الدولة المصرية في مواجهة العشوائيات: قرار بوقف أعمال البناء لمدة ستة أشهر


2020-06-16    |   

الدولة المصرية في مواجهة العشوائيات: قرار بوقف أعمال البناء لمدة ستة أشهر

أثار قرار وزير التنمية المحلية بشأن وقف إصدار التراخيص الخاصة بإقامة أعمال البناء بجميع أنواعها، بالقاهرة والإسكندرية وعواصم المحافظات الأخرى لمدة ستة أشهر حالة واسعة من الجدل في الشارع المصري حول مستقبل شروط وضوابط البناء في مصر[1]، خاصة وأن القرار تضمّن أيضا تكليف جميع المحافظين بالعمل على إيقاف استكمال كافة أعمال البناء للمباني الجاري تنفيذها بالفعل (والحائزة على ترخيص بالبناء)، لحين التأكد من توافر الإشتراطات البنائية ومطابقتها للتراخيص الممنوحة لها. يعكس هذا القرار اتّجاه الدولة المصرية ونيّتها في عدم التهاون مع مشكلة المباني المخالفة أكثر من ذلك، ورغبتها في القضاء على تلك الأزمة المستمرة منذ عقود. وهو الأمر الذي ظهر بوضوح في عدد من التصريحات المتتالية لرئيس الجمهورية عبد الفتاح السيسي والتي وصلت إلى التوجيه المباشر بضرورة وقف البناء والتراخيص في عدد من المحافظات، كخطوة أساسية لتفادي التنامي المستمر للمناطق العشوائية والمخالفات في البناء خلال المرحلة الراهنة[2].

من ناحية أخرى، في مارس 2020، وافق مجلس النواب بشكل مبدئيّ على مشروع قانون جديد مُقدّم من الحكومة بشأن تعديل بعض أحكام قانون البناء رقم 119 لسنة 2008[3]، وهو المشروع الذي يهدف إلى:”إحكام الرقابة والمتابعة على عمليات تنفيذ البناء” كأحد أهدافه الرئيسية، بالإضافة إلى كونه يتضمن بابا كاملا يتعلق بتنظيم أعمال البناء[4].

وعليه، يحاول هذا المقال تسليط الضوء على إستراتيجية الدولة، بسلطتيها التشريعية والتنفيذية، في مواجهة ظاهرة البناء المخالف للشروط والمواصفات التي تحددها الجهات المحلية. فضلًا عن محاولة رصد وتحليل الآثار المترتبة على تلك الإستراتيجية في إطار تحقيق الهدف الأسمى منها وهو القضاء على العشوائيات.

قرار وزاري من رحم تشريع متوقع إقراره

يعتبر دستور 2014 هو النصّ الدستوري الأول من نوعه في تاريخ الدساتير المصرية الذي يضع على عاتق أجهزة الدولة المختلفة إلتزامًا دستوريًا يتعلق بضرورة وضع خطط وطنية للإسكان ومواجهة العشوائيات، وتنظيم استخدام أراضي الدولة بما يحسن من حياة المُواطنين[5]. لذلك، فإنه لا يمكن في حال من الأحوال قراءة قرار وزير التنمية المحلية بشأن وقف البناء في بعض المحافظات والمدن، بمعزل عما تتّخذه سلطات الدولة الأخرى، وعلى رأسها السلطة التشريعية من خطوات وإجراءات موازية، وبالأخص التعديل التشريعي المتوقع إقراره في الفترة القادمة. فبالإمكان قراءة كلا الخطوتين على أنهما جزءٌ من خطّة قومية أشمل وأعمّ، تتعلّق بإعادة التخطيط العمراني وتوفير البنية الأساسية الملائمة، تنفيذًا للإلتزام الدستوري الواقع على عاتق الدولة. فبالاطلاع على مشروع القانون المُقدّم من الحكومة بشأن تعديل بعض أحكام قانون البناء رقم 119 لسنة 2008، والذي وافق عليه البرلمان بشكل مبدئي، نجد أن المادة (44) من المشروع تنص على أن “لمجلس الوزراء، بقرار مسبب من المحافظ المختص، بعد موافقة المجلس المحلي، وقف تراخيص المباني في المدن أو المناطق أو الشوارع، تحقيقًا لغرض قومي أو مراعاة لظروف العمران أو إعادة التخطيط، على ألا تجاوز مدة الوقف ستة أشهر من تاريخ نشر القرار في الوقائع المصرية[6]. وهو الأمر المشابه إلى حد كبير للقرار الصادر حديثًا بوقف إصدار تراخيص البناء، باختلاف جهة الإصدار لتكون مجلس الوزراء بدلًا من وزير التنمية المحلية. وهو ما ينبئ أن مثل هذا القرار لن يكون الأخير من نوعه، بل إن استراتيجية وقف البناء قد تصبح أمرا مألوفا خلال الفترة القادمة عن طريق قرارات مماثلة في المحافظات المختلفة.

لماذا وقف تراخيص البناء؟

تعدّ مشكلة البناء العشوائي إحدى أكبر المشكلات التي تعاني منها مصر على مدار العقود الأربعة الماضية، بالإضافة إلى ما ترتب عنها من مشاكل عديدة تتمثل في تركّز الكثافات السكانية في بعض المناطق دون غيرها، مما أدى إلى ضعف شبكات المرافق والخدمات المُقدمة لسكان تلك المناطق. فوفقًا للتقرير الصادر من المقررة الخاصة التابعة للأمم المتحدة والمعنية بالسكن اللائق بعد زيارتها إلى مصر في سبتمبر 2018؛ فإنه يوجد حوالي 38 مليون نسمة يعيشون في منازل أو مستوطنات غير رسمية أو غير مخطط لها “Informal settlements”، وبما لا يتوافق مع معايير البناء والتخطيط العمراني التي ينص عليها قانون البناء رقم 119 لسنة 2008[7]. لذلك، يعتبر الهدف الرئيسيّ والمُعلن ضمنًا في تصريحات رئيس الجمهورية بخصوص قرار وقف إصدار تراخيص البناء لمدة ستة أشهر، هو إعطاء أجهزة الدولة التنفيذية مساحة كافية من الوقت لحوكمة وضبط عمليات البناء بشكل أفضل، ومراجعة الكثافات السكانية على مستوى الجمهورية، وقياس مدى كفاءة شبكات الخدمات المختلفة (الكهرباء، والغاز، والمياه)، بالإضافة إلى دراسة مدى استيعاب شبكات الطّرق وأماكن الإنتظار[8]، قبل السماح باستصدار تراخيص البناء مرة أخرى، حتى تعبر الشروط والضوابط الجديدة لتلك التراخيص عن الواقع الفعلي لحالة العمران ونموّه في مصر.

ومن جانبنا، فإنّنا نرى أن قرار وقف البناء في عدد من المحافظات والمدن الرئيسية كان ضرورياً من الناحية العملية، خاصة قبل البدء في تنفيذ تعديلات أحكام قانون البناء المتوقّع دخولها حيّز النفاذ في الفترة المقبلة بعدما حظيت بالموافقة المبدئية للبرلمان، والتي من شأنها أن تغيّر شروط البناء وضوابطه في مصر بشكل جذري. فوفقًا للتعديلات الجديدة، تقوم الجهة الإدارية المختصة بشؤون التخطيط والتنظيم بإعطاء أصحاب الشأن بيانًا بصلاحية الموقع للبناء من الناحية التخطيطية والإشتراطات البنائية الخاصة بالموقع. ويصبح هذا البيان صالحًا لمدة ثلاث سنوات فقط[9]. وهو الأمر الذي من شأنه – في حال تفعيله بشكل حقيقيّ- أن يقضي بصورة نهائية على ظاهرة البناء غير المنظم، والتي كانت تنتج بالأساس عن إعطاء تراخيص بناء مختلفة، بمعايير وارتفاعات متفاوتة لكل قطعة أرض في نفس الحيز الجغرافي، مما أدى إلى تفشي الفساد الإداري وخاصة جرائم الرشوة داخل جهات الحكم المحلي من أجل الحصول على امتيازات أفضل[10]. في الوقت نفسه، أشار رئيس الجمهورية في تصريحاته الأخيرة المتعلقة بأزمة البناء غير المنظم إلى ضرورة تعديل الشكل القانوني للترخيص الممنوح بالبناء، ليصبح في شكل عقد إداري، تكون الدولة ممثلة في أجهزتها المحلية طرف فيه، على أن يكون مالك الأرض أو صاحب الشأن هو الطرف الآخر. وهو الأمر الذي يترتب عليه سهولة فسخ التعاقد في حالة مخالفة صاحب الشأن لضوابط وشروط البناء المنصوص عليها في العقد، دون الرجوع إلى القضاء، الذي غالبًا ما يأخذ سنوات للفصل في ذلك النوع من النزاعات. حقيقة، يبدو أن الدولة المصرية قد التفتت أخيرًا لمشكلة البناء العشوائي وما يترتب عليه من آثار يصعب معالجتها. ولكننا في الوقت نفسه نرى أن تلك الجهود التشريعية والتنفيذية لن تكلّل بالنجاح دون تفعيل “اللامركزية” كنظام للإدارة في مصر، وذلك عن طريق المجالس المحلية التي من شأنها متابعة تنفيذ تلك القرارات والتشريعات عن قرب. فمهما شملت نصوص القانون من ضمانات واشتراطات يقتضي مراعاتها، سوف تظل آلية مراقبة تنفيذ تلك الضوابط هي التحدّي الأكبر. لذلك تعتبر المحليات بما لها من وظيفة رقابية تشمل متابعة تنفيذ خطط التنمية، تسمح لها بممارسة أدوات الرقابة المختلفة على الأجهزة التنفيذية من اقتراحات واستجوابات، بل وتصل إلى سحب الثقة من رؤساء الوحدات المحلية، هي الجهة الأجدر بمراقبة تنفيذ إستراتيجيات تنظيم أعمال البناء الجديدة[11]. وعليه، يجب على الدولة الإسراع في إجراء انتخابات المجالس المحلية التي تم تأجيلها أكثر من مرة على مدار السنوات الماضية[12].

