بتاريخ 10/4/2019 عقد مجلس النواب جلسة مساءلة للحكومة هي الأولى من نوعها منذ 8 سنوات. وقد تميزت هذه الجلسة بالحضور الخجول للوزراء على الرغم من أن غايتها المساءلة الأمر الذي دفع بالنائبين حسن فضل الله وسيزار معلوف إلى تسجيل اعتراض بالنظام على تغيب الوزراء سيما وأن “رئيس الحكومة لم يكن جاهزاً للإجابة على جميع الأسئلة”. كما تميزت أجواء الجلسة بالهدوء النسبي. تنشر المفكرة في معرض رصدها لأعمال المجلس النيابي تعليقات على إجابات الحكومة على الأسئلة المطروحة، تمهيدا لتقييم الدور الرقابي الذي أعلن رئيس هذا المجلس عزمه على تطويره خلال هذا العام. وفي هذه الحلقة وهي الحلقة الثالثة من التعليقات على أعمال الجلسة الرقابية، نتناول الأسئلة المطروحة المتصلة بتأخير المحاكمات وأوضاع السجون. وكنا نشرنا سابقا الحلقة الأولى التي تناولت الأسئلة البيئية والحلقة الثانية التي تناولت مسألة التوظيف العشوائي (المحرر).
تناول هذه المسألة بشكل خاص النائب شامل روكز الذي اعتبر أن الجواب على سؤاله في هذا الخصوص كان مجتزأً. كما تدخلت النائبة رولا الطبش بهذا الشأن.
الإسراع في المحاكمات لئلا يصبح العفو العام ضرورة
في المقام الأول، تحدث النائب شامل روكز: “نرى من خلال البرامج التلفزيونية موقوفين تم توقيفهم عشر سنوات في السجون وفي النهاية صدر حكم براءة بحقهم. وهذه المسألة تؤثر على العدالة بشكل عام لاسيما عدالة المحاكمات. وقد أعطى هذا الأمر حجة لمتهمين بمقتل العسكريين أو بأعمال إرهابية ليطالبوا بقانون عفو عام. انطلاقا من هنا لنبدأ بمسألة التوقيف الاحتياطي حسب المادتين 107 و 108 من قانون أصول المحاكمات الجزائية. وعلى أي أساس يتم التوقيف الاحتياطي التي في الكثير من المرات يكون فيها التوقيف تعسفياً أو مزاجياً. انطلاقا من هنا طرحت السؤال وجاءني جزء من الجواب”. واعتبر روكز أن “العدالة تبدأ بالمحاكمات وليس بالعفو عن المجرمين”.
السؤال المطروح بالغ الأهمية لمن يتابع أوضاع المحاكم، حيث تطول آماد التوقيفات ويتمّ تجاوز المهل في الكثير من الملفات الخطيرة وغير الخطيرة، من دون أي مساءلة جدية أو خطط لتحسين الالتزام بهذه المهل. ويتمّ تجاوز هذه المهل أحيانا لأسباب تتصل بمساحة النظارة أو توفر العناصر والسيارات لنقل الموقوفين إلى المحكمة، وأيضا بتجاوز النيابات العامة وقضاة التحقيق والمحاكم قرينة البراءة والمبدأ الذي يفترض أن التوقيف الاحتياطي لا يكون مبرراً إلا عند الضرورة. وفيما سعى إصلاح 2001 إلى وضع حدّ أقصى للتوقيف الاحتياطي بخصوص الجنح والجنايات، فإنه استثنى بعض الجنايات من الحد الأٌقصى ومنها القتل والإتجار بالمخدرات. وفيما تقدمت الحكومة بمشروع قانون لإلغاء هذه الاستثناءات تبعا لقرار الإفراج عن الضباط الأربعة بعد احتجازهم في قضية مقتل الحريري من دون أي مبرر، فإن البرلمان انتهى إلى تعديل وجهة هذا المشروع بحيث أضاف إليها استثناءات جديدة أبرزها جرائم الإرهاب.
وقد فتح هذا الأمر أمام السلطات القضائية امكانية إطالة أمد التوقيف الاحتياطي في قضايا الإرهاب لفترات غير مبررة وصلت في بعضها إلى عشر سنوات كما جاء في سؤال روكز. وقد مهد طول المحاكمات للكثيرين المطالبة بالعفو على أساس أن القرينة هي البراءة وأنه على المشرّع كفّ التعقبات إذا كان الجهاز القضائي عاجزاً عن إتمام هذه المحاكمات. وهذا ما يبرر الجزء الثاني من مداخلة روكز الذي رأى أن الإسراع في المحاكمة بات ضرورة لتفادي اللجوء إلى العفو العام الذي يؤدي إلى إفلات جناة من العقاب. ويذكر أن النائب روكز كان تقدم باقتراح قانون لمنح تعويضات للموقوفين الذين تثبت براءتهم، وذلك من باب جبر ضررهم. وندرك أهمية هذا الاقتراح عند النظر في قضية زياد عيتاني الذي لم تمنحه الدولة أي تعويض رغم ثبوت توقيفه لأشهر تعسفاً، ورغم تقدمه بشكوى منذ ما يقارب أربعة أشهر ما برحت تراوح مكانها.
وردا على هذه الأسئلة بالغة الأهمية، لم يحِد جواب وزير العدل ألبير سرحان عن اللغة الخشبية في انفصام تامّ عن الواقع. وقد اعتمد هذا الجواب أربعة توجهات غالبا ما تستخدم لتمييع الحقيقة والتنصل من المسؤولية.
- أولا، التذكير بما يقوله القانون وبما يفتحه من مجالات للمساءلة، من دون إعطاء أي أرقام أو معطيات بشأن كيفية تطبيق القانون. ف “كل التحقيقات والملاحقات تتم حسب الأصول المنصوص عنها في قانون أصول المحاكمات الجزائية سواء لجهة الاحتجاز الأولي من قبل الضابطة العدلية أو أثناء التوقيف الاحتياطي عندما ينتقل الملف إلى النيابة العامة. وكل التحقيقات والاجراءات القضائية تتم تحت إشراف القضاة سواء أكانوا قضاة النيابة العامة أو قضاة التحقيق”. “أما فيما يتعلق بالتعويض عن الضرر الذي قد يكون قد لحق بأحدهم بعد توقيف طويل وصدر بحقه حكم البراءة أو تم حفظ الملف، القانون صريح ويعطيه حق مداعاة الدولة بالتعويض”.
- ثانيا، افتراض أن وجود قانون ضابط للتوقيفات وإناطة مهمة الإشراف عليها لقضاة عدة، يكفي بحدّ ذاته لنفي امكانية “الحديث عن تعسف” بمعنى نفي امكانية الحديث عن نهج أو ظاهرة للتجاوز أو التعسف. وهذا ما نقرأه بوضوح من خلال قوله: “لا يمكن الحديث عن تعسف لأن الملاحقات والتحقيقات لا تتم تحت إشراف قاضٍ واحد وإنما لدينا خمسة قضاة”. وهو بذلك بدا وكأنه يخلط بين الواقع والمفترض حصوله.
- ثالثا، وجود آليات للمحاسبة على فرض حصول أيّ خلل، قوامها اللجوء إلى “هيئة التفتيش القضائي” للتقدم بأيّ شكوى بمعنى أنه يكفي أن توجد امكانية محاسبة القضاة لتحصل المحاسبة فعليا. وهنا أيضا، يأتي كلام الوزير مجرّدا عن أي معطيات بشأن عدد الشكاوى المقدمة أو عدد الإحالات إلى المجلس التأديبي أو عدد الأحكام التأديبية الصادرة بهذا الخصوص. وعليه، ورغم وجود عشرات الأدلة على تجاوز المهل والتعسف في التوقيف أحيانا لآماد غير مقبولة، يخلو كلام الوزير من أي حالة تمت ملاحقتها تأديبيا على هذا الأساس. وما يزيد هذا الموقف قابلية للنقد هو أن أعمال هيئة التفتيش القضائي تبقى خاضعة لسرية تامة، فلا يتسنى للعامة بما فيهم الجهات المشتكية معرفة مآل الشكاوى المقدمة لها.
- رابعا، وهنا يأتي الموقف الأكثر رواجا. فعدا عن أن الوزير لم يبذل أي جهد لنقض الانطباعات التي ضمنها روكز في سؤاله، فإنه اعتمد الموقف السهل والذي يتمثل في اتهام الجهات المتضررة ووسائل الإعلام بابتداع مشكلة التوقيفات الاحتياطية الطويلة. وقد جاء حرفيا في جوابه أن”المشكلة هي أن المتداعين عوضاً عن اللجوء إلى هيئة التفتيش القضائي يقومون بإثارة الموضوع بالإعلام. وهنا تتعرقل الأمور وتتشوه الحقيقة”. إذاً وفق سرحان، الحقيقة المشوهة هي الحقيقة التي يتحدث عنها الإعلام، كل ذلك من دون الإفراج عن أي معطيات قد تكون متوفرة لدى وزارة العدل. فكأنه يقول: الإعلام يقول هذا، وأنا أقول العكس. وهي كلمتي ضد كلمتهم، فمن عساكم تصدقون؟ وما يضعف موقف الوزير في هذا الصدد ويوجب تحويل السؤال إلى استجواب، يكمن في كونه هو الذي يملك المعطيات بحيث أمكن اعتبار عدم البوح بها حجة ضده ودليلاً عليه، فضلا عن كونه تصرفا لا يعبر عن احترام حقيقي للرأي العام والمجلس النيابي وقواعد اللعبة الديمقراطية ككل.
وتبعا لعدم الاعتراف بالمشكلة ورميها في مواجهة الجهة المتضررة والإعلام، أمكن الوزير أن يتنصل من أي مسؤولية في هذا الخصوص، سواء لضمان حسن سير المرفق العام أو بشكل أعم مبادئ المحاكمة العادلة.
وقد جاء رئيس الحكومة سعد الحريري ليبدّد أيّ شك في غياب أي سياسة عامة في هذا الخصوص. وهذا ما نقرأه في تصريحه:”الموضوع سياسي ويجب التعاون بين الجميع لحله”. وهو بذلك بدا وكأنه يعود ليحوّل أي مأخذ حقوقي ضد الحكومة، إلى مسألة خاضعة للتوافق السياسي، يتحمل مسؤوليتها الجميع، وإذاً لا أحد. فتماما كما حوّل الأسئلة بشأن التوظيف العشوائي إلى قضية سياسية خاضعة للتوافق، كذلك فعل بما يتصل بشأن مبادئ المحاكمة العادلة. كل شيء سياسي: لا حقوق محسومة أو مكتسبة للناس، كل شيء خاضع لاعتبارات السياسية، والأهم، كلنا مسؤولون في إيجاد حلول من دون أن يكون أي منا مسؤولا أكثر من الآخر في أي شأن.
وهذا ما اعترض عليه عن حقّ النائب روكز:”الموضوع ليس موضوعاً سياسياً وإنما موضوع عدالة وأناس لديهم حقوق”. وقد أضاف تأكيدا على ذلك “أن هنالك محكمة أقيمت في رومية منذ عشر سنوات لتسريع المحاكمات. إلى اليوم، لم تعمل. أتمنى تفعيل هذا الموضوع لننتهي من قضية الموقوفين”.
التعذيب
من ثم، تحدثت النائبة الطبش واصفةً وضع السجون بالمأساوي جداً وذكرت باستخدام وسائل التعذيب أثناء التحقيقات. وقالت: “اليوم، لا يوجد مماطلة في إجراء التحقيقات وحسب، وإنما هناك تلكؤ في سوق المساجين في مواعيد جلساتهم، وكل مواضيع حقوق الإنسان التي تتعلق بالسجين هي مفقودة والسجون مكتظة. هناك مساجين موقوفون في النظارات لأن لا مكان لهم في السجون. والأكثر من ذلك، يجري استخدام وسائل تعذيب قوية جدا أثناء التحقيقات. وهذا الأمر لأن القانون لا يسمح بوجود محامين ولا يوجد كاميرات مراقبة. وعليه، نشهد أعمال تعذيب يعاني منها الموقوف في المراحل الأولى من التحقيقات، وهو أمر غير إنساني ومن غير المسموح أن يتمادى”.
وطالبت الطبش بـ “التنسيق بين وزارات الداخلية والعدل والمالية لاتخاذ كافة التدابير اللازمة لوقف كافة أشكال التعذيب داخل مراكز التحقيق ووضع كاميرات مراقبة إلى حين إصدار قانون يسمح للمحامي بحضور التحقيقات ومراقبة سوق المساجين ضمن أوقاتهم وعدم المماطلة بالأحكام والتحقيقات وكذلك إعادة النظر بالسجون وتأمين الموارد اللازمة لبناء سجون”. كما طالبت بـ “فصل الأحداث عن سجن رومية” لافتة إلى أن الأحداث “لا يتم إكمال تعليمهم وهم يتعرضون للخطر” بوجودهم إلى جانب باقي المجرمين.
ورد وزير العدل معتبراً أن في كلام الطبش “مبالغة” وأن”وزارة العدل تقوم بواجباتها في هذا الموضوع قدر الإمكان”. وقال: “لدينا إدارة للسجون في وزارة العدل، على رأسها قاض يرفع تقارير عن وضع السجناء ووزارة العدل بالمقابل تتعاون مع عدد كبير من هيئات المجتمع المدني وحقوق الانسان وتتكلّف أموالا من أجل هذا التعاون”. وهنا أيضا، جاء جواب الوزير خالياً من أي أرقام، حيث ذكر التقارير من دون ذكر فحواها أو حتى الإعلان عن استعداده لوضع هذه التقارير في متناول من يرغب. وهنا أيضا لم يتوانَ سرحان عن تمييع المسؤوليات وفي الغالب رمي مسؤولية تأخير المحاكمات في وجه الآخرين، حيث قال: “لا يمكن تحميل القضاة وحدهم نتيجة التماهل في إنجاز التحقيقات. لدينا أسباب كثيرة من قبل المحامين والمتقاضين، وهم لديهم وسائلهم في إطالة أمد التحقيقات. على سبيل المثال، يجري تعليم المتقاضين تغيير محاميهم أربع أو خمس مرات لإطالة أمد المحاكمات وأحيانا الموقوفون أنفسهم يمتنعون عن التوجه لحضور جلسات التحقيق. وهناك أيضا التبليغات والآن سنعمل على إدخال تعديلات على قانون أصول المحاكمات”.
الأكثر غرابة هو جوابه بخصوص تحسين أوضاع السجون. فبدل أن يعلن رغبته في المطالبة بزيادة موازنة لبناء السجون، لفت إلى أنه يعرض الأمر على كل سفير يلتقي به.
من جهته، تحدث وزير الدفاع الياس بو صعب عن الشق المتعلق بالمحكمة العسكرية وقال: “المادة 6 من قانون القضاء العسكري تنص على أنه يوجد هيئتان للمحكمة العسكرية: هيئة تنظر بالأمور والدعاوى الجنائية وهيئة تنظر بالدعاوى الجنحية. ولكن تبين لنا أن هناك هيئة واحدة تعمل منذ نشاة المحكمة العسكرية فيما نحن مصرون على تطبيق القانون. إذا قمنا بهذا الأمر، سنقوم بتسريع المحاكمات. وهذا ما سنسير به”.
مقالات ذات صلة: