صدر بتاريخ 13 أيلول 2018 قرار القاضي المنفرد العسكري العميد الركن أنطوان توما حلبي في قضية العاملتين الكينيتين المعتدى عليهما بالضرب من قبل عسكري وعدد من المواطنين في منطقة برج حمود (الفيديو). الحكم، كما هو الحال لدى القضاء العسكري، غير معلل. وهو بالتالي مختصر بفقرة حكمية واحدة. حسب هذه الفقرة، “مجمل التحقيق ووقائع المحاكمة العلنية” أظهرت “أن المدعى عليهم، الجندي شادي وسام الحداد، شادي ابراهيم علوش، رين أنطوان سعيد، شاميلا، وينيروز، (أي اللبنانيين الثلاثة ومنهم جندي والمعتدى عليهما الكينتين بالصوت والصورة) أقدموا في محلة برج حمود وبتاريخ 17/6/2018 على تبادل الضرب وتحقير بعضهم البعض”. إذا الكل ضرب وحقر الكل. وعليه، يصبح من المنطقي وفق المحكمة أن تحكم عقوبات متقاربة على الجميع على أساس المادتين 554 و584 عقوبات. واللافت أنها ذهبت إلى إنزال عقوبة حبس شهرين على إحدى المدعى عليهما الكينيتين شاميلا على أساس أنها تغيبت عن المحكمة (الواقع تم ترحيلها بعد اتضاح أن أوراقها غير نظامية)، وهي ضعف العقوبة التي تمّ تقريرها وجاهيا بحق المدعى عليه شادي إبراهيم علوش وستة أضعاف العقوبة التي تم إنزالها بحق المدعى عليه الجندي شادي وسام الحداد (عشرة أيام حبس وغرامة قدرها ثلاثمائة ألف ليرة). أما المدعى عليها الكينية الثانية وينيروز فقد تم الحكم عليها بمبلغ قدره أربعمائة ألف ليرة.
تذكير بمسار القضية
أواسط شهر حزيران الفائت تعرضت العاملة الكينية “شمايلا” ومواطنتها “وينيرزو” للضرب والإهانة من قبل عسكري في الجيش اللبناني هو “شادي وسام الحداد”، وبمعيته كل من علوش ورين عيد سابقي الذكر. الإعتداء على العاملتين كان عقاباً عنصرياً ضدهما إثر إعتراضهما على تعرضهما للدهس بسيارة عسكرية من الخلف. على هذه الخلفية تم ضربهما وإهانتهما أمام المارة، من دون أن يتجرأ هؤلاء على التدخل للدفاع عن الشابتين. إلا أن مشهدية الضرب تم تسجيلها من قبل أحد المارة بالصوت والصورة وتم عرضها على وسائل الإعلام.
الأدهى في هذه القضية، هو التعامل مع الضحيتين منذ اللحظة الأولى كما تم التعامل مع الجناة. فسرعان ما تم القبض عليهما وإحتجازهما على خلفية مخالفة نظام الكفالة الذي ينظم إقامة العاملات المهاجرات في لبنان. وعلى الرغم من إستحصالهما على تقرير طبيب شرعي يثبت تعرضهما للأذى والحاجة للراحة والتعطيل، إلا أنه أبقي عليهما موقوفتين. بالنتيجة، أفرج بعد أيام عن وينيروز كونها متزوجة من لبناني ولها منه طفل، فمُنحت وقتاً لتسوية أوضاعها.
أما شاميلا فقد تم ترحيلها بقرار من المديرية العامة للأمن العام، صدر بتاريخ 12 تموز 2018. ترحيل شاميلا تم على الرغم من الإدعاء عليها ومواطنتها أمام المحكمة العسكرية، إلى جانب الجناة الثلاثة وبالتساوي بجرمي تبادل الضرب المعاقب عليه بالمادة 554 عقوبات، والتحقير المعاقب عليه بموجب المادة 584، كما يتبين جلياً من الفقرة الحكمية سابقة الذكر.
تعليق على قرار العسكرية
قرار العسكرية يستدعي ملاحظات عدة:
أولا، أنه يضع الجلاد والضحية في سلة واحدة:
تصدر المحكمة العسكرية قراراتها عموماً من دون أي تعليل. يشكل هذا الواقع إنتقاصاً أساسياً لضمانات المحاكمة العادلة، حيث لا يعود القاضي مضطراً لتبرير سبب معاقبته لشخص أو سبب تبرئته له. من هنا لم يكن “العميد الركن” مضطراً لتبرير مساواته بين الضحايا اللواتي تعرضن للضرب على الملأ، وبين المعتدين الذين تعرضوا لهن بالضرب والتعنيف. لذا لم يكن من الصعب على “القاضي” العسكري أن يجعلهم جميعاً – ضحايا وجلادين- في كفة واحدة. لا بل أن يصدر حكماً بالحبس على إحدى الضحايا هو أشد من الحكم على أحد المعتدين.
المساحة التي إستخدمها القاضي للتغاضي عن الفرق الشاسع بين الشابتين وباقي المدعى عليهم، لا يمكن فهمها بالمطلق. وإنفصالها التام عن العدالة، لا يعبّر عنه سوى إستعادة للمشهد: شابتان مرميتان على الأرض، يمسك رجل ذو قامة ضخمة بشعرهما بيد واحدة. سرعان ما تبدأ الشابتان بتلقي اللكمات والركلات من آخرين إلى جانبه. وحشية مطلقة تظهر في فيديو إنتشر على وسائل التواصل الإجتماعي. وحشية تحتمل أقله أن يدافعن عن أنفسهن بتوجيه ضربات مماثلة للمعتدين، من دون أن تعاقبا بموجب حق الدفاع المشروع، المكرس في المادة 184 من قانون العقوبات نفسه. لكن الفيديو يثبت أن الشابتين أخضعتا بالكامل بحيث لم تستطيعا الدفاع عن نفسيهما حتى. على الرغم من هذه الفداحة، حوكمت الشابتان كمذنبتين، ما يدفع للقول في ظل غياب التعليل في قرار القاضي، أن المحاكمة كانت عرقية.
قد تخطئ النيابة العامة في إدعائها، فتساوي بين المعتدي والمعتدى عليه. ولكن، ما ينتظر من القاضي في النهاية هو أن يقيم العدل ويطبق القانون بما يخدم هذه الغاية. لكن كيف نتوقع ذلك في ظل تعيين ضباط قضاة ومن دون إلزامهم بأي تعليل؟
ثانيا، أنه يعاقب على الترحيل:
إصدار القاضي العسكري عقوبة أكثر تشدداً بحق الضحية شاميلا ناتج عن عدم حضورها أمام المحكمة. فيما أنها، غيّبت قسراً بسبب ترحيلها ومن دون أن يتسنى لها الدفاع عن نفسها أمام القاضي.
بالتالي فإن المحكمة العسكرية تكون قد حمّلت شاميلا ذنب قرار الامن العام اللبناني. وعلى الرغم من أن الأحكام الغيابية تبقى قابلة للطعن، إلا أنها تعرّض المحكوم عليه بالحبس، للتوقيف فور إلقاء القبض عليه. وهو ما يحصل بطبيعة الحال في حال قررت شاميلا مثلاً العودة إلى لبنان بأي طريقة. وفيما يفهم التشدد في الأحكام الغيابية لإرغام المدعى عليه على الحضور إلى المحكمة، لكن لا يفهم حين يكون الغياب ناتجا عن عمل أجهزة الدولة، كما هي الحال في هذه القضية حيث تم ترحيلها. ففي هذه الحالة، لا يكون غيابها بحال من الأحوال انتقاصا من المحكمة إنما انتقاصا من حقها بالدفاع عن النفس. وكان ينتظر تاليا من المحكمة، على فرض ثبوت مسؤوليتها (وهو أمر تنفيه الصور)، أن تخفف عقوبتها على اعتبار أنه لم يتسن لها الدفاع عن نفسها وليس التشدد فيها.
لإدراك ذلك، نكتفي بالإحالة إلى الرصد الذي قامت به المفكرة القانونية لـ 195 حكم صادر عن القضاء الجزائي في كل من بيروت، بعبدا والجديدة، حيث ظهر أن 178 من هذه الأحكام أي ما يقارب 91% منها صدرت غيابيا. ومرد هذه هذه النسبة المرتفعة بالدرجة الأولى سواد ممارسة مفادها توقيف العاملات المخالفات لشروط إقامة الأجانب والتحقيق معهن وترحيلهن حتى قبل إحالة ملفاتهن إلى القضاء.