الجامعة اللبنانية من خلال مطالب أساتذتها: قراءة أولية


2019-08-01    |   

الجامعة اللبنانية من خلال مطالب أساتذتها: قراءة أولية

بلغ حراك الجامعة اللبنانية هذا العام ذروته حين رفعت رابطة الأساتذة المتفرغين لائحة إلى وزير التربية في 7 حزيران 2019 تتضمن 14 مطلبا تعني قضايا المتفرغين والمتقاعدين والمتعاقدين، كما الطلاب والجامعة بشكل عام. وتأتي هذه الخطوة في سياق تاريخ حافل بالتحركات المطلبية منذ تأسيس الجامعة عام 1951[1]، إذ أن المطالب المرفوعة اليوم لا يمكن حصرها بردة فعل على سياسات التقشف الحالية التي تطال القطاع العام، بل من المفيد قراءتها عبر بُعدها التاريخي الأطول. فدراسة عملية إنتاج مطالب اليوم والتحولات التي طالت مضمونها عبر الزمن، كما سنفعل في هذا المقال، قد تسمح لنا بتشخيص نقاط ضعف والإضاءة على فرص جديدة لحراكات الجامعة اللبنانية.

ومن هنا نسأل: كيف تغيّرت عملية إنتاج مطالب الجامعة خلال أكثر من نصف قرن من الحراكات؟ من طالب بماذا وكيف؟ وماذا تعلمنا قراءة مطالب حراك عام 2019 بخصوص مسار حراكات الجامعة اليوم وفي المستقبل؟

1- من ينتج ويحمل مطالب الجامعة اللبنانية؟ من الطلاب إلى الأساتذة

عند إنشاء الجامعة وفي العقود التالية، احتلت الحركات الطلابية الصدارة في إنتاج المطالب المتعلقة بالجامعة وهيئاتها الطلابية والتعليمية. إلا أن الحرب اللبنانية (1975-1990) وآثارها أتت لتفكّك المحرّك الطلابي وتعطّله، تاركةً رابطة الأساتذة المتفرغين في الواجهة لتصبح المُنتِج الأساسي لمطالب الجامعة ما بعد الحرب، الأمر الذي غيّر ملامح حراكات الجامعة كما سنرى. ففي فترة الخمسينيات والستينيات، كانت معظم المطالب المتعلقة بالجامعة تصدر عن “رابطة تتكلم باسمهم (أي الطلاب) مع المسؤولين”، وكانت أُنشئت في عام 1952 وتكوّنت من 12 عضواً من مختلف الفروع (الفرع الأدبي، الفرع العلمي، والفرع الفني).[2] ومع توسّع الجامعة، أُنشئت عدّة روابط طلابية مُنتخبة تمثل الكليات المختلفة، نظّمت نفسها في عام 1971 من ضمن نقابة إلزامية لطلاب الجامعة سمّيت اتحاد طلاب الجامعة اللبنانية.[3] خلال هذه الفترة، كانت المطالب تعني الطلاب مباشرةّ (زيادة المنح التعليمية، إشراك الطلاب في مجالس إدارات الكليات، إلغاء الرسوم، تقوية الكادر التعليمي…) أو الجامعة ككل (بناء مدينة جامعية، استحداث كليات جديدة، استقلال الجامعة الإداري والمالي…)، [4] وحتى الأساتذة (قضية التفرغ ودخول الملاك).[5]

كما أنه مع انضمام طلاب الجامعة اللبنانية إلى الاتحاد الوطني للطلاب الجامعيين في لبنان (وهو اتحاد نشأ عام 1961 ليمثل طلاب الجامعات اللبنانية كافة)، تم تحريك مطالب جديدة على مستوى التعليم العالي في لبنان.[6] أما حراكات الأساتذة المطلبية، فكانت أضعف وأكثر خجلا من حراكات الطلبة آنذاك، وكانت تعتمد عليها بشكل كبير، كما هو حال تحرك عام 1965 مثلا، عندما دعم الطلاب إضراب الأساتذة عبر إعلان إضراب مؤيّد رافقه تصعيد تجلّى بالإعتصام والتظاهر (حتى أن طلاب الجامعة اليسوعية أضربوا ليوم واحد دعما لأساتذة اللبنانية).[7] وظلّ تنظيم الأساتذة فضفاضا وغير واضح طوال هذه الفترة (كما نرى عام 1968عندما تشكلت “لجان” لإدارة إضراب ذلك العام)[8]، ما يؤكد طغيان دور الطلاب على الأساتذة، الذين كان دورهم يقتصر غالبا قبل الحرب على دعم الحركات الطلابية ومطالبها[9].

وتمكنت حراكات الجامعة اللبنانيّة (لا سيما الحراكات الطلابية) قبل 1975 من تحقيق العديد من مطالبها عبر وسائل متنوعة كالاعتصامات والإضرابات وإذاعة البيانات، وحتى عبر الإضراب عن الطعام (1953) أو إحتلال كليات (1974).[10] ومن هذه الإنجازات، إنشاء كلية الحقوق عام 1959، صدور مرسوم شراء أرض مخصصة لبناء المدينة الجامعية (23 آذار 1965)، صدور مرسوم إنشاء كليتي الهندسة والزراعة (1974)، صدور قانون 6/70 تنظيم عمل الأساتذة المعروف بقانون التفرغ (23 شباط 1970) واستكمال باقي نصوص الجامعة اللبنانية.[11]

قضى تفريع الجامعة عام 1977 وهيمنة القوى الحزبية خلال الحرب على الحركة الطلابية. وقد جرّد المرسوم 115/1977 اتحاد طلاب الجامعة اللبنانية، الذي كان له تمثيل وصوت في معظم اجتماعات وقضايا مجلس الجامعة، من معظم صلاحياته[12]. وشُلّت أعمال الاتحاد خلال الحرب[13]، فأصبحت المجالس الطلابية ذراعاً للأحزاب السياسية تدافع عن حقوق الطلاب المنتسبين إليها، وطغت الهوية الحزبية وانعدم الانخراط بين الكليات وحتّى ضمن الكلية نفسها، ما أضعف امكانية التحرك. وأدت هذه العوامل إلى تراجع الدور المطلبي لطلاب الجامعة، ما ترك للأساتذة الدور الرئيسي في حمل مطالب الجامعة بعد الحرب.

وقد شهدت الجامعة بعد العام 1990، استقرارا لدور الأساتذة المتفرغين، في إطار رابطتهم بعد تأسيسها عام 1975، والتي “شهدت انتظاماً في إنتاج هيئاتها وكانت الفاعل الأساسي بينهم”.[14] بحسب نظامها الداخلي، تأسست رابطة الأساتذة المتفرغين في الجامعة اللبنانية بغاية “تدعيم الجامعة اللبنانية وذلك بالسعي لرفع مستواها وتقوية دورها الطليعي في التعليم والبحث العلمي” و”الدفاع عن مصلحة الأستاذ في الجامعة اللبنانية من جميع الوجوه ورفع مكانته ماديّاً ومعنويّاً”.[15] وتحركت الرابطة لنيل مطالب معيشية من جهة ومطالب مؤسساتية من جهة أخرى، في ظل غياب ملحوظ للحراك الطلابي المطلبي.

نجح أساتذة هذه الحقبة في إنشاء صندوق التعاضد (1994)، وبالضغط لإقرار سلسلة الرتب والرواتب (1995 و2011)، ودخول أساتذة إلى الملاك وتفرغ، وزيادة موازنة الجامعة (2001).[16] ونلاحظ أن معظم المطالب التي حقّقتها الرابطة هي معيشية (رواتب، صندوق تعاضد…) أو تخصّ الجامعة (دخول أساتذة إلى الملاك وتفرغ)، مع غياب المطالب التي تعني الطلاب أو حتى استقلالية الجامعة.

وفي الخلاصة، نرى أن انتقال شعلة مطالب الجامعة من الطلاب قبل الحرب إلى الأساتذة من بعدها قد تزامن مع تغيير مهم في نوعية هذه المطالب. فكانت تعني بشكل أساسي تقوية الجامعة (كليات، نصوص وأبنية) وإصلاحها مع الحراكات الطلابية، لتصبح بعد الحرب مطالب معظمها معيشية مع الرابطة، وإن غُلِّفت دائما بخطاب مؤسساتي يعطي مشروعية لحراكات الأساتذة.[17]

2- حراك 2019: مطالب قديمة، إئتلافات جديدة  

رافق تغير الجهة المنتجة للمطالب الأساسية بعد انتهاء الحرب تبدّل في مضمون وأولويات المطالب ومقاربتها. إلا أن اللافت في حراك عام 2019 هو انضمام مبادرات وأندية طلابية لدعم أساتذتهم وجامعتهم بشكل غير مألوف في الفترة الأخيرة، حاملين أيضا مطالبهم الخاصة، ما تجلّى في اللائحة الرسمية التي رفعتها رابطة المتفرغين لوزير التربية. فما هي المواضيع التي احتلّت الصدارة في مطالب الحراك هذا العام؟ وماذا تعكس بما يخص الحراكات المطلبية في الجامعة اللبنانية؟ لدى دراسة المطالب تبرز أربعة محاور أساسية.

3- مطالب معيشية دائما في الواجهة

في المراحل الأولى للإضراب المفتوح، اقتصرت معظم مطالب رابطة الأساتذة (مطلبان من ثلاثة) على قضايا معيشية: الحصول على الثلاث درجات التي أُعطيت للقضاة عام 2018 وزيادة الخمس سنوات لدى احتساب المعاش التقاعدي.[18] ومع المستجدات المتعلقة بموازنة 2019، ازدادت مكانة المطالب المعيشية، لا سيما فيما يخص رفض المسّ بصندوق التعاضد “العزيز على قلبهم”[19] والتخفيض من تقديماته – وهو ما أصبح أحد المطالب الرئيسية التي يتم ذكرها في المقابلات الإعلامية والاعتصامات – بالإضافة إلى مطالب أخرى ترفض التقشف الذي يطال المعاش التقاعدي بأشكال مختلفة (من كيفية احتسابه إلى إلغاء بعض الميّزات المتعلقة به).[20]

وأظهرت مقابلاتنا مع أساتذة متفرغين كيف أن المسّ بالقضايا المعيشية يُعتَبَر من قبلهم مساّ بكرامة الأستاذ الجامعيّ، وهو ما شكّل أحد أهمّ الدوافع الذي دفع الأساتذة، حتى غير المسيّسين منهم، لتأييد الإضراب والحراك. وتأكيدا على ذلك، يعتبر د. عدنان الأمين (أستاذ متقاعد وخبير تربوي) في مقابلة مع “المفكرة” أن همّ الأساتذة الأكبر هو المسّ بحقوقهم المعيشية، وهو ما يزال بنظره الدافع الأساسي للتحرك.[21] ويفسّر بعض الأساتذة الذين قابلناهم طغيان المطالب المعيشية عبر الرجوع إلى التحولات التي طالت سبل التفرغ في الجامعة اللبنانية. فيمكن التمييز هنا بين فئتين من الأساتذة المتفرغين: الذين تفرغوا بفضل مرجعياتهم الحزبية فقط وليس كفاءتهم، والذين لديهم الكفاءة ولكن اضطروا إلى اللجوء لأحزاب بسبب احتكارها عملية التفرغ في العقدين الأخيرين[22]: فيطغى بالتالي الاهتمام بالمطالب المعيشية على الاهتمام بالمطالب الأخرى عند أساتذة الفئة الأولى.[23]

وتتفق بشكل عام هيئات الرابطة بين مختلف العهود بعد 1990 على المطالب المعيشية[24]. إلا أن آخر حراك قد تميز بمشاركة الطلاب (المعنيين بالحراك منهم) الفعالة في حمل مطالب أساتذتهم المعيشية، ما يشكل استثناء في حقبة بعد الحرب. فورد مثلا مطلب “إعطاء الأساتذة حقوقهم” في لائحة تكتل الطلاب[25] والأندية المستقلة، كدليل على تبلور العلاقة بينهم وبين الأساتذة من جهة وعلى اعتبار الطلاب حقوق أساتذتهم المعيشية كحقوق غير مباشرة لهم.

4- المطالب المؤسساتية: ستار يؤمّن مشروعية المطالب المعيشية؟

في سياق حراك عام 2019، برز مطلب أساسي وهو وجوب زيادة موازنة الجامعة، في موازاة الاحتجاج على تخفيضها. وقد ورد على لوائح مطالب الرابطة والأندية الطلابية وعلى يافطات وشعارات الاعتصامات. ويأتي هذا التخفيض بعد تاريخ طويل من اعتماد سياسة قضم إمكانيات الجامعة: فقد تم “تشحيل” حوالي 210 مليار ليرة من موازنة الجامعة فقط بين عام 2005 و2014[26]، قبل أن يزيد المبلغ المقضوم من موازنة الجامعة في السنوات اللاحقة. من جهة الأساتذة، يعبّر رفض المسّ بالميزانية عن شعور لديهم بأن “طفح الكيل”  من تعامل السلطة معهم وفشلها بشكل عام في تأمين استقرار مادي ومعنوي للجامعة. فقد أكد أساتذة متفرغون (حزبيون وغير حزبيين) ل “المفكرة” أنهم يعتبرون عجز موازنة الدولة ناتجا عن سوء الإدارة من قبل السلطة وفسادها، فلا يجوز أن يُسدّ عبر الجامعة اللبنانية ولكن عبر محاربة الفساد.

وقد شكّل تخفيض الموازنة، بالنسبة للطلاب الذين انضمّوا إلى الحراك، الدافع الأساسي للتحرّك للدفاع عن جامعتهم التي بات “مصيرها بخطر”.[27] خلال اعتصاماتهم، رفع وهتف هؤلاء شعاراتٍ أكثر جرأة من شعارات أساتذتهم، بحيث عبّروا عما عبّره الأساتذة في المقابلات عن الفساد ولكن بأصوات عالية وعلى يافطاتهم بالعلن. فرُفِعَت شعارات ك ـميزانية الجامعة اللبنانية 250 مليون دولار، ميزانية جمعيات زوجات السياسيين 500 مليون دولار”، وإذا ابنك بالـسوربون في 80 ألف طالب في الجامعة اللبنانية، وأيها المسؤولون، الإصلاح يبدأ بالتقشف من مخصصاتكم”. كما هتف مئات الطلاب المتظاهرين في ساحة رياض الصلح بأصوات عالية “عجز الدولة ما بينسد من الجامعة اللبنانية، روحو جيبو المصاري من جيوب الحرامية” و”لقينا الحل، سلطة تنحل” و”وقفو عند حدكن، نحن كلنا ضدكن”.

بالعودة إلى مطالب الأساتذة، يُلحظ أن لائحة حراك 2019 استعادت مطلبين قديمين هما مطلب تفريغ الأساتذة المتعاقدين الذين يستوفون شروط التفرّغ وإدخال المتفرّغين منهم إلى الملاك[28]. وقد شدّد الأساتذة على أهمية الملاك والتفرغ لضمان الاستمرارية الأكاديمية للجامعة التي تشهد تفريغا لملاكها بحيث يقلّ عدد الأساتذة فيه مع تقاعدهم وقلّة دخول أساتذة جدد إليه.[29]  كما طالبت الرابطة بـ” إعادة النظر بأوضاع الموظفين والمدربين”[30] الذين كانت قضاياهم غائبة عن برامج الرابطة منذ 2008.[31] وفيما لم يتمّ التركيز بشكل خاص على هذا المطلب خلال المقابلات والمؤتمرات، والاعتصامات، إلا أن وجوده على لائحة مطالب الرابطة يضفي شرعية عليه، إذ يُظهر أن الحراك أصبح يشمل مختلف الفئات المعنية في الجامعة كمؤسسة للجميع، ما يوسّع دائرة التعاطف معه. ولا ننسى أن الإضراب ما كان لينجح لولا مشاركة المتعاقدين فيه بفعل ارتفاع أعدادهم.

الطلاب ومطالبهم: الحياة في الجامعة

في ظلّ الإضراب المفتوح وتوتّر علاقة بعض الطلاب مع الأساتذة بفعل توقف الدروس، ظهر “تكتل طلاب الجامعة اللبنانية” المستقل، وهي مبادرة طلابية ترفض مقاربة الطلاب الحزبيين ضد إضراب أساتذتهم، وتعرض مقاربة جديدة للموضوع: وجوب دعم الأساتذة لنيل مطالبهم من السلطة كوسيلة لإنهاء الإضراب والاستفادة من فرصة الإضراب لنيل مطالب طلّابية متراكمة وقديمة.[32]  كما انضمّت الأندية المستقلة لتلقي الضوء على حاجات طلابية تتجاوز قضية الموازنة والتقشّف لتشمل مسائل تخصّ الحياة الطلابية والمساحات العامة التي تقتضيها هذه الحياة. ومن أهمّ هذه المطالب إعادة العمل بالإنتخابات الطلابية التي عُلّقت منذ عام 2008 لأسباب “أمنية” ولم تعد للحياة حتى اليوم، الأمر الذي أعدم الحياة الديمقراطية إذ أصبحت قيادة المجالس الطلابية تُنقل بالوراثة الحزبية دون أي آلية ديمقراطية تمثّل رأي الطلاب.[33]

كما تم التركيز على الحاجة لمساحات مشتركة للطلاب في المجمّعات والكليات، لا سيما مطاعم وكافيتريات، حيث لا يوجد أي منها الآن في مجمع ضخم كمجمع الحدث. وقد ساهم غياب المساحات المشتركة في عرقلة اندماج الطلاب وانخراطهم.[34]

وقد ورد مطلبا إحياء الإنتخابات الطلابية وإنشاء مساحات مشتركة ليس فقط في لوائح الطلاب بل أيضاً في لائحة الرابطة المرفوعة لوزير التربية، وهو دليل إضافي على تميّز حراك 2019 عن الحراكات التي سبقته في السنوات الأخيرة. ولكن لم يخلُ هذا التضامن الظاهر بين الهيئات التعليمية والطلابية من قلق ظهر في صفوف الطلاب بأن الأساتذة سيفكّون الإضراب في حال تم تحقيق المطالب الّتي تخصّهم فقط، ويتخلّون بالتالي عن مطالب الطلاب الذين دعموهم. وكمحاولة لطمأنة الطلاب، أدرجت الهيئة التنفيذية للرابطة الأربعة عشر مطلبا دون أي تصنيف أو أولوية، ولكن ذلك لم يكفِ لتبديد المخاوف الطلابية.

5- أين مطلب استقلالية الجامعة اللبنانية؟

بالإضافة إلى سعي أحزاب السلطة لإحكام قبضتهم على رابطة الأساتذة والمجالس الطلابية منذ فترة الحرب، صدر القرار رقم 42 تاريخ 19/3/1997 الذي يقضي بوضع صلاحية إقرار التعاقد للتدريس في الجامعة اللبنانية بيد مجلس الوزراء.[35] فأصبح تعيين الأساتذة مرتبطا باللعبة السياسية.[36] ومع اندلاع حراك الجامعة اللبنانية الأخير، احتلّ موضوع استقلالية الجامعة قلب النقاش في صفوف الأساتذة والطلاب. وتجلّت مركزية الموضوع بندوات طلّابية عن استقلالية الجامعة، كما برزت أهمية استقلالية عملية التفرغ ودخول الملاك خلال مقابلاتنا مع الأساتذة، بالإضافة لشعارات طلابية كـ “ميزانية، استقلالية، جامعة وطنية”، ويافطات حملها المتفرغون كـ “جامعتنا صرح أكاديمي وليست حقيبة وزارية”.

قضية استقلالية الجامعة ليست جديدة على رابطة المتفرّغين، فجميع بياناتها في السابق شدّدت على الموضوع بشكل عام، لكن دون إيراد مطلب إلغاء القرار رقم 42 لاسترداد سيادة الجامعة على قراراتها على لائحة المطالب (حتى لائحة 2019)، كما لم يُعلَن أي إضراب أبداً لتحقيق هذا المطلب بالذات، ما يطرح أسئلة بشأن مدى مصداقية هذا المطلب من ضمن أولويات الأساتذة.[37] وبحسب د. عدنان الأمين، فإن لبعض لأساتذة مصالح في النظام الحالي حيث لا استقلالية للجامعة، وهو ما يفسّر غياب أي جهود جدّية لنيل هذه الاستقلالية. فيبقى مفهوم الاستقلالية وجدانيا وخطابيا من دون أي خطوات عملية مقترحة حول حوكمة الجامعة.[38] كما أنّ لدى العديد من الأساتذة (وحتى الطلاب) مفهوم ضبابي للاستقلالية إذ يخلطون بين الاستقلالية والإنفصال، بينما الاستقلال لا يعني الانفصال بل الحكم الذاتي الذي يرتكز على المساءلة والمحاسبة.[39]

أمّا الطلّاب المشاركون بالحراك، فلم يتردّدوا بالتعبير عن مطلب استقلالية الجامعة الأكاديمي والمالي والإداري والتشديد عليه في لوائح مطالبهم. كما كان هؤلاء الطلاب يسعون بنشاط لتحسين معرفتهم حول هذا الموضوع. ومثال على ذلك، ندوة نظّمها نادي سما في مجمّع الحدث بتاريخ 11/6/2019 حيث دعوا الأستاذة وتحديدا الأستاذة الجامعية د. وفاء نون لتتحدّث عن مفهوم استقلالية الجامعة وتجلّيها في النطاق الأكاديمي والإداري والمالي.

وبعد مرور عقود على حراكات رابطة المتفرغين بعد 1990، والتي ارتكزت على مطالب تخصّ أساتذتها مباشرةً، أتى حراك عام 2019 ليعيد إنعاش صورة الرابطة كمنظمة تقوّي مؤسسة الجامعة ككلّ، وذلك مع توسّع نطاق مطالبها وانضمام طلاب إلى حراكها ورفع مطالبهم إلى وزير التربية.

وقد ولّدت مشاركة الطلاب بالحراك نقطة تحول في عملية إنتاج المطالب بعد غياب طويل لهم في فترة ما بعد الحرب، وقد تشكّل هذه المشاركة محفزاً لرفع سقف المطالب المطروحة حول الجامعة مستقبلا. فهل يكون بروز بوادر حراك طلابي إلى جانب الأساتذة عام 2019 وتطوره مؤشرا لنشوء جبهة مطلبية تتخطى المطالب المعيشية المباشرة لتحمل مشروعا وطنيا للجامعة اللبنانية، كما كان يحصل أحيانا في الخمسينيات والستينيات؟ أم أن هذه المشاركة الطلابية تبقى محدودة غير مؤثرة وربما آنية تنتهي صلاحيتها مع العهد الحالي للرابطة لنعود تدريجيا إلى زمن التشتت المطلبي وانحصار المطالب بهموم معيشية بشكل لا يوقف عملية انهيار الجامعة اللبنانية؟ الجواب الوحيد المتوفر حاليا هو أن الأزمة المالية قد تفتح آفاقا جديدة للحراكات الاجتماعية والمطلبية في لبنان، لا نعرف بعد إن كان النظام السياسي الحالي قادرا على استيعابها بأساليبه التقليدية.

 


[1] إميل شاهين، الجامعة اللبنانية ثمرة نضال الطلاب والأساتذة (دار الفرابي، 2011)

[2] المرجع المذكور أعلاه، ص 62

[3] عماد الزغبي، الحركة الطلابية في لبنان، 50 عاماً من النضال (مؤسسة دار الكتاب الحديث، 2002)

[4] إميل شاهين، الجامعة اللبنانية ثمرة نضال الطلاب والأساتذة (دار الفرابي، 2011)، ص 65، 139، 140

[5] فارس اشتي، التشكّل النقابي لأساتذة الجامعة اللبنانية. حدود الربط والحل (مكتبة بيسان، 2018)، ص 70

[6] المرجع المذكور أعلاه، ص 114، 130

[7] المرجع المذكور أعلاه، ص 70، 73

[8] فارس اشتي، التشكّل النقابي لأساتذة الجامعة اللبنانية. حدود الربط والحل (مكتبة بيسان، 2018)

[9] المرجع المذكور أعلاه

[10] المرجع المذكور أعلاه

[11] فارس اشتي، التشكّل النقابي لأساتذة الجامعة اللبنانية. حدود الربط والحل (مكتبة بيسان، 2018)

[12] مُنع ممثّلو اتّحاد الطلاب حضور المجلس عند مناقشة بعض البنود المتصلة بالامتحانات أو بأعمال المجلس كمجلس تأديبي للهيئة التعليمية و حُصرت مشاركتهم في التصويت على بعض البنود، غالبها يتصل بحقوق الطلبة كالنشاطات الثقافية والرياضية والترفيهية والطبابة والمنح فيما لا يكون لهم فيما عدا ذلك الا دور استشاريّ فلا يشاركون في التصويت

[13] عماد الزغبي، الحركة الطلابية في لبنان، 50 عاماً من النضال (مؤسسة دار الكتاب الحديث، 2002)

[14] المرجع المذكور أعلاه، ص 235

[15] فارس اشتي، التشكّل النقابي لأساتذة الجامعة اللبنانية حدود الربط والحل (مكتبة بيسان، 2018)، ص 8

[16] المرجع المذكور أعلاه

[17] د. وفاء نون (استاذة متفرغة وناشطة)، مقابلة مع المفكرة القانونية، 10/7/2019

[18] بيان صادر عن الهيئة التنفيذية لرابطة الأساتذة المتفرغين في الجامعة اللبنانية، بيروت في 27/5/2019

[19] د. يوسف ضاهر (رئيس الهيئة التنفيذية لرابطة الأساتذة المتفرغين في الجامعة اللبنانية) خلال مؤتمر صحافي، 31/5/2019

[20] لائحة المطالب المقدمة من الهيئة التنفيذية لرابطة الأساتذة المتفرغين في الجامعة اللبنانية لوزير التربية الأستاذ أكرم شهيب,بيروت في 7/6/2019

[21] د. عدنان الأمين، مقابلة مع المفكرة القانونية, 10/6/2019

[22] د. وفاء نون (استاذة متفرغة وناشطة), مقابلة مع المفكرة القانونية, 12/6/2019

[23] د. وفاء نون (استاذة متفرغة وناشطة), مقابلة مع المفكرة القانونية, 12/6/2019

[24] [24] فارس اشتي، التشكّل النقابي لأساتذة الجامعة اللبنانية حدود الربط والحل (مكتبة بيسان، 2018)، ص 181

[25] ظهر “تكتل طلاب الجامعة اللبنانية” المستقل كمبادرة من طلابية تهدف إلى معارضة مقاربة الطلاب للإضراب ضد أساتذتهم وعرض مقاربة جديدة وهي الوقوف ضد السلطة وليست الأساتذة. أهداف التكتل المستقل رفض تخفيض موازنة الجامعة واغتنام فرصة الإضراب لنيل مطالب طلّابية

[26] حسين مهدي، “الدولة تخنق جامعتها “الوطنية””، الأخبار، 5 آب 2015

[27] طالبة مشاركة في اعتصام أمام الإدارة المركزيىة للجامعة اللبنانية، مقابلة مع المفكرة القانونية, 20/6/2019

[28] بعد التفرغ يخضع الأساتذة لـ”التعاقد بالتفرغ”، فعدم إدخالهم إلى الملاك يعني أن عقودهم تتجدد سنوياً فيُحرمون من الأمان الوظيفي، ما يجعل أوضاعهم هشة وضمن استمرار حاجتهم للأحزاب ودعمها.

[29] د.  بشير عصمت (استاذ متفرغ وعضو في الهيئة التنفيذية لرابطة الأساتذة المتفرغين في الجامعة اللبنانية)، مقابلة مع المفكرة القانونية، 10 تموز 2019

[30] المرجع المذكور أعلاه

[31] فارس اشتي، التشكّل النقابي لأساتذة الجامعة اللبنانية حدود الربط والحل (مكتبة بيسان، 2018)

[32] ربيع شمص (عضو مؤسس لتكتل طلاب الجامعة اللبنانية), مقابلة مع المفكرة القانونية, 12 حزيران 2019

[33] طالب في الجامعة، مقابلة مع المفكرة القانونية، 4/7/2019

[34] طالب في الجامعة، مقابلة مع المفكرة القانونية، 4/7/201918

[35] عدنان الأمين، “الجامعة اللبنانية والسياسة من فوق ومن تحت”، النهار،  22 و 25 أيلول 2018 

[36] المرجع المذكور أعلاه

[37] المرجع المذكور أعلاه

[38] عدنان الأمين (خبير تربوي وأستاذ متقاعد)، مقابلة مع المفكرة القانونية،10/6/2019

[39] أستاذ متفرغ، مقلبلة مع المفكرة القانونية، 11/6/2019

انشر المقال

متوفر من خلال:

لبنان ، مقالات ، حراكات اجتماعية ، حقوق العمال والنقابات



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني