إنتشار الإرهاب وضرورة محاربته هي الحجة المحورية التي تبرر من خلالها الدولة اللبنانية رفضها إجراء أي تعديل أساسي على اختصاص المحكمة العسكرية. في هذا المجال مثلاً، صرح الوفد الرسمي الذي مثّل الدولة اللبنانية أمام لجنة مناهضة التعذيب في الأمم المتحدة شهر نيسان الفائت أن “عدم حل المحكمة العسكرية في لبنان مرتبط بوجود ظروف إستثنائية” واعداً بـ “حلها فور انتهاء هذه الظروف”. وفيما تعدّ المحاكم الإستثنائية غطاءً مثالياً لمنهجة التعذيب ضد الفئات التي تحاكمها، لا سيما في ظل غياب ضمانات المحاكمة العادلة أمامها، إلا أن هذا الأمر، معزز في الحالة اللبنانية، بتصاعد موجة واسعة من إدعاءات التعرض للتعذيب بين الإسلاميين والمتهمين بالإرهاب.
مؤخراً، في 17 آب 2017، خضع “إقتراح القانون الرامي إلى معاقبة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية” لنقاش أولي من قبل الهيئة العامة لمجلس النواب. ويمكن تلخيص أبرز ما جاء في هذاالنقاش بنقطتين: رفض مساءلة العسكريين أمام القضاء العدلي، وما قد يستتبعه ذلك من إلغاء للمحكم العسكرية هذا من جهة، ومن جهة ثانية تبنّي التعذيب على أنه وسيلة لحماية الأمن الوطني لا سيما في قضايا العمالة والإرهاب. وقد تم إقرار اقترح القانون فيما بعد بتاريخ … بعد حذف المادة التي تحيل النظر في قضايا التعذيب للمحاكم العدلية حصرا.
وتعزز هذه النقاشات الاعتقاد بوجود تعذيب ممنهج يستخدم على المتهمين في قضايا الإرهاب بغطاء من المحكمة العسكرية. وعن هذه الظاهرة، استمعت المفكرة إلى ثلاث محاميات (نستعيض عن أسمائهن بأحرف “أ” و”ب” و “ج”) موكلات للدفاع عن أشخاص متهمين بجرائم متصلة بالإرهاب، يطرحن ملاحظاتهن حول مجريات المحاكمات في هذا السياق. ويبرز في شهادات المحاميات ثلاثة عناوين أساسية: تهمة الإرهاب أمام المحكمة العسكرية تتوسع بشكل تعسفي وتحمل بعداً سياسياً، المحكمة غير معنية بظاهرة تراجع الجميع عن إفادتهم الأولية وإدعائهم إنتزاعها منهم تحت التعذيب، وأخيرا، مجال التقض عن طريق التمييز مقفل. ونسارع إلى تنبيه القارئ إلى أن تصريحات المحامين صادرة بالضرورة عن أشخاص يتولون الدفاع عن متهمين بالإرهاب وغير محايدين بالمعنى الموضوعي للكلمة.
من هو الإرهابي؟
مسألة التوسع في تطبيق تهمة الإرهاب، يشكل المأخذ الأساسي المشترك بين المحاميات. وترد “أ” ذلك الى إعتبارات سياسية وسيطرة جهة حزبية على إتجاه القضاء العسكري في هذا المجال. أما “ب” و”ج” فتجدان أن السبب وراء ذلك هو وجود إتجاه عام يرى أن الوضع العام أمني، ما يؤدي إلى التشدد في موضوع الإرهاب. وهو ما تعبر عنه “ب” مثلاً بالقول أن “لكل زمن جريمة يتشدد القضاء في التعامل معها، والآن نحن في زمن جريمة الإرهاب”. وعليه، لا تعود تهمة الإرهاب قائمة على توفر عناصر جرمية واضحة وأدلة ثابتة. بل على نقيض ذلك، هي تهمة فضفاضة يمكن أن يتحملها أي شخص إلى حين إثبات العكس. في هذا السياق، توضح “ب”، أن “قاضي التحقيق يتهم أحياناً شخصا يقوم بتجارة السلاح بالإرهاب، أو مثلاً في الملفات التي يتعدد فيها المتهمون لا يفصل كل واحد بينهم ما هي تهمته، حتى أن القاضي يتهم أحياناً شخصا بالإرهاب لمجرد دخوله خلسةً الى لبنان”.
في ظل هذا الواقع، طرحت “أ” على المحكمة العسكرية مسألة تحديد من هو الإرهابي. وقد جاءها الجواب مفاجئاً: “نريد منكم أن تساعدونا لأننا لا نملك تعريفا”. توضح “أ” خلال حديثها مع “المفكرة” أنها أرادت من سؤالها أن تدفع المحكمة لتوضح لماذا الإرهابيون “هم الأشخاص المعارضون للنظام السوري؟”. تضيف “أ” أن المحكمة العسكرية “تفرض اختصاصها على جرائم وقعت داخل سوريا مرتبطة بالنزاع المسلح المستمر هناك، وذلك من خلال تفسير نصوص القانون خلافاً لمضمونها”. باالتالي، وبالإستناد إلى واقع وجود “نزاع مسلح في سوريا، لا تعود المحاكم اللبناني مختصة في أن تحاسب أي شخص على خلفية حمله سلاحا غير مرخص به هناك، إلا في حال تبين أنه يهدد أمن الدولة اللبنانية، ولكن أين يثبت القضاء اللبناني هذا الأمر؟”.
في نفس الإتجاه، تقول “ج” أن أحد موكليها “ألقي القبض عليه في عرسال على خلفية وجود كيس بطاطا وعدة أكياس حفاضات للأطفال، فإتهم بتقديم دعم لوجستي للإرهاب من قبل قاضي التحقيق”. كذا يتم الإدعاء على بعض الأشخاص بتهمة تمويل الإرهاب على خلفية “تحويل أموال بمبالغ بسيطة إلى عائلاتهم في سوريا، في حال كان أحد أفراد العائلة ينتمي إلى تنظيم مسلح أو كانت العائلة مقيمة في منطقة خاضعة لغير النظام”. كذلك الأمر، يكفي وفقاً لـ “ج” أن يتم التواصل مع “رقم مشبوه” حتى يتم إستدعاء الآخر أمام العسكرية”.
يظهر من شهادات المحاميات أن قاضي التحقيق العسكري يتجه بشكل مستمر ومتشدد إلى توجيه تهم الإرهاب. أما بالنسبة للمحكمة، فالإفلات من التهمة محتمل في بعض الحالات المبالغ بها إلى حد لا يمكن إغفاله، مثل تهمة الدعم اللوجستي سابقة الذكر. أما المتهمون بالإرهاب على خلفية انتمائهم للجيش الحر أو تجاراتهم للسلاح، فتتفاوت الأحكام، وفقاً للمحاميات، بين تبرئة موكليهم أو الإكتفاء بمدة توقيفهم، أو اعتبارهم إرهابيين.
لهذه الجهة، تتوجس المحاميات من كون المحاكمات أمام العسكرية في هذا المجال هي ذات وجه سياسي. تعبر عن رأيها في هذا المجال بوضوح: “أنا لست ضد أن تضرب الدولة اللبنانية بيد من حديد لمكافحة الإرهاب، ولكن بعد أن تحدد من هو الإرهابي. لذا إنطباعي أنه يوجد تسييس حقيقي للملاحقة الجزائية بتهم الإرهاب في لبنان”. أما “ب” فتقول ” إن القانون يلزم المحاكم اللبنانية بمحاكمة المنضمين إلى تنظيمات مصنفة دولياً أنها إرهابية، مثلاً النصرة وداعش والفصائل المنضمة إليهما. بالمقابل الجيش الحر ليسن مصنفا دولياً إرهابيا، إلا أن أحكاماً عديدة صدرت بوجه منتمين إليه بالإرهاب على خلفية إنتمائهم. وهنا أقول أنه بالسياسة يمكن محاكمة الجيش الحر، ولكن بالقانون لا يمكن ذلك. وبالطبع، مقاربة حزب الله المشارك في حرب سوريا تبقى مقاربة له على أساس أنه مقاومة”.
في مطلق الأحوال، فإن صحة الإدعاء والحيثيات التي تصل إلى المحكمة هي بحد ذاتها محل تشكيك بالنسبة للمحاميات، في ظل كل الإدعاءات التي تلقينها عن تعرