المجلس إلى عناصر قوى الأمن الداخلي والدم ينزف من رأسه، حيث تم نقله والتحقيق معه واحتجازه في “ثكنة الحلو” لمدة 24 ساعة من دون أن تتم معاينته من قبل طبيب شرعي.
العنف ضد النساء
تعرّضت 75 امرأة على الأقل من المشاركات في الانتفاضة للعنف الجسدي. يتبيّن من إفاداتهن أنّهنّ تعرّضن للضرب على يد قوى الأمن الداخلي (42)، والجيش ((11، ومخابرات الجيش (1)، وشرطة مجلس النواب (5)، ومدنيين من أنصار أحزاب السلطة (9)، وشرطة البلدية في النبطية (2)، فيما لم يتمكّن خمسة منهنّ من التعرّف على الجهة التي اعتدت عليهنّ. تضمّنت هذه الاعتداءات الضرب المبرح في ساحات التظاهر ممّا أدّى إلى إصابات خطيرة ككسر في اليد وفي الساق، وفدغ في الرأس وفقدان للوعي في الشوارع، بالإضافة إلى العنف خلال الاحتجاز وحتى اعتداءات ذات طابع جنسي. من ضمن الاعتداءات التي تمكّنا من توثيقها أيضاً خلال إلقاء القبض على النساء، أفادت ناشطة مشاركة في اعتصام في صيدا في كانون الأوّل 2019 أنّها تعرّضت للضرب بالعصي وكعب البندقية والاختناق خلال إلقاء القبض عليها من قبل عنصر من مخابرات الجيش وخلال نقلها إلى آلية الجيش. وأقدموا خلال احتجازها على تهديدها بالإخفاء، قائلين “يا حشرة…الله ما حيعرف وينك”. وشملت الاعتداءات ذات الطابع الجنسي التنمّر والتحرّش الجنسي والتهديد بالاغتصاب. على سبيل المثال، أفادت إحدى المتظاهرات في بيروت في شباط 2020 أن أحد عناصر الجيش قام بالتقرّب منها من الخلف، خلال محاصرة الجيش للمحتجيّن، وحفّ جسمه عليها. وعندما اعترضت وطلبت منه الإبتعاد، ضحك وقال “ما ح حط إيدي عليكي”. بالإضافة إلى ذلك، أفادت ناشطة كانت مشاركة في التظاهرات في كانون الثاني 2020 أنّ أحد عناصر قوى الأمن الداخلي أقدم خلال إلقاء القبض عليها على تهديدها بالاغتصاب والضرب عندما سيتمّ احتجازها. ولم تقتصر الاعتداءات التي اتّخذت طابعاً جنسياً على النساء المشاركات في الثورة بل طالت أيضاً بعض الشباب والرجال الذين تعرّضوا للضرب على أعضائهم التناسلية وإدخال الهراوات في مؤخّراتهم من فوق ملابسهم.
العنف ضد المصوّرين والصحافيين والإعلاميين
تبيّن وجود نمط واضح لاستهداف العاملين والعاملات في قطاع الإعلام والتصوير خلال توثيقهم للتظاهرات والانتهاكات المرتكبة بحق المتظاهرين. خلال هذه الفترة، رصدت منظمة “سكايز” للحريات الإعلامية 65 حالة اعتداء جسدي على هؤلاء. كما وثقنا في “المفكرة” شهادات 11 اعلامياً تعرّضوا لإصابات من جرّاء الاعتداء عليهم من قبل الأجهزة الأمنية ومدنيين من مناصري أحزاب السلطة.
تضمّنت هذه الاعتداءات التعرّض للإعلاميين بالضرب والتهديد بالضرب من أجل منعهم من التصوير. من أبرزها، اعتداء شرطة البلدية في النبطية على الصحافي هادي الأمين في 23 تشرين الأوّل 2019 من أجل وقف البث المباشر خلال اعتداء الشرطة على المعتصمين في البلدة، واعتداء مجموعة من المدنيين على الصحافيين والمصوّرين في بيروت في 29 تشرين الأوّل 2019 لمنعهم من تصوير الاعتداء على المعتصمين وتكسير خيم الاعتصام في وسط بيروت يوم استقالة حكومة سعد الحريري. كذلك، تمّ توثيق الاعتداء على عدد من المتظاهرين بسبب التقاطهم صوراً لعناصر أمنيين خلال ارتكابهم انتهاكات بحق المتظاهرين. كما عمد بعض العناصر إلى الاستيلاء على هواتف المتظاهرين من أجل إزالة التسجيلات المصوّرة التي وثقت الانتهاكات. هذا مع العلم أنّ القانون يحمي حق المواطنين في تصوير العناصر الأمنيين والعسكريين خلال ممارستهم لوظيفتهم، وبشكل خاص خلال ارتكابهم لمخالفات قانونية أو لمدوّنات السلوك كون التصوير يدخل ضمن إطار الحقّ في التوثيق وجمع الأدلّة وضمان المحاسبة والحصول على معلومات والذي يشكّل جزءاً لا يتجزّأ من حرّية التعبير.
بالإضافة إلى ذلك، تم الاعتداء على صحافيين أدّوا دوراً بارزاً في كشف فساد السلطة وبخاصّة ما أسموه حكم المصرف، وأبرزهم الصحافي الإقتصادي محمد زبيب الذي تم الاعتداء عليه في منطقة الحمرا في بيروت في 12 شباط 2020 من قبل ثلاثة مدنيين تبيّن أنهم مرتبطون برئيس مجلس إدارة مصرف الموارد مروان خير الدين. وقد خصصنا مقالة منفصلة من أجل البحث في العنف الموّجه على الإعلاميين والصحافيين.
b. من هي الجهة التي اعتدت عليهم؟
تبيّن أنّ 88% من الإصابات نتجت عن انتهاكات واعتداءات ارتكبها عناصر من القوى الأمنية والعسكرية ضد مدنيين على خلفية مشاركتهم في الثورة، وشملت قوى الأمن الداخلي (54%)، والجيش ومخابرات الجيش (26%)، وشرطة مجلس النواب (6%)، وجهات أخرى، منها شرطة البلديات في بعض المناطق (2%). بالإضافة إلى ذلك، نتج حوالي 11% من الإصابات التي وثقناها عن اعتداءات من قبل مدنيين من مناصري أحزاب السلطة أو مرافقين للسياسيين، وقد شملت الأحزاب المعنيّة حركة أمل، وحزب الله، والحزب التقدمي الاشتراكي، والتيار الوطني الحر، وتيار المستقبل والقوات اللبنانية.
قوى الأمن الداخلي: 54% من الإصابات خلال “مكافحة الشغب”
سجّلنا 396 إصابة ناتجة عن تعامل قوى الأمن الداخلي بعنف مع المتظاهرين في بيروت وعكار والشمال والجنوب. الأغلبية الساحقة من هذه الإصابات (356 أي حوالي نصف العدد الإجمالي للإصابات) حصلت في إطار التظاهرات التي حشدت آلاف الأشخاص في بيروت (مدرجة في جدول “أبرز التظاهرات في وسط بيروت” أدناه) خلال الأشهر الخمسة الأولى من الانتفاضة، والتي كانت جوهرية في إثبات قوّة الناس ومدى غضبهم على السلطة.
خلال هذه التظاهرات في وسط بيروت، انتهجت قوى مكافحة الشغب نموذجاً عنيفاً في التعامل مع المتظاهرين ذكوراً وإناثاً، قد يرقى إلى التعذيب وفقاً للمعايير الدولية، بدءاً من الإفراط في استخدام قنابل الغاز المسيل للدموع، وسوء استخدام الرّصاص المطّاطي والقنابل الصوتية، وصولاً إلى الهجمات العشوائية على المتظاهرين والتي شارك فيها الجيش، والتوقيفات الجماعية. يمنع قانون الأجهزة الأمنية، وبالأخص قوى الأمن الداخلي، من التدخّل التعسفيّ في ممارسة الناس لحقوقهم المدنية )المادة 224 من القانون رقم 17 تاريخ 6/9/1990). وهذا الأمر ينطبق على الحقوق الأساسية في الحياة والدفاع عن النّفس والحماية من التعذيب. أبعد من ذلك، نرى أنّ حماية النّظام العامّ في حالتنا الرّاهنة لا يتمثّل في حماية النّظام القائم، خاصة عندما يتحوّل إلى نظام قمعي يجرّد الشعب من حقوقه الطبيعية. حينها، تتمثل حماية النظام العام بحماية الحق الطبيعي للشعب في محاسبة الحكومة والمسؤولين وردع قيام نظام قمعي.
غالباً ما تفتتح قوى مكافحة الشغب عملية فضّ التظاهرة وتفريق المتظاهرين بإطلاق كمّيات هائلة من قنابل الغاز المسيل للدموع، ما يؤدّي إلى اختناق المتظاهرين أو فقدانهم الوعي. بعد حلقة “المسيل”، تلجأ قوى مكافحة الشغب إلى تكتيك الهجوم العشوائي على المتظاهرين، معتمدةً على الضّرب بالعصي والرّكل والتهديد وحتى سحل المتظاهرين على الأرض، كما واستخدام الرّصاص المطّاطي بهدف إخلاء ساحات التظاهر من المعتصمين أو معاقبتهم على بقائهم في الشارع. عقب أوّل محاولة لفضّ التظاهرة استعانةً بالغاز والضرب العنيف، غالباً ما تستمرّ المواجهة بين المعتصمين والقوى الأمنية من خلال جولات من “الكر والفر”، تتأرجح بين المزيد من الغاز المسيل للدموع والهجمات على من تبقّى من الناس المصرّين على عدم فضّ التظاهرة. ومن هنا تبدأ عادة عمليات التوقيف الجماعية، أي إلقاء القبض على مجموعة متظاهرين بشكل تعسّفي والتي تتضمّن تعنيفهم خلال إلقاء القبض عليهم.
حوالي 35% من المصابين الذين تعرّضوا للاعتداء من قبل قوى الأمن الداخلي أفادوا أنّهم تعرّضوا للعنف خلال إلقاء القبض عليهم. وقد أفاد 5 منهم أنّهم تعرّضوا للاعتداء في مكان احتجازهم، لا سيما في مخفر وسط بيروت وفي “ثكنة الحلو”. وقد برزت قضية تعرّض الناشط سليم الغضبان للضّرب من قبل عناصر من قوى الأمن الداخلي خلال إلقاء القبض عليه أمام جمعية المصارف في 1 تشرين الثاني 2019 حيث أقرّت المديرية بـ”ردّة فعل غير مبرّرة من قبل عدد من العناصر الذين قاموا بضربه واستعمال القوّة المفرطة تجاهه في مخالفة صريحة لتعليمات قوى الأمن الداخلي (…) وإن هذا التصرّف موضوع تحقيق إضافي مسلكي وستتم المحاسبة وفقاً للأصول”. كما أعلنت المديرية عن فتح تحقيق على أثر نشر فيديو يوثّق الاعتداء على المتظاهرين لدى وصولهم إلى داخل حرم “ثكنة الحلو” في ليلة 18 كانون الثاني 2020. إلّا أنّه لم يتمّ الإعلان عن نتائج هذه التحقيقات لغاية اليوم.
شرطة مجلس النواب: 6% من الإصابات وتعذيب عنيف
تمكنّا من توثيق الممارسات العنيفة من قبل شرطة مجلس النواب بحق 47 متظاهراً خلال هذه التظاهرات. لا يوجد قوانين واضحة ترعى عمل هذه الشرطة، إلّا أنّها أعلنت أنّ عملها محصور في حراسة مبنى مجلس النوّاب، وتالياً لا يدخل ضمن صلاحيّاتها مهام حفظ الأمن خلال التظاهرات. لكن هذه الشرطة تخطّت صلاحياتها بشكل واسع حيث خرج عناصرها من حرم المجلس وسحبوا عدداً من المتظاهرين إلى خلف السياج المحيط بساحة النجمة، كما اعتدوا عليهم بشكل عنيف وأجروا معهم تحقيقات غير رسمية.
في هذا الإطار، وثقنا إفادة 20 متظاهراً على الأقل في أكثر من تظاهرة حصلت أمام مجلس النوّاب لا سيما في 14 و15 كانون الاوّل 2019 و11 شباط 2020. وفقاً لإفادات هؤلاء الضحايا، قام عناصر من شرطة المجلس بسحب هؤلاء المتظاهرين من ساحات التظاهر أو من محيطها إلى داخل حرم مجلس النوّاب وبتكبيل أياديهم وبالتناوب ضمن مجموعات على الاعتداء عليهم بالضّرب العنيف مستخدمين العصي والسكاكين…. ورغم أنهم ليسوا ضابطة عدلية، أجرى أولئك العناصر تحقيقات غير رسمية مع المتظاهرين حول دوافعهم للتظاهر ومعارضة رئيس مجلس النواب نبيه بري وردّدوا أمام المعتدى عليهم: “نبيه بري تاج راسكم”. كما هددوهم بالاعتداء عليهم مجدداً في حال أقدموا على التظاهر مجدداً أو انتقاد رئيس مجلس النواب. وقد تدخّل عناصر من سرّية الجيش الموجودة في حرم المجلس لإنقاذ بعض المعتدى عليهم والإفراج عنهم. وأفاد أحد المتظاهرين أنّ الجندي الذي تدخّل لإنقاذه أصيب بيده أثناء ذلك وأنّه التقى به في غرفة الطوارئ في المستشفى، حيث كان يتلقّى العلاج ليده المكسورة بينما المتظاهر تلقّى العلاج لضلعين مكسورين. أمّا الآخرون، فقد نقلتهم قوى الأمن الداخلي في آليّاتها من داخل حرم المجلس إلى “ثكنة الحلو” حيث فتحت معهم محاضر تحقيق رسمية وهم لا يزالون تحت وطأة الاعتداء. واضطرّ معظم الذين تعرّضوا للتعذيب على يد هذه الشرطة لتلقي العلاج في المستشفيات بسبب الأضرار التي لحقت بهم، حيث جاء في تقارير الطوارئ أنّهم يعانون من صدمات متعددة (Polytrauma). وقد تضمّنت إصاباتهم كسوراً في الأضلع والوجنات والأسنان وفدغاً في الرأس وأضراراً في الكلى وكدمات متعدّدة على الوجه والجسم، وتراوحت آماد تعطيلهم عن العمل بين أربعة أيام و14 يوماً.
أكثر من ذلك، لم تكتفِ عناصر شرطة مجلس النوّاب باستخدام العنف بحق المتظاهرين أمام مجلس النوّاب، بل اعتدت أيضاً على موكب سيارات سلمي في 10 كانون الأوّل 2019 في شارع فردان في بيروت الذي يقع على مقربة من مقرّ رئيس مجلس النواب في عين التينة. يومها شارك عشرات المتظاهرين في مسيرة احتجاجية وسلمية في سياراتهم، ولم يقتربوا من مقرّ الرئيس ولم يشكّلوا أيّ تهديد للمقرّ أو لأيّ من العناصر. إلّا أنّ عناصر فرع الشرطة المولج بحماية مقرّ الرئاسة اعتدوا عليهم علناً فيما شكّل جرائم ضرب وإيذاء بشكل واضح بالإضافة إلى التعسّف في استخدام القوة. ومن دون أي تفسير أو إنذار، حاصر العناصر سيارات المحتجّين، وعمدوا إلى تكسير الزجاج الأمامي والنوافذ في سياراتهم وإجبارهم على فتح أبواب سيارتهم لمنعهم من التصوير وتهديدهم إذا لم يتوقفوا عن التصوير. أفادت إحدى المتظاهرات، وهي صحافية، أنّها تعرّضت للضرب على وجهها، كما أفاد عددٌ من المصابين أنّهم تعرّضوا للضرب المبرح على أجسادهم من قبل عناصر في بدلات عسكرية بالإضافة إلى أشخاص بلباس مدني. وأفاد آخرون أنّ عناصر الشرطة قد لاحقوهم في الشوارع الفرعية خلال محاولتهم مغادرة مكان الاعتداء عليهم. أدّى هذا الاعتداء إلى تحطيم العديد من السيارات وإلى إصابة 22 شخصاً على الأقل. ورغم تقديم الضحايا شكوى جزائية فورية بحق المعتدين، امتنعت السلطات القضائية عن إجراء تحقيقات جدّية في هذه الجرائم لغاية اليوم.
الجيش ومخابرات الجيش: 27% من الإصابات بين فضّ التظاهرات والتعذيب في الثكنات
في إطار التظاهرات والاحتجاجات التي حصلت في مختلف المناطق اللبنانية والتي رسّخت الطابع اللامركزي للانتفاضة، استلم الجيش مهام حفظ الأمن وعمليات “مكافحة الشغب” في تلك المناطق، وبخاصّة طرابلس والبدّاوي، بالإضافة إلى جلّ الديب والذوق وبعبدا والبقاع وصيدا والنبطية وصور وكفررّمان. وحوالي 20% من الإصابات التي وثقناها تسبب بها عناصر من الجيش في معرض سعيهم إلى فضّ الاعتصامات السلمية على الطرقات العامّة بأيّ طريقة ممكنة. كما قام الجيش بمؤازرة قوى الأمن الداخلي في مهام حفظ الأمن خلال التظاهرات في بيروت، وقد سجّلنا 29 إصابة ناتجة عن الضرب المبرح من قبل الجيش في هذا الإطار.
تجدر الإشارة إلى أنّه ليس للجيش أيّة صلاحية بحفظ الأمن الداخلي إلّا في حال تكليفه بذلك صراحة من قبل مجلس الوزراء وهو ما لم يحصل، فهو مكلّف “أساساً بالأمن الخارجيّ، أيّ الدفاع عن أرض الدولة” والحدود. وهذا ما نقرأه في دراسة لمؤسسة الجيش حول النصوص القانونية للعمل الأمني: “يحرص على ألّا يقحم الجيش في الأعمال الأمنية إلّا عند الضرورة القصوى، لأنّ تدخّل الجيش يعني أنّ الوضع الأمني في الدولة وصل إلى أخطر حالاته”. من هذا المنطلق، يأتي استخدام القوّة من قبل الجيش لفضّ التظاهرات مخالفاً للقانون، مهما كانت طبيعة هذا الاستخدام، كونه يخرج عن صلاحياته.
واجه المتظاهرون في مدينة طرابلس ومنطقتي البدّاوي والمينا سلسلة من ردود الأفعال العنيفة على اعتصاماتهم من قبل الجيش. وأعلن جهاز الطوارئ والإغاثة في الجمعية الطبّية الإسلامية عن تعرّض 506 أشخاص “لحوادث متفرّقة” ونقل 63 منهم إلى المستشفيات خلال الأيام الثمانية الأولى من التظاهرات في طرابلس. ورصدنا الاستخدام الأوّل للرّصاص الحيّ من قبل الجيش في 26 تشرين الأوّل 2019 خلال فضّ تظاهرة في منطقة البدّاوي، مما أدّى إلى جرح 5 متظاهرين استوجب نقلهم إلى المستشفى لتلقّي العلاج. كما وفي 9 كانون الثاني 2020، استخدم الجيش مجدّداً القوّة بشكل غير متناسب في هذه المنطقة، وأطلق الرصاص الحيّ مرة أخرى على المتظاهرين الذين تجمّعوا على طريق عام في البدّاوي، مما أدّى الى إصابة 30 مدنياً على الأقلّ. كما شهدت طرابلس مواجهات عدّة بين الجيش والمتظاهرين، أبرزها حصلت في 26 تشرين الثاني، وأدّت إلى إصابة 26 شخصاً على الأقلّ ووفاة الشاب أحمد توفيق بعد ثلاثة أشهر متأثّراً بجراحه. وفي 28 نيسان 2020 (خلال فترة التّعبئة العامّة)، وبعدما أقدم الجيش على استخدام الرصاص الحي والمطاطي لفض الاحتجاجات، أصيب فواز فؤاد السمّان في فخذه، ما أدى إلى وفاته متأثراً بجراحه.
خلال التظاهرات التي حصلت في جل الديب والذوق، لا سيّما بين تشرين الثاني وكانون الأول 2019، وثّقنا إصابة 40 متظاهراً على الأقلّ، أفادوا بأنّهم تعرّضوا للضّرب من قبل الجيش خلال محاولته فضّ التظاهرات وفتح الطريق وخلال إلقاء القبض عليهم. على سبيل المثال، أفاد أحد المتظاهرين في جلّ الديب بأنّه تعرّض لهجوم وحشي على يد 8 عناصر من الجيش اعتدوا عليه بالعصي وكعب البندقية. وأفاد الشاب أيضاً أنّه تعرّض للشّتم والعبارات النابية، فسمع أحد العناصر يقول عنه “أخو الش*** بعدو عم يتنفّس..”، قبل أن يفقد الوعي إثر الضرب. بعد إسعافه ودخوله إلى المستشفى، تبيّن أنّ الضّرب المبرح على ظهره أدّى إلى إصابة في الكلى، ما استوجب تعطيله عن العمل لمدة 10 أيام.
في أوائل أيام الانتفاضة، شهد المتظاهرون في صيدا وصور والنبطية اعتداءات عنيفة على تجمّعاتهم السلميّة. أقدم الجيش على تعنيف المتظاهرين لإرغامهم على فتح الطرقات في صيدا مرات عدّة بين30 تشرين الأول و16 كانون الثاني، ما أدّى إلى إصابة 6 أشخاص على الأقلّ. كما تعرّض الجيش للمتظاهرين والمتظاهرات في النبطية خلال احتجاجاتهم المستمرّة. على سبيل المثال، أقدم الجيش على فضّ تظاهرة سلمية في النبطية في 18 كانون الثاني 2020، ما أدّى إلى إصابة ثلاثة أشخاص على الأقلّ وكسر أنف إحدى المتظاهرات. وأخيراً، أفاد متظاهر من صور، أنّه خلال مشاركته في تظاهرة سلمية على طريق العباسية، أقدم عنصر من الجيش وعنصر من مخابرات الجيش على الاعتداء عليه، أولاً بالضّرب على بطنه، ومن ثم بالعصي الحديدية. كما أفاد بأنّ أحد العناصر عمد إلى تسكير باب السيارة على ظهره ودفعه على الأرض، ما أدّى إلى دخوله المستشفى.
أما بالنسبة للعنف داخل أماكن الاحتجاز، فقد أفاد 22 شخصاً على الأقلّ بأنّ عناصر من الجيش ومخابرات الجيش اعتدوا عليهم بالضرب المبرح خلال نقلهم واحتجازهم والتحقيق معهم داخل مراكز الاحتجاز التابعة لها. بالإضافة إلى ذلك، قامت المخابرات بتوقيف بعض المتظاهرين بأسلوب شبيه بالخطف وهددتهم بالإخفاء والقتل، ولم تسمح لهم بالاتصال بذويهم أو بمقابلة محامٍ طيلة فترة احتجازها لهم. وقد أدّى الانعدام التام لأيّ نوع من المحاسبة لهذه الجرائم المرتكبة بحق المتظاهرين، لا بل الحصانة والإفلات من العقاب، إلى تجريد قانونَي العقوبات وأصول المحاكمات الجزائية من أيّة قوّة قانونية فعّالة، مما يؤكّد الحاجة الملحّة لانتفاضة تعيد الروح إلى دولة القانون.
عنف المدنيين من مناصري أحزاب السلطة: 11% من الإصابات “دفاعاً عن كرامة الزعيم”
تعرّض المتظاهرون في شتّى المناطق اللبنانية إلى اعتداءات على يد مناصري أحزاب السلطة ومرافقين لسياسيين على خلفيّة مشاركتهم في التظاهرات وانتقادهم السلطة ورموزها على مواقع التواصل الاجتماعي. وقد تمكنّا من توثيق 80 إصابة، شكّلت حوالي 11% من مجموع الإصابات الموثّقة. وتضمّنت هذه الاعتداءات إطلاق الرّصاص على المتظاهرين على يد مرافقين لسياسيين وهجمات جماعية على المتظاهرين في ساحات الاعتصام كما حصل أمام مجلس الجنوب في بئر حسن، بالإضافة إلى اعتداءات تمّ فيها الاستفراد ببعض الأشخاص والاعتداء عليهم خلال التظاهرات أو خارجها. كما تلقّى الخط الساخن “للجنة الدفاع” أكثر من 15 بلاغاً خلال الشهرين الأوّلين من الانتفاضة عن تعرّض ناشطين لتهديدات شخصية أو عبر مواقع التواصل الاجتماعي بسبب مواقفهم السياسية.
تراوحت الإصابات التي وثّقناها ما بين إصابات “معتدلة” في الحدّ الأدنى، وإصابات بليغة وشديدة وإصابات أدّت إلى الوفاة في الحد الأقصى. ووثّقنا 39 إصابة تُعتبر “خطيرة” كونها أدّت إلى دخول المصابين إلى المستشفى أو إلى خلل أو عطل جسدي أو عقلي دائم و 70إصابة “بليغة” كونها أدّت إلى كسر، أو خلل أو عطل جسدي أو عقلي مؤقّت. ومن ضمن هذه الإصابات خمسة أشخاص فقدوا النظر في إحدى العينين بفعل رصاص مطاطي أو عبوة غاز مسيّل للدموع أطلقتها قوى مكافحة الشغب. وثّقنا أيضاً حوالي 239 إصابة تُعتبر “شديدة” كونها أدّت إلى جروح عميقة أو رضوض وكدمات بارزة في الرّأس أو الوجه أو تمّ إسعاف المتظاهرين في أقسام الطوارئ في المستشفيات. وأخيراً، وثّقنا 385 إصابة تعتبر “معتدلة” كونها عبارة عن كدمات ورضوض طفيفة أو لم نتمكّن من التأكّد من مدى خطورتها بسبب عدم حصول الضحايا على تقارير طبية أو صور موثقة لإصاباتهم.
وحرص بعض المصابين على الحصول على تقرير من طبيب شرعيّ ليوثّقوا الجروح والرضوض والإصابات التي تعرّضوا لها. ومن مراجعة 75 تقريراً تمكّنّا من الاطّلاع عليها، تبيّن أنّ آماد التعطيل عن العمل تراوحت بين يوم واحد وصولاً إلى 90 يوماً وفقاً للتقديرات الأوّلية للأطباء الشرعيين، حيث نتج عن بعض هذه الإصابات مضاعفات على صحّة المتظاهرين استوجبت إخضاعهم للعلاج لفترات أطول. من أبرز الإصابات التي استوجبت تعطيلاً عن العمل تجاوز عشرة أيام، شاب لم يبلغ العشرين بعد، أصيب مرّتين برصاص مطاطي في رجله اليسرى خلال مشاركته في تظاهرة في وسط بيروت بتاريخ 18 كانون الثاني 2020. وبعدما وقع أرضاً بسبب هذه الإصابة، أصيب مجدداً نتيجة إلقاء عناصر مكافحة الشغب قنبلة صوتية باتجاهه، فانفجرت في يده وهو يحاول إبعادها عن وجهه، ما أدّى إلى بتر طرف الإبهام وإجراء عملية جراحية طارئة في راحة اليد المصابة وعجز جزئي دائم في يده المصابة (90 يوم تعطيل عن العمل). وبعدما تعرّض متظاهر عمره 42 سنة للضرب المبرح من قبل شرطة مجلس النواب، أصيب بكسر في وجنته اليمنى بالإضافة إلى كسر في ضلعه وكدمات متعدّدة على عينيه وعلى كافة جسمه من ظهره حتى ركبته (14 يوم تعطيل عن العمل).
بالإضافة إلى الإصابات الموثقة في التقارير الطبية، أفاد عدد من المصابين أنّهم تعرّضوا لإصابات لم تُسجّل في التقارير الطبية، كإصابات في أعضائهم التناسلية ومناطق حسّاسة ناتجة عن ضرب مقصود، أو ناتجة عن إدخال العصي في مؤخّراتهم من فوق ملابسهم.
لقيَ ستّة رجال حتفهم في ظروف مرتبطة بالتظاهرات وأعمال الاحتجاج. وقد اعتبرت مجموعات 17 تشرين أنّ هؤلاء الستّة هم شهداء للثورة. وفقاً للمعلومات الأوّلية المتوفّرة حول ظروف وفاتهم، أدّى استخدام الجيش للعنف المفرط والرصاص لفضّ التجمّعات في طرابلس إلى مقتل شخصين خلال التظاهرات (أحمد توفيق وفؤاد فوّاز السمّان)، في حين قتل شخصان خلال تجمّعات سلمية على الطرقات العامة على طريق المطار وفي خلدة، الأوّل (حسين العطار) برصاص أطلق من شخص مدني والثاني (علاء أبو فخر) برصاص أطلق من عسكري خلال مروره في الاعتصام. كما توفي شخصان من الجنسية السورية اختناقاً بدخان حريق اندلع قرب أحد المباني وسط بيروت في أوّل أيام الانتفاضة (إبراهيم يونس وإبراهيم حسين).
2- الجزء الثاني
d. ما هي ظروف الاعتداءات وأساليب العنف المعتمدة؟
ارتفاع أعداد الإصابات في إثر العنف والتعذيب يشير إلى أنّ الأجهزة اتبعت، عمداً، وبشكل مخالف تماماً للقانون، تكتيك استخدام القوّة المفرطة وإلحاق الأذى بالمتظاهرين لفضّ التظاهرات، وفي بعض الحالات، لمعاقبتهم وردعهم عن ممارسة حقوقهم في معارضة السلطة الحاكمة. فالإصابات التي شاهدناها ووثقناها لم تكن حالات استثنائية بل شكّلت نهجاً واضحاً باستخدام العنف المقصود ضد المتظاهرين. كما يتبيّن أنّ العديد منها لم تحصل بسبب عدم انضباط عنصر فردي، بل بسبب ثقافة البطش والتعنيف التي بدأت تتوسّع في المؤسّسات الأمنية والعسكرية في غياب أيّ محاسبة جدّية وعلنيّة. بالإضافة إلى ذلك، تؤكّد كثرة الإصابات التي نتجت عن اعتداءات المدنيين المناصرين لأحزاب السلطة لجوء هذه الأحزاب إلى العنف وإلى جميع الوسائل المتوفّرة لديها من أجل ترهيب معارضيها ومنتقديها.
لا شكّ أنّ الاعتداءات التي وثقناها تشكّل جميعها أفعالاً جرمية يعاقب عليها القانون مهما كانت صفة المعتدي، سواء كان موظفاً رسمياً أو مدنياً. لكن القوى الأمنية والعسكرية تمتلك الحق في استخدام القوّة وفقاً لأصول وقيود معيّنة، وأهمها وجوب التقيّد بمبدأي الضرورة والتناسب في استخدام القوة. وقد ادّعت السلطة ووزارة الداخلية وإدارات الأجهزة الأمنية أنّ القوّة القاهرة استخدمت فقط للدفاع عن الممتلكات العامة أو النظام العام و”السلم الأهلي”. وبدلاً من اعتماد المحاسبة الشفّافة لأعمال العنف بحق المتظاهرين، نشرت الأجهزة الأمنية على وسائل التواصل الاجتماعي فيديوهات ركّزت على أعمال التخريب، وصنّفت المتظاهرين بأنهم “مشاغبون”. كما أعلنت إدانتها للتعرّض لقوى الأمن والجيش، وأرفقت تصريحاتها بصور لعناصر مصابين، متجاهلة تماماً أعداد الإصابات بين المتظاهرين والمتظاهرات. وقد أوحت مقاربتها بأنّ عناصر قوى الأمن والجيش (المسلحين والمدرّبين على استخدام السلاح) هم من يتعرّض للاعتداء من الناس. وعليه، وفيما كنّا نشاهد عناصر من قوى الأمن والجيش ينهالون على المتظاهرين بالضرب والإيذاء، في كل أنحاء البلد، أصدر كلّ من قائد الجيش ومدراء قوى الأمن الداخلي والأمن العام وأمن الدولة بياناً، دعوا فيه الجميع إلى “عدم القيام بكلّ ما من شأنه التعرّض للاستقرار والسلم الأهلي والعيش المشترك” ووصفوا فيه التظاهرات بـ”التطوّرات الأمنية التي تشهدها الساحة اللبنانية”. وردّاً على اتهام الأجهزة الأمنية باستخدام القوة المفرطة عند التعامل مع المتظاهرين والمتجمّعين سلمياً على الطرقات العامّة، قرر المجلس الأعلى للدفاع “تكثيف الجهود التنسيقية بين مختلف الأجهزة الأمنية والعسكرية… وعدم التهاون مع أي محاولة للنيل من هيبة الدولة”.
وعليه، سنعمد هنا إلى تعرية خطاب السلطة من خلال توضيح أساليب العنف المستخدمة وفقاً لشهادات الضحايا والشهود والتسجيلات التي اطّلعنا عليها تمهيداً لإبراز أنماط العنف المختلفة التي استُخدمت بحقّ المشاركين في الانتفاضة ومدى تجاوزها لحق القوى الأمنية والعسكرية في استخدام القوّة بوجه المدنيين. وقد ميّزنا ثلاث فئات من أساليب العنف لكي نتمكّن من تحليلها كلّ على حدة.
1. اعتداءات الأجهزة الأمنية على المتظاهرين في ساحات التظاهر
تعود 81% من الإصابات التي تمكنّا من توثيقها إلى أنماط من العنف ناتجة عن إفراط الأجهزة الأمنية (الأمن الداخلي والجيش) في استخدام القوّة لفضّ التظاهرات بشكل غير متناسب وعشوائي، واتّباعها لتكتيكات لمكافحة الشغب تخالف الأصول ومدوّنات السلوك وتهدّد الصحة والحياة، بالإضافة إلى أنماط التعامل بوحشية مع المتظاهرين والمتظاهرات. فقد أفرط كلّ من جهاز الأمن الداخلي والجيش في استخدام القوّة والعنف والأسلحة والأعتدة غير الفتّاكة بشكل عشوائي ومتهوّر لإكراه المتظاهرين على فضّ التظاهرات وترك الشارع تحت غطاء “مكافحة الشغب”. خلال المقابلات التي أجريناها مع متظاهرين تعرّضوا للضّرب المبرح من قبل الأجهزة الأمنيّة بسبب رفضهم لفضّ التجمّعات الاحتجاجية، ومن خلال صور آثار الضرب على أجسادهم وتقارير الأطباء الشرعيين، تثبتنا من أنّ العنف ضدّهم تخطّى إطار مهام “مكافحة الشغب” من قبل الضابطة الإدارية، وكان غير متناسب كلّياً مع طابع الاحتجاجات ووصل أحياناً إلى مستوى التعنيف الوحشي بقصد إلحاق الأذى بالمتظاهرين وإهانتهم.
خلال أبرز التظاهرات في بيروت، وصل مجموع الإصابات التي تمّ إسعافها على الأرض أو نقلها إلى مستشفيات من قبل الصليب الأحمر اللبناني والدفاع المدني إلى 1408 إصابات، علماً أنّنا تمكّنا من توثيق 32% منها (449). ولكن يجدر التذكير بأن هذه الإحصائيات لم تفصل بين المدنيين وعناصر قوى الأمن الداخلي وتالياً لا تعكس بوضوح عدد الإصابات ضمن صفوف المتظاهرين الناتجة عن أعمال القوى الأمنية.
تصاعدت المواجهات بين المتظاهرين وعناصر مكافحة الشغب والجيش في بعض التظاهرات في بيروت وفي المدن الأخرى وتضمّنت أشكالاً مختلفة من الاحتجاج. فالغرض الأساسي من التظاهرات كان وما زال استيفاء حقوق الناس من “أوليغارشية سطت على مؤسّسات الدولة برمّتها… مستغلّة إياها للتعرّض لهذا الشعب وقمعه وإفقاره، حرصاً على مصالحها الخاصة”. وقد اعتبرنا أنّ تلك الوجوه المتعدّدة للاحتجاجات جاءت في إطار ممارسة الناس لحقهم في الدفاع عن النّفس. فبعد تقويض العقد الاجتماعي المبني على العدالة الاجتماعية وحماية سلطة الشعب في وجه الاستبداد، “يصبح حق المقاومة والعصيان أداة ضرورية لتعديل قاعدة المعادلات بين الشعب والطاغية، بهدف استعادة النظام العام”. في هذا الإطار، شارك المتظاهرون في احتجاجات سلمية، واحتجاجات تخلّلتها أعمال تخريب مختلفة اقتصرت على أضرار مادية (مثل الغرافيتي أو الوقوف أمام سيارات النواب أو تكسير ممتلكات عامّة وخاصّة وصولاً إلى إحراق واجهات ومكاتب المصارف). وأحياناً، وصلت أساليب الاحتجاج إلى إلقاء الحجارة أو المفرقعات أو المولوتوف باتّجاه عناصر الأجهزة الأمنية التي نتجت عنها بعض الإصابات البشرية. إلّا أنّ أنماط العنف والتعذيب الممارسة من قبل عناصر قوى الأمن والجيش التي تمكنّا من توثيقها جاءت في العديد من الحالات غير متناسبة مع أعمال الشغب والتخريب كونها لم تأتِ في إطار دفاع العناصر عن أنفسهم، بل جاءت في إطار الاعتداء الممنهج بغرض معاقبة المتظاهرين وفضّ التظاهرات، وبالتالي، كانت غير ضرورية أو مبرّرة وغير مشروعة. في هذه الحالات، لم يعد دور القوى الأمنية والعسكرية محصوراً بحفظ الأمن وحماية حياة الناس، بل توّجه بشكل أساسي إلى الدفاع عن أركان السلطة ومصالحهم الخاصة، من المصارف والمباني الفارغة والأملاك البحرية المنهوبة وصولاً إلى منع المواطنين من الوصول إلى ساحة مجلس النواب.
استخدام الرصاص والغاز المسيّل للدموع خلافاً للمبادئ القانونية
تصوير ماهر الخشن
وثقنا 35 إصابة على الأقلّ ناتجة عن استخدام الرصاص الحي والمطاطي خلال التظاهرات في بيروت والشمال. وقد أدت بعض هذه الإصابات إلى وفاة الشابين أحمد توفيق وفواز السمّان في طرابلس. وبالرغم من استخدام الأجهزة للرصاص المطاطي بشكل أساسي خلال التظاهرات، من المهمّ الإشارة إلى أنّ الرّصاص المطّاطي قد يكون قاتلاً. فقد أظهرت التسجيلات أنّ عناصر مكافحة الشغب أطلقت الرّصاص المطّاطي على المتظاهرين من مسافات قريبة وغير آمنة، مما أدّى إلى إصابات بليغة وخطيرة، أبرزها إصابات في الوجه أدّت إلى فقدان النظر في إحدى العينين (3 أشخاص)، وإصابات في الرأس والأذن والقدم، بالإضافة إلى إصابات في الأصابع والأعضاء التناسلية. وأفادت متظاهرة أنّها أصيبت في أذنها برصاص مطاطي. ووثقنا أيضاً إصابات بالمطاطي في الأصابع، منها ما استوجب 60 يوم تعطيل عن العمل وعمليات جراحية وأدّى إلى ضرر دائم. أفاد أيضاً شخصان على الأقل، بأنّهما تعرّضا لأكثر من إصابة بالرّصاص المطّاطي في اللحظة ذاتها، ما يشير إلى أنّ مكافحة الشغب أطلقت الرّصاص المطّاطي بكثافة. وفقاً لقواعد الأمم المتحدة الأساسية المتعلّقة باستخدام القوّة والأسلحة الناريّة من قبل الموظّفين المكلّفين بإنفاذ القانون، يجب على أيّ موظف أو عنصر في جهاز أمني تقليل الضرر والإصابة إلى أدنى حدّ واحترام حياة الإنسان وصونها (المادة 5) . فاللجوء إلى استخدام الرّصاص المطّاطي للسيطرة على مجموعة متظاهرين يجب أن يكون استثنائياً وأن يلتزم بكلّ الإجراءات اللازمة لحماية المتظاهرين، كتأمين مسافة آمنة وعدم إطلاقه فوق السيقان، وهو ما خالفته الأجهزة خلال أكثر من تظاهرة.
بالإضافة إلى ما تقدّم، أساءت القوى الأمنية استخدام قنابل الغاز المسيّل للدموع، مما أدّى إلى حالات اختناق لعشرات المتظاهرين بسبب ضيق التنفّس أو غيابهم عن الوعي وشكّل تهديداً مباشراً لصحّتهم وحياتهم. فقد أفاد بعض هؤلاء أنّهم شاهدوا عناصر من مكافحة الشغب يطلقون القنابل على امتداد مسار مسطّح مباشر موجّه نحو المتظاهرين، وهو ما يتعارض مع حقوق الإنسان في الحماية من التعذيب والعنف والتعرّض للسلامة الجسدية وفقاً للمحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان. وقد أدّت هذه الأفعال إلى فقدان شخصين إحدى عينيهما. أفاد أحدهما أنّه بعد إصابته بالعبوة على رأسه مباشرة، انفجرت وأدّت إلى كسر في محجر عينيه وأنفه، فاضطر على أثرها للبقاء في المستشفى لمدّة ستّة أسابيع خضع خلالها لأربع عمليات جراحية. وأفاد متظاهر ثالث أنّ إصابته بالعبوة على رأسه أدّت إلى فقدانه الوعي واضطّر للخضوع للعلاج في المستشفى لمدة أربعة أسابيع.
العنف العشوائي في ساحات التظاهر
تصوير ماهر الخشن
أفاد المتظاهرون أنّه لدى هجوم عناصر مكافحة الشغب والجيش عليهم لفضّ التظاهرات التي كانوا يشاركون فيها في بيروت، استشعر العديد منهم خطراً داهماً بفعل إقدام العناصر على استخدام العنف بشكل عشوائي. تعرّض عشرات المتظاهرين إلى ضربات بالعصي على رؤوسهم خلال عمليات “فض التظاهرات”، منهم من غاب عن الوعي ومنهم من أصيب بفدغ في الرأس. وفي إحدى الحالات، تمّ إدخال متظاهرة إلى المستشفى إثر إصابتها في رأسها وفقدان ذاكرتها مؤقّتاً بسبب ارتجاج في الدماغ.
أفاد عددٌ من المصابين أنّ “هجوم” عناصر مكافحة الشغب عليهم حوّل التظاهرة إلى مواجهة مرعبة بين الناس والقوى الأمنيّة، مما يشير إلى تعسّف الأجهزة الأمنية في استخدام القوّة خلال فضّ التظاهرات. وقال أحد المصابين: “لم أفهم أبداً لماذا انهال عليّ أكثر من 10 عناصر بالعصيّ والضرب بهذا الشّكل الوحشي. ضُربت على وجهي ورأسي وظهري وأنا على الأرض، رجوتهم أن يتوقفوا… لم أفعل شيئاً سوى المطالبة بحقي وحتى بحقهم، وهم تعاملوا معي كأني العدوّ”. تمّ نقل هذا المتظاهر إلى المستشفى مصاباً بكسر في أحد أصابعه، وبرضّات وكدمات على وجهه وعيونه وارتجاج في العمود الفقري، ما استوجب استخدامه لدعامة الرقبة و21 يوم تعطيل عن العمل وفقاً لتقرير الطبيب الشرعي. بالإضافة إلى ذلك، أفاد عدد من المصابين أنه خلال تعرّضهم للضرب في الشارع من قبل مكافحة الشغب، قيل لهم: “قلتلك طلاع من الشارع ليه بعدك واقف هون؟”. وأفاد أيضاً أحد المتظاهرين أنّه بعدما امتثل لأوامر مجموعة من الجيش لمغادرة التظاهرة، قام أحد عناصر الجيش بالاعتداء عليه، على بعد ثلاثة كيلومترات من ساحة التظاهر في رياض الصلح، مما أدّى إلى كسر رجله وشهرين من التعطيل عن العمل وفقاً لتقرير الطبيب الشرعي. وقد أشّر هذا الأمر إلى أنّ القوى الأمنية استخدمت العنف لمعاقبة المتظاهرين على ممارسة حقهم في التّظاهر. بالإضافة إلى ذلك، خلال مشاركته في تظاهرة في 15 كانون الأول 2020، تعرّض شاب بالكاد يبلغ 20 سنة للضّرب الوحشي من قبل عناصر مكافحة الشغب بعد أن تمّ سحبه من الشارع العامّ أمام بيت الكتائب في الصيفي إلى شارع فرعي في وسط بيروت، بعيداً عن وسائل الإعلام. وأفاد أنّ أكثر من 10 عناصر انهالوا عليه بالضرب المبرح لمدة طويلة، مما أدّى الى كسر في فقرة ظهره. وبالرغم من إصابته، تمّ التحقيق معه واحتجازه في ثكنة الحلو لمدة 18 ساعة، واضطر بعد الإفراج عنه وفقدانه للإحساس في رجليه للدخول إلى المستشفى لتلقّي العلاج لمدة تجاوزت الشهر.
مخالفة مبدأي الضرورة والتناسب في استخدام القوة
بالعودة إلى مهامّ حفظ الأمن خلال التظاهرات ومكافحة الشغب، يفرض القانون على القوى الأمنية تجنّب استخدام العنف عند ممارستهم لصلاحياتهم الإكراهية من أجل حماية الناس ومنع ارتكاب الجرائم. ويمنع عليهم استخدام السّلاح في وجه المدنيين إلّا في حالات استثنائية كالدّفاع عن النّفس )المادة 225 من القانون رقم 17 تاريخ 6/9/1990). ولكي يكون استخدامهم للقوة مشروعاً، يجب أن يتقيّد بمبدأي الضرورة والتناسب، وفقاً لما ورد في القوانين المنظّمة للأجهزة الأمنية ومدوّنات السلوك المعتمدة من قبلها المادة 221 من القانون رقم 17 تاريخ 6/9/1990). كما تفرض “قواعد الأمم المتحدة الأساسية بشأن استخدام القوة والأسلحة النارية من قبل الموظفين المكلفين بإنفاذ القانون” أن يكون استخدام القوّة منظماً مسبقاً وأن يمارس على نحو يقلّص استخدامها والأذى الذي يلحق عنه.
يفرض مبدأ الضرورة أن يكون هناك خطر مباشر وداهم على عناصر القوى الأمنية من قبل المتظاهر الذي تستخدم القوة ضدّه وأن تكون القوى الأمنية قد اتخذت كل تدابير الحيطة واستنفدت كافّة السّبل الأخرى للوصول إلى هدفها المشروع (حماية الأشخاص أو الممتلكات). من الأمثلة على هذه السّبل الأخرى، يمكننا أن نذكر تشكيل حائط بشري بين مجموعات من المتظاهرين من أجل التخفيف من المواجهة، والوقوف على مداخل الأبنية التي يتم استهدافها وتوقيف الأشخاص الذين يرتكبون جرائم تهدّد حياة الآخرين وسلامتهم. وفي حالة الدفاع عن النفس كالحالات التي تعرّضت بها القوى الأمنية لرمي حجارة ومفرقعات، يفرض مبدأ الضرورة أن تستخدم القوى الأمنية أدوات الحماية والانسحاب من الاحتكاك المباشر مع المتظاهرين بدلاً من الهجوم عليهم جماعياً والاعتداء عليهم بالعصيّ والهراوات والحجارة وتوقيفهم بشكل جماعي وعشوائي. ويفرض مبدأ التناسب أن يتلاءم استخدام القوّة مع الظروف القائمة ومع مدى استنفاد استخدام الأساليب الأخرى. يتمّ تحديد مدى التقيّد بمبدأ التناسب وفقاً لكلّ حالة، إلّا أنّ المبادئ القانونية تفرض أن تتم الموازنة بين المصلحة التي تهدف القوى الأمنية إلى حمايتها من خلال استخدام القوّة وأهمّية الحرية التي يتم تقييدها، وهي في هذه الحالة حرية التعبير والتظاهر والاعتراض بوجه سلطة تخلّت عن مسؤوليّتها وجرّدت الشعب من حقوقه وعطّلت آليات المحاسبة الديمقراطية.
انطلاقاً من هذه المبادئ، يتبيّن لنا أنّ قوى الأمن الداخلي قد استخدمت القوّة بشكل غير متناسب ومن دون توفّر حالة الضرورة خلال فضّها للتظاهرات الشعبية في بيروت بين تشرين الأوّل 2019 وشباط 2020. فقد أعلنت أنّ أعمالها تهدف إلى حماية الممتلكات الخاصّة من التخريب ومنع المتظاهرين من الوصول إلى مباني الإدارات العامة (كمجلس النوّاب)، إلّا أنّها أفرطت في استخدام الغاز المسيّل للدموع والرّصاص المطّاطي ولجأت إلى استخدام العنف ضد المتظاهرين من خلال الاعتداء عليهم بالعصيّ وركلهم وضربهم على الوجه والجسد وبطحهم على الأرض. كذلك استخدم الجيش القوّة بشكل غير متناسب خلال فضّه للتجمّعات السّلمية على الطرقات العامّة خارج بيروت (بخاصّة في المتن وكسروان وطرابلس). فقد أعلن أنّ أعماله تهدف إلى فتح الطرقات ومنع إغلاقها بسبب التجمّعات السّلمية إلّا أنّه تعرّض للمتظاهرين بالعنف من خلال الضّرب العنيف لإبعادهم عن الطرقات.
وعليه، أدّت الاستراتيجيات التي استخدمتها قوى الأمن الداخلي والجيش لفض التظاهرات ومنع التجمّعات على الطرقات وحماية الأملاك العامّة والخاصّة في العديد من الحالات إلى إلحاق الأذى الشديد بالمتظاهرين المدنيين. استناداً إلى الأدلّة المتوفّرة لدينا والتي شملت شهادات الضحايا والتقارير الطبّية وتسجيلات وصور وإفادات من الشهود، يتبيّن لنا أنّ أعمال القوى الأمنية والعسكرية في إطار فضّ التظاهرات جاءت مخالفة للقانون، كونها استخدمت القوّة بشكل مفرط وغير متناسب وعشوائي. وشكّل استخدام العنف تعرّضاً لحق المتظاهرين في التعبير وحماية السلامة الجسدية والحياة، وهو قد يشكّل لهذه الأسباب كافّة جرائم تعذيب وفقاً للتعريف المعتمد في الاتفاقية الدولية لمناهضة التعذيب، لا سيّما نظراً للطابع العشوائي والانتقامي الذي اتّخذته .
2. العنف والتعذيب من قبل الأجهزة الأمنية أثناء التوقيف والاحتجاز والتحقيق
تعرّض 32% من العدد الإجمالي للمصابين الذي تمكّنا من توثيقه للاعتداء من قبل جهاز أمني خلال توقيفهم، ومن بينهم 38شخصاً على الأقلّ صرّحوا أنّهم تعرّضوا للضرب المبرح والتهديد إما في آلية النقل أو في مكان الاحتجاز والتحقيق. تعرّض هؤلاء لأنماط من العنف والاعتداءات الجسدية والمعنوية بدءاً من لحظة إلقاء القبض عليهم، إلى تكبيل أياديهم وسحبهم إلى شوارع مخفيّة، وإلى نقلهم في آليات الأجهزة الأمنيّة وصولاً إلى احتجازهم في الزنازين والمخافر، ممّا قد يرقى إلى جرائم تعذيب في العديد من هذه الحالات.
التعذيب لانتزاع الاعترافات والمعلومات
بالنسبة للمتظاهرين الذين أبقتهم النيابات العامة محتجزين وأحالتهم أمام قضاة التحقيق، لا سيما في قضايا استراحة صور وأعمال الشغب والتخريب في كسروان وطرابلس والذين تراوحت آماد احتجازهم بين 23 و101 يوماً، أفاد 7 منهم على الأقلّ أنّهم تعرّضوا للتعذيب خلال التحقيق معهم بهدف انتزاع اعترافات ومعلومات منهم. ومن ضمن هؤلاء، شاب قاصر أفاد أنّه تعرّض للضّرب خلال توقيفه والتحقيق معه في مخفر صيدا. كما أفاد أحد الموقوفين في قضية طرابلس أنّه تعرّض للضرب والتعذيب لدى المخابرات، مما أدّى إلى كسر سنّه.
كذلك أفاد عدد من المتظاهرين الذين تمّ احتجازهم لآماد لم تتجاوز أربعة أيام لدى فروع المخابرات المختلفة أنّهم تعرّضوا للضرب خلال التحقيق معهم للحصول على معلومات أو اعتراف منهم، فانتزعت إفاداتهم تحت العنف والإكراه. وأفاد هؤلاء أنّ المحقّقين وجّهوا إليهم أسئلة عدائية تشكّك في دوافعهم للتظاهر والمشاركة في الانتفاضة. ومن هذه الأسئلة: “مين باعتكم وشو طايفتكم؟ مين دفع لكم؟ كيف نزلت من البقاع؟ ليه عم تهتفوا بالشارع؟ ليه نازلين ضد الرئيس؟ إنتو مين مفكرين حالكم…عم بتسبّوا رئيس الجمهورية؟ وين عم تتجمّعوا؟ في شي مكان سرّي؟ إنتو منظّمين؟”. وصرّح أحدهم أنّه كان معصوب العينين خلال التحقيق معه وأنّ المحقق هدّده بشتّى أنواع التعذيب إذا رفض الإجابة على أسئلته، قائلاً: “إنت مجرّب الدولاب؟” وأنّه تلقّى ضربات على رأسه وظهره وركبته كلّما حاول الإجابة على أسئلة المحقق. كما أفاد شخصان تمّ احتجازهما من قبل المخابرات أنّ الضّرب لم يتوقّف بعد إلقاء القبض عليهما بل أرغمها المحققون على الوقوف عند الحائط لدى فتح محضر التحقيق، وتناوبوا على ضربهما على جسديهما ورأسيهما. ومن ثمّ، قام المحققون بعصب أعينهما وأخذهما إلى خارج المبنى، حيث أرغموهما على الركوع في ظلّ سكوت تام قبل أن يسمعا فجأة صوت خرطشة الكلاشينكوف قرب رأسهما، فاعتقدا أنّ ساعتهما قد أتت. كما أفاد أحدهما أنّه بعد نقله إلى الزنزانة، منعه العناصر من النوم على السرير وقالوا له حرفياً: “ممنوع تنام على التخت… إذا بتنام على التخت *** إختك!” وتناوبوا طيلة الليل على الدخول إلى الزنزانة من أجل منعه من النوم، علماً أنّه كان يعاني من آلام شديدة في ظهره ورقبته ورجليه ولم يكن قادراً على التنفّس وعلى السّعال نتيجة الضّرب الذي تعرضّ له، وهو ما يشكّل تعذيباً جسدياً ونفسياً.
بالإضافة إلى ما تقدّم، أفاد عدد من المحتجزين لدى المخابرات على أثر الاحتجاجات في صيدا وطرابلس وزحلة والمتن في نيسان 2020 (خلال فترة التعبئة العامة) عن تعرّضهم للتعذيب خلال التحقيقات معهم بوسائل مختلفة، من ضمنها الصّعق بآلة كهربائية.
العنف في آليات النقل والثكنات
أفاد 31 شخصاً على الأقلّ ممن أوقفهم الجيش قبل 15 آذار 2020 أنّهم تعرّضوا للتعذيب خلال إلقاء القبض عليهم، كما أفاد 7 منهم على الأقل أنّهم تعرّضوا للضرب داخل آليّة النقل أو في مكان الإحتجاز. على سبيل المثال، أفاد أحدهم أنّ 10 عسكريين ضربوه خلال القبض عليه بركبهم على ظهره، فوقع أرضاً، واستمرّوا بضربه. وقال إنه خلال نقله إلى آلية النّقل “الرّيو”، اقترب منه عسكري وقال له، “صرلي عشرين يوم مش شايف عيلتي يا حيوان!” وأقدم على ضربه بالعصا على رأسه. وأفاد شخصان أنّهما وآخرين تعرّضوا للضرب داخل ثكنة الجيش في النقاش على ركبهم بكعب البندقية، وأجبروهم على الوقوف على الحائط وهم معصوبي الأعين وانهالوا عليهم بالشتائم، وقال لهم أحد الضابط، “انتو يا حمير… يا كلاب… عم بتسكّروا الطرقات عالجيش؟؟ عم بتسبّوا رئيس الجمهورية؟؟” ثم أمسكه أحد عناصر الجيش من شعره وشدّ رأسه نحو الخلف، وضربه بالحائط. بالإضافة إلى ذلك، قال أحد الضباط خلال التحقيق معه وهو ينظر إليه “هيدا رجّال؟ قلتلكن جيبولي رجال حقق معهم، هيدا مش رجّال”، ولم يمنح فرصة للموقوف أن يقرأ المحضر ولا أن يردّ على التّهم التي وجّهت إليه.
وقد أقدمت مخابرات الجيش على تعنيف وتعذيب عدد من الأشخاص الذين ألقي القبض عليهم على خلفية مشاركتهم في الثورة. وتمكنّا من توثيق هذا النوع من الاعتداءات في بعبدا وطرابلس وصيدا وبيروت. وفقاً لإفادات المصابين من قبل المخابرات، اتّخذ التعذيب طابعاً معنويّاً بالإضافة إلى التعذيب الجسدي، وذلك بسبب نمط الإخفاء القسري الذي استخدمته المخابرات عند إلقاء القبض على المتظاهرين، وعصب أعين الموقوفين، بالإضافة إلى عدم التصريح عن أماكن احتجازهم ومنعهم من التواصل مع أقاربهم أو مع محامٍ سنداً للمادة 47 من قانون أصول المحاكمات الجزائية. بالإضافة إلى ذلك، أفاد أحد المتظاهرين أنّه بعد إلقاء القبض عليه من قبل المخابرات على أثر مغادرته تظاهرة في بيروت، أقدم أحد العناصر على ركله بقوّة على أسفل ظهره، فصرخ من الألم ووقع أرضاً، ثم انهال عليه بالضرب المبرح على كل أنحاء جسمه ثلاثة عناصر من المخابرات وهو ممدد على الأرض ومشلول الحركة وفي حالة من الألم الشديد. ولم يتوقفوا عن ضربه رغم توسّله لهم ورغم إعلامهم بأنّه مصاب بـ”الديسك”. وقد استمرّ ضربه حتى بعد نقله إلى مكان الاحتجاز وخلال التحقيق معه. وقد أدّى ضربه وتعذيبه إلى كسر فقرتين من العمود الفقري.
جريمة التعذيب تشمل العنف منذ لحظة إلقاء القبض في الساحات
أعمال التعذيب معاقب عليها بموجب قانون العقوبات اللبناني كما تحظرها الاتفاقيات والمواثيق الدولية، لا سيما اتفاقية مناهضة التعذيب، ومدوّنات السلوك المعتمدة من قبل القوى الأمنية والعسكرية في لبنان، من دون أي استثناء ومن دون جواز تبريرها بأيّ عذر. فحقّ الإنسان في عدم التعرّض للتعذيب أو الحماية من التعذيب أو غيره من العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة هو حق مطلق لا يسقط في ظلّ أي ظروف، مهما كانت، بالأخص عند ممارسته لحق التظاهر، وحتى في سياق أعمال التخريب العنيفة.
وفقاً للقانون اللبناني، إن جريمة التعذيب تشمل العنف من قبل موظف رسمي “أثناء الاستقصاء والتحقيق الأوّلي والتحقيق القضائي والمحاكمات وتنفيذ العقوبات”.
أما التعريف الدوّلي للتعذيب، فيؤكد أنّ التعنيف التعسّفي قد يرقى إلى التعذيب حتى إذا حصل خارج إطار الاستقصاء والاحتجاز. ومن المسلّم به، أنّه منذ لحظة إلقاء القبض على الشخص يصبح في حالة احتجاز، أي محروم من حرّيته حتى قبل وصوله إلى مكان مخصّص للاحتجاز. وعليه، إنّ أعمال العنف التي ترتكبها القوى الأمنية في ساحات التظاهر والأماكن العامّة منذ لحظة إلقاء القبض على الأشخاص قد تشكّل جرائم تعذيب حتى إذا وقعت قبل دخول المحتجز إلى آليّة النّقل أو وصوله إلى مكان الاحتجاز.
التعذيب في الساحات لمعاقبة المتظاهرين بسبب ممارستهم لحقوقهم المدنية
أفاد بعض المتظاهرين أنّ الضّرب الذي تعرّضوا له خلال إلقاء القبض عليهم من قبل الأجهزة الأمنية اتّخذ طابعاً انتقامياً لمشاركتهم في الانتفاضة، فأغلبهم تعرّضوا للضّرب من قبل مجموعة من أربعة إلى ثمانية عناصر، وقد تعرّضوا للعنف حتى في الحالات التي لم يقاوموا فيها التوقيف إطلاقاً.
يشكّل نمط التعذيب في ساحات التظاهر خلال إلقاء القبض على المتظاهرين أحد الأنماط الأكثر خطراً على حياة المتظاهرين وحريّاتنا ككل. فقد أفاد المصابون أنّ عناصر قوى مكافحة الشغب واصلوا الاعتداء عليهم حتى بعدما رفعوا أياديهم وسلّموا أنفسهم من دون أيّ مقاومة، وحتى بعدما فقدوا الوعي وسقطوا أرضاً بسبب الضّرب. كما واصل هؤلاء توجيه الضّربات على الوجه والظهر والأعضاء التناسلية حتى بعد ما صرخ المتظاهرون من شدّة الألم، وتوسّلوا إليهم التوّقف عن ضربهم. وبلغ الأمر ببعض العناصر أنْ حاولوا خنق بعض المتظاهرين وقطع أنفاسهم. وأفاد بعض المتظاهرين أنّ العناصر قالوا لهم خلال الاعتداء عليهم: “بدّك ثورة يا ***؟ بعد بدّك تنزل عالشارع؟”، أو “إنت ليه نزلت؟ مين عم يدفعلك؟”
إنّ ارتكاب أكثرية أعمال العنف والتعذيب في ساحات التظاهر وأثناء إلقاء القبض على المتظاهرين ونقلهم من الشارع إلى أماكن الاحتجاز قد يكون خياراً مقصوداً من قبل قوى الأمن. فتلك الظروف تفتح المجال أمام الأجهزة الأمنية لتبرير العنف والإصابات بمقتضيات الدفاع عن النفس والضرورة لضبط “المشاغبين” الذين قاوموا الأجهزة الأمنية. لكنّ إفادات مئات المتظاهرين ونوع الإصابات الموثّقة في تقارير أطباء شرعيين تظهر واقعاً مختلفاً يُناقض هذا الخطاب الرسمي.
تمثّلت إحدى أفظع الممارسات التي وثّقناها، في سحب القوى الأمنية بعض المتظاهرين بعد إلقاء القبض عليهم إلى شوارع فرعيّة بهدف الاستفراد بهم وتعذيبهم. وقد أفاد عدد من المتظاهرين الذين تمّ إلقاء القبض عليهم خلال التوقيفات الجماعية التي حصلت في بيروت، أنّه بعد أوّل هجمة عليهم من قبل مكافحة الشغب وتعرّضهم للضرب المبرح خلال إلقاء القبض عليهم، عادوا وتعرّضوا وهم تحت سيطرة عناصر مكافحة الشغب، للضّرب والتعذيب في شوارع فرعيّة بعيداً عن كاميرات الإعلام. ومنهم من تعرّض لضربات متكرّرة على جسمه وهو فاقد للوعي، ومنهم من تعرّض للضرب حتى بعد إصابته “بنوبة ذعر”.
كما برز في ممارسات شرطة مجلس النوّاب درجة عالية من الوحشية في استخدامها العنف بحق المتظاهرين والمعاملة المهينة وصولاً إلى حدّ التعذيب. وقد حصلتْ هذه الأفعال عندما كان المتظاهرون في حالة من الاحتجاز داخل حرم ساحة المجلس التي تمّ فصلها عن ساحات التظاهر لمنع المتظاهرين من الوصول إليها، لا سيما بعد تكبيل أياديهم. على سبيل المثال، أفاد متظاهر أنّه خلال مشاركته في تظاهرة أمام ساحة النجمة، “فجأة خرج عناصر مكافحة الشغب من وراء الحاجز إلى مدخل ساحة النجمة واعتدوا علينا بالضرب من دون أي حساب”. وأضاف المتظاهر أنه تمّ سحبه فيما بعد إلى خلف السياج الفاصل بين ساحة النجمة وساحة التظاهر، وانهال عليه “ما يقارب 40 شخصاً بالضرب… منهم بلباس دركي ومنهم بلباس مدني… ضربوني بالأرجل، وعصي خشب وحديد والأيدي على رأسي وظهري وبطني، حتى على المفاصل، وأحدهم مسك إيديّي لكي لا أحمي وجهي… كما ضربوني على فمي، وانكسر سنّي. كانوا ينهالون بالشتائم والتهديدات. لا بل قالوا لي: “بدنا نقتلك… بدنا نمسح الأرض فيك”. كما أردف أنّ أحد العناصر قال له “إركع”، وربط يديه بلاستيك بيضاء، قبل جرّه إلى شارع آخر. من هناك، تدخّل عسكري يرتدي لباس الجيش لإنقاذه فتمّ الإفراج عنه ليتمّ نقله مباشرة إلى الطوارئ. أصيب هذا المتظاهر بفدغ في رأسه وجروح عميقة في كتفه وظهره. بالإضافة إلى ذلك، أفاد شخصٌ آخر تمّ سحبه إلى داخل حرم مجلس النوب من قبل حرسه، أنه تمّ ربط يديه أيضاً، وأنّه تعرّض للضرب المبرح على وجهه بالعصي وبالأرجل وأدخل إلى غرفة صغيرة حيث ألقي على الأرض وتعرّض للضرب، وتم تفتيش أوراقه وهاتفه والتحقيق في بياناته الشخصية. كما تعرّضوا له وفق ما ورد في إفادته بالشتائم والتهديدات، قائلين، “بدنا نن** اختك” و”محضّرين لكم الغرفة”. وأصيب هذا الشخص بكسر في عظم خدّه وفي الضلع. بالإضافة إلى ذلك، أفاد متظاهر آخر، وهو طالب جامعي، أنّه بعد مغادرة التظاهرة أمام مجلس النواب تعرّض لهجوم من قبل ستة أشخاص بلباس مدني حيث قاموا بملاحقته في شوارع أسواق بيروت وضربه بالعصي على جسمه ورأسه. وبعد أن وقع أرضاً، سحبه هؤلاء إلى مدخل مجلس النوّاب قرب ساحة النجمة. أفاد أنّه صُدم لعدم اكتراث قوى الأمن للاعتداء الذي كان يتعرّض له، إذ طلب من أحد عناصر قوى الأمن الداخلي مساعدته وتمسّك بساقيه لكنه لم يفعل شيئاً لإنقاذه. وأفاد أنّه بعد سحبه إلى داخل حرم المجلس، قام العناصر بربط يديه وانهالوا عليه مجدداً بالضرب، وقام أحدهم باستخدام “آلة حادّة قطّيعة” شبيهة بالسكّين لتشطيب جميع أنحاء ظهره، مما أدّى إلى جروح عميقة.
وعليه، قد تشكّل أفعال عناصر قوى الأمن الداخلي والجيش ومخابرات الجيش، بالإضافة إلى شرطة مجلس النواب، جرائم تعذيب وفقاً للقانون اللبناني. فهم موظّفون رسميّون تابعون لوزارتَي الداخلية والدفاع، وأقدموا على تعنيف متظاهرين خلال ممارستهم للوظيفة وبعد احتجاز حريّتهم. كما ألحقوا بهم الأذى قصداً بسبب مشاركتهم في التظاهرات والانتفاضة الشعبية، وقد نتج عن أفعالهم ألم وعذاب شديدين. بالإضافة إلى ذلك، بدا واضحاً من إفادات المتظاهرين والشهود أنّ أعمال العنف هذه هدفت إلى معاقبة المتظاهرين على ممارسة حقوقهم الطبيعية بالتعبير والتظاهر والعصيان المدني والمعارضة وتخويفهم من ممارسة هذه الحقوق مجدداً وثنيهم عن التظاهر. وفي بعض الحالات، هدفت الاعتداءات إلى الحصول على اعترافات من المشاركين في التظاهرات.
3. العنف من قبل مرافقي السياسيين ومناصري أحزاب السلطة
ارتكب مناصرو أحزاب السلطة ومرافقو السياسيين اعتداءات عنيفة بحق المتظاهرين والمشاركين في الانتفاضة على خلفية مشاركتهم في التظاهرات وانتقادهم للسلطة على مواقع التواصل الاجتماعي. حصلت هذه الاعتداءات سواء خلال التظاهرات أو خارجها حيث اتخذت طابعاً “مافياوياً”.
إطلاق الرصاص على المتظاهرين من قبل مرافقي السياسيين
حصلت بعض هذه الاعتداءات من خلال قيام مرافقين لسياسيين بإطلاق النار على المتظاهرين. في اليوم الأوّل من الانتفاضة، أطلق مرافقو الوزير السابق والنائب أكرم شهيّب (الحزب التقدمي الاشتراكي) النار على المحتجين والمحتجات في وسط بيروت خلال مرور موكبه أمامهم. وفي اليوم التالي في طرابلس، أطلق مرافقو النائب السابق مصباح الأحدب النار على المتظاهرين وأصيب شخص واحد على الأقل. وفي التاريخ نفسه في النبطية، أُطلق مرافقو النائب ياسين جابر (كتلة التنمية والتحرير) النار على متظاهرين أمام مكتبه، ما أدّى إلى إصابة شخص واحد على الأقل. وأخيراً، خلال التظاهرات أمام مجلس النواب في وسط بيروت في 19 تشرين الثاني احتجاجاً على إقرار قانون العفو العام، تعرّض المتظاهرون لإطلاق النار من موكب الوزير السابق والنائب علي حسن خليل (حركة أمل) من دون أن تقع إصابات من جرّاء الرصاص. لم يعلن عن توقيف أو محاسبة أي من مطلقي النار باستثناء إعلان الجيش عن توقيف اثنين من مطلقي النار من موكب الأحدب وإصدار قاضية التحقيق الأولى في الشمال مذكّرات توقيف بحق عدد من المشتبه بمشاركتهم في هذا الاعتداء.
الهجوم الجماعي على المتظاهرين
أقدمت مجموعات من المدنيين من مناصري أحزاب السلطة على اعتداءات جماعية على المتظاهرين من خلال الهجوم عليهم في ساحات الاعتصام في مختلف المناطق اللبنانية.
تعدّدت هذه الهجمات في بيروت. ولعلّ أبرزها كان هجوم مناصري حركة أمل وحزب الله على المعتصمين في وسط بيروت بداية في 25 تشرين الأول بعد خطاب أمين العام لحزب الله، وثم في 29 تشرين الأوّل 2019 قبل ساعات من استقالة حكومة سعد الحريري، حيث وثقنا وقوع 20 إصابة على الأقل. حصل هذا الاعتداء على المعتصمات على جسر الرينغ وموقف العازرية وساحة رياض الصلح بهدف فضّ اعتصامهنّ السّلمي. ضرب المعتدون المتظاهرين بأيديهم وبالعوائق الحديدية والخشبية، كما أحرقوا خيم الاعتصام وسرقوا بعض محتوياتها. بالإضافة إلى ذلك، أفاد أحد المتظاهرين أنّ بعض المعتدين أقدموا على إشهار سكاكين والتهديد بها، كما قاموا بشدّ شعر المعتصمات. وتبيّن من الإفادات أنّ القوى الأمنية لم تعمد إلى وقف هذا الإعتداء أو إلقاء القبض على أيّ من المعتدين بل بدت وكأنها على تنسيق ضمني معهم. وقد أدّت هذه الهجمة إلى نقل عدد من المتظاهرين إلى المستشفيات، وقد شملت الإصابات التي وثقناها: فدغ في الرأس، غياب عن الوعي بسبب ضرب مبرح، وضرب على الوجوه. وتكرر هجوم مشابه على المتظاهرين على جسر الرينغ مرة أخرى في 25 تشرين الثاني 2019 كما وفي 11 شباط 2020 خلال انعقاد جلسة مجلس النواب لمنح الثقة لحكومة حسان ديّاب، من دون أن تقع إصابات بشرية خطيرة حيث قامت القوى الأمنية والعسكرية بتشكيل حاجز للدفاع عن المتظاهرين وردع الاعتداء عليهم.
وفي 13 كانون الأول 2019، تعرّضت مجموعة من المتظاهرين كانت تقوم بوقفة احتجاجية في مبنى شركة أوجيرو للإتصالات في بئر حسن للضرب والاعتداء من قبل موظفي الشركة. نتج عن هذا الاعتداء 8 إصابات على الأقل، تم نقل اثنين منهم إلى المستشفى. وفي 24 كانون الثاني 2020 تعرّضت مسيرة سلمية أمام مجلس الجنوب إلى اعتداء وحشي من مناصرين لحركة أمل نتج عنه 7 إصابات على الأقل ومحاصرة المتظاهرين في المنطقة. وقد تقدّم المعتدى عليهم بشكاوى فورية في هاتين الحادثتين.
كما شهدت منطقة الجنوب، وبالأخص صيدا وصور والنبطية اعتداءات مستمرّة من قبل مناصري أحزاب السّلطة. على سبيل المثال، اعتدتْ شرطة البلدية ومناصرو حركة أمل على المتظاهرين في النبطية في 23 تشرين الأول 2019، وتمكنّا من توثيق6 إصابات، من ضمنها إصابة خطيرة أدّت إلى دخول شاب إلى المستشفى لمدة ثلاثة أيام، بعدما أصيب بارتجاج بالعمود الفقري.
كما تعرّضت خيم المعتصمين في صور وعاليه والنبطية وجلّ الديب لإضرام نار عدة مرّات. وقد أدّى الاعتداء على الخيم في عاليه في 22 كانون الأول 2019 إلى إصابة شخصين بإصابات بليغة. فضلاً عن ذلك تعرّض الناشطون أنفسهم لاعتداءات جسدية في حالات عدّة في هذه المناطق وغيرها، ومنهم شاب أصيب برصاص في رجله أثناء اعتداء شخص مسلّح (يعتقد أنّه مناصر للتيار الوطني الحر) على مجموعة من المتظاهرين في جلّ الديب في 14 تشرين الثاني 2019 قبل أن يتم إلقاء القبض عليه من قبل قوى الأمن الداخلي، وشابّة تمّ الاعتداء عليها خلال مشاركتها في تظاهرة في منطقة الدّورة من قبل مدنيين على خلفية يافطة حملتها انتقدت فيها سمير جعجع، رئيس الهيئة التنفيذية لحزب القوّات اللبنانية.
الاستفراد “الميليشياوي” بالمنتفضين
أفاد 17 شخصاً على الأقل أنّهم تعرّضوا لاعتداءات من قبل مناصرين لأحزاب السلطة بشكل فردي خارج التظاهرات وفي سياق حياتهم اليومية، وذلك من خلال الاعتداء عليهم بالضرب بغرض قمع معارضتهم وانتقادهم علناً للزعماء والأحزاب خلال التظاهرات وعلى مواقع التواصل الاجتماعي. ومن أبرز هذه الحالات، الاعتداء على الصحافي محمد زبيب والناشطين فراس أبو حاطوم وربيع الأمين وغيرهم. وفي بعض الحالات، أدّت هذه الاعتداءات إلى إكراه المعتدى عليهم على الاعتذار من “الزعيم”، وإذلالهم عبر تصوير العنف الذي تعرّضوا له واعتذاراتهم التي انتزعت تحت العنف والتهديد ونشرها على مواقع التواصل الاجتماعي. وهو ما حمل العديد من الأشخاص إلى الانتقال من المناطق المختلفة إلى العاصمة بيروت من أجل التظاهر والتعبير عن الرأي المعارض بحريّة بعيداً عن محيطهم العائلي والاجتماعي. وقد اتّخذ هذا العنف طابعاً مناطقياً وطائفياً في بعض الحالات كما حصل جرّاء اعتداء مرافقي النائب زياد أسود (التيار الوطني الحرّ) على أحد المنتفضين من طرابلس بسبب ما اعتبروه “تخطّي لحدود منطقته” وقالوا له خلال الاعتداء عليه “إنت من طرابلس؟ شو جايي تعمل بكسروان يا حيوان؟”
هذا العنف على المتظاهرين من قبل مدنيين من مرافقي السياسيين ومناصري أحزاب السلطة جرّاء ممارستهم لحرية التعبير يشكّل ليس فقط جرائم الضرب والإيذاء، بل أيضاً جرم التعدّي على الحقوق المدنية للمتظاهرين، الذي يعاقب أيّ فعل “من شأنه أن يعيق” الآخر عن ممارسة حقوقه المدنية “إذا اقترف بالتهديد والشدّة” وفقاً للمادة 329 من قانون العقوبات. ونتيجة انعدام التوازن بين قوّة المعتدى عليهم والمعتدين الذي يتمتّعون بدعم أصحاب النفوذ، امتنع العديد من هؤلاء الضحايا عن الإبلاغ عن الاعتداءات عليهم. وفي بعض الحالات التي تمكّن المعتدى عليهم من تقديم شكاوى، غالباً ما تقاعست السلطات القضائية عن ملاحقة المعتدين أو اكتفت بملاحقة المنفّذين الظاهرين بدون التحقيق حول من حرّضهم أو أمرهم بالقيام بهذه الأفعال العنيفة وبمدى مسؤولية أحزاب السلطة عنها.
3- في غياب المحاسبة الجدّية، ما هي التغييرات الجذرية المطلوبة؟
يتبيّن من توثيق الاعتداءات أنّ الأجهزة الأمنية والعسكرية قد ارتكبت جنحاً وجنايات بحق المتظاهرين، ومن أبرزها التعذيب والإخفاء القسري ومحاولة القتل والضرب والإيذاء والتعدّي على الحقوق المدنية. وفي بعض الحالات، يطرح التعذيب الممارس على المتظاهرين وشدّته مدى مسؤولية رؤساء هؤلاء العناصر عن هذه الأفعال. إلّا أنّ هذه الأفعال بقيت لغاية اليوم خارج إطار أيّة محاسبة جدّية. فلم تعلن الأجهزة المعنية عن أيّ تحقيق شفاف حولها أو عن محاسبة أيّ من عناصرها. كما لم تعلن عن نتائج التحقيقات التي أعلنت مباشرتها والتي اقتصرت على حادثة اعتداء عناصر من قوى الأمن الداخلي على الناشط سليم غضبان في تشرين الثاني 2019 وفيديو الاعتداء على الموقوفين في “ثكنة الحلو” في كانون الثاني 2020، بالإضافة إلى إعلان الجيش عن فتح تحقيق في مقتل الشاب فوّاز السمّان في نيسان 2020. كذلك امتنعت النيابات العامّة عن فتح تحقيقات في أعمال العنف هذه، وامتنعت النيابة العامّة التمييزية والعسكرية عن التحقيق جدّياً بـ15 شكوى بجرائم التعذيب التي تقدّمت بها “لجنة الدفاع” في كانون الأوّل 2019 بالتكليف عن مجموعة من المتظاهرين الذين أصيبوا خلال الشهر الأوّل من الانتفاضة. ونظراً لتعدّد الإصابات التي لحقت بالمتظاهرين وخطورتها، يسلّط انعدام المحاسبة الجدّية الضّوء على الضرورة الملحّة لإجراء إصلاحات جوهرية لجهة منع تعسّف الأجهزة الأمنية في استخدام القوّة وضمان وصول الضحايا إلى العدالة والإنصاف القانوني.
وأكثر ما يُخشى منه هو التحوّل نحو مأسسة العنف من خلال السّماح بتفشّي ثقافة العنف داخل الأجهزة الأمنية والعسكرية نتيجة إفراطها في استخدام القوّة والتعسّف في استعمال السلطة من دون أيّ محاسبة جدية. لطالما كانت هذه الممارسات العنيفة تمارس بحق الأشخاص الذين ينتمون إلى مجموعات مهمّشة تقليدياً (كاللاجئين والمثليين والعمال والعاملات الأجانب الأكثر فقراً والمشتبه بارتباطهم بجرائم الإرهاب والعمالة والمخدرات والدعارة…). إلّا أنّ الانتفاضة الشعبية جعلت شريحة أوسع من المجتمع في لبنان عرضة للرقابة والتوقيف والاحتجاز، وتالياً لتعسّف وعنف الأجهزة الأمنية. ويؤمل أن يؤدّي ذلك إلى تشكيل رأي عام واسع يعطي الأولوية للمطالبات بالتغيير وإصلاحات جذريّة في القانون وفي صلاحيات الأجهزة الأمنية المولجة بتنفيذه، بدءاً من ضمان استقلالية القضاء، مروراً بإصلاح معايير “حفظ الأمن” بهدف إرساء ثقافة الشفافية في محاسبة الأجهزة الأمنية، وصولاً إلى إنهاء محاكمة المدنيين أمام المحاكم العسكرية.
نشر هذا المقال في العدد 66 من مجلة المفكرة القانونية – لبنان. للاطلاع على مقالات العدد اضغطوا على الرابط: الثورة في مواجهة السّلطة وعنفها
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.