تداعيات قرار وقف البناء: إدانة برلمانية واستثناء المشروعات القومية

لعلّ أبرز الإنتقادات التي طالت قرار وقف إصدار التراخيص الخاصة بأعمال البناء هو ما تضمّنه القرار من إيقاف استكمال أعمال البناء للمباني الجاري تنفيذها بالفعل[13]. وهو الأمر الذي استدعى أن يتقدم أحد أعضاء مجلس النواب بطلب إحاطة عاجل واستدعاء لوزير التنمية المحلية لمناقشته حول مخاطر هذا القرار[14]. فوفقًا للطلب البرلماني، يضرب هذا القرار المراكز القانونية المستقرة لحاملي تراخيص البناء والصادرة بشكل قانوني من قبل الإدارات الهندسية بالأحياء والمحافظات المختلفة، وهو ما نتفق معه بشكل كامل. فضلًا عن أن هذا القرار لم يُراعِ الأوضاع الاجتماعية للعاملين في أعمال البناء والتشييد من عمال ومهندسين وفنيين في عدد كبير من التخصصات. فبينما كانت تتزايد المخاوف حول تراجع نمو القطاع العقاري في مصر، والذي يعتبر أحد القطاعات الأساسية التي يعتمد عليها الإقتصاد المصري بشكل كبير، خاصة في مجالات التشغيل وتوفير فرص العمل[15]، حتى من قبل جائحة فيروس كورونا، فإنه من المتوقع أن ينخفض النشاط التجاري في هذا القطاع بشكل أكثر حدة في إثر الأزمة الإقتصادية الحالية. لذلك، وفيما يبدو إنه استجابة لتلك الأصوات المطالبة بمراجعة قرار وقف أعمال البناء، أصدر وزير التنمية المحلية قراراً وزارياً جديداً بتشكيل لجنة في كل محافظة بصفة عاجلة، مكونة من عدد من الأعضاء التابعين للمحافظات ووزارة الإسكان، والجهات الأمنية (وزارة الداخلية، القوات المسلحة)، والرقابة الإدارية ونقابة المهندسين. وقد أنيط بهذه اللجنة مراجعة أعمال البناء للعقارات الجاري تنفيذها، والتي صدرت بشأنها تراخيص سابقة على قرار حظر البناء، للتأكد من مطابقتها للإشتراطات البنائية والإرتفاعات المحددة وخطوط التنظيم، للسماح لها باستكمال أعمال البناء أو السماح بتوصيل المرافق لها في حالة الإنتهاء منها[16].

من ناحية أخرى، تجدر الإشارة إلى أن قرار وقف أعمال البناء واستصدار التراخيص اللازمة لها قد استثنى المشاريع القومية والمنشآت الحكومية والسياحية والصناعية من هذا الحظر، نظرًا لأهمية تلك المشاريع وضرورة الإنتهاء منها في المواعيد المقررة لها[17]. وهو ما دفع بعض الجهات في الدولة لمخاطبة مجلس الوزراء لإدراج مشاريعها الجاري تنفيذها كمشاريع قومية، حتى لا تخضع لقرار حظر البناء[18]. لذلك، فإننا نؤكد من جانبنا على ضرورة إيجاد آلية سريعة من قبل اللجنة المُشكلة لمراجعة أعمال البناء للعقارات الجاري تنفيذها، لإنقاذ الأعمال المتوقفة لصغار المقاولين وشركات الإنشاءات متوسطة الحجم، حيث أن الشركات الكبرى ذات رؤوس الأموال الضخمة والتي تعمل في معظم المشاريع القومية الجاري تنفيذها لم تتأثر أعمالها بشكل كبير، بينما الخاسر الأكبر من ذلك القرار هم الشركات الصغيرة والمتوسطة التي تعمل في مجالات المقاولات والإنشاءات.

خاتمة

يعتبر قرار وقف إصدار تراخيص أعمال البناء لفترة زمنية محددة، وإعادة هيكلة وحوكمة عملية تنظيم البناء، وإحدى الخطوات التي تأخرت كثيرًا من أجل القضاء على مشكلة البناء العشوائي في مصر. ولكن يبدو أن سلطات الدولة المختلفة قد عزمت على اتخاذ إجراءات جدية هذه المرة, فبالإضافة إلى مشروع القانون المرتقب والمتوقع إقراره قريبًا، أصدر النائب العام قرارًا بتشكيل غرفة عمليات لتعزيز دور النيابة العامة وما تتخذه من إجراءات قانونية للتصدي للجرائم المنصوص عليها بقانوني البناء والزراعة، لما تمثله من مخاطر جسيمة، وخاصة تلك المتعلقة بإنشاء المباني أو إقامة الأعمال من دون ترخيص من الجهة الإدارية المختصة[19]. وعليه، بقدر ما تبدو تلك الخطوة كإجراء ضروري تأخر تنفيذه، تظل مراعاة الجانب الإقتصادي والإجتماعي لهذا القرار هي التحدي الأكبر الذي يقع على عاتق الدولة بأجهزتها المختلفة خلال الفترة القادمة.


[5]  تنص المادة (78) من دستور 2014 على: “تكفل الدولة للمواطنين الحق في المسكن الملائم والآمن والصحي، بما يحفظ الكرامة الإنسانية ويحقق العدالة الاجتماعية. وتلتزم الدولة بوضع خطة وطنية للإسكان تراعي الخصوصية البيئية، وتكفل إسهام المبادرات الذاتية والتعاونية وتنفيذها، وتنظيم استخدام أراضي الدولة ومدها بالمرافق الأساسية في إطار تخطيط عمراني شامل للمدن والقرى واستراتيجية لتوزيع السكان، بما يحقق الصالح العام، وتحسين نوعية الحياة للمواطنين ويحفظ حقوق الأجيال القادمة. كما تلتزم الدولة بوضع خطة قومية شاملة لمواجهة مشكلات العشوائيات تشمل إعادة التخطيط وتوفير البنية الأساسية والمرافق، وتحسين نوعية الحياة والصحة العامة، كما تكفل توفير الموارد اللازمة خلال مدة زمنية محددة.”

[6] راجع المرجع رقم (4) – المادة (44) من مشروع القانون.

[7] United Nations Human Rights Office of the High Commissioner, Country Visits – adequate housing, Egypt (24 September – 3 October 2018), Para 38.

[8] راجع/ حسن مسعد – طرح أماكن انتظار السيارات كحق استغلال للشركات في مصر، نهاية عصر السايس؟ – المفكرة القانونية – 7 مايو 2020.

[9]  راجع المرجع رقم (4) – المادة (40) من مشروع القانون.

[10]  راجع على سبيل المثال: إحالة رئيس حي مصر القديمة وآخرين للجنايات في “الرشوة” – موقع البوابة نيوز – 15 ديسمبر 2019.

[11]  راجع: محمود غلاب – وظيفة المحليات – جريدة الوفد – 20 ديسمبر 2018.

[12]  راجع/ أحمد صالح – المحليات في مصر: بين تطبيق اللامركزية وحلم العمل السياسي – المفكرة القانونية – 26 سبتمبر 2018.

[13]  راجع المرجع رقم (1).

[15]  القطاع العقاري بمصر يسهم بنحو 7% من معدل النمو – موقع CNBC عربية – 13 أكتوبر 2018.

[18]  على سبيل المثال، راجع: قرار مجلس الوزراء رقم 21 لسنة 2020 باعتبار “مشروع مجمع محاكم مجلس الدولة بالقاهرة الجديدة” من المشروعات القومية فيما يتعلق بتطبيق أحكام قانون البناء، الصادر في 22 مايو 2020.

انشر المقال

متوفر من خلال:

تحقيقات ، بيئة وتنظيم مدني وسكن ، مصر



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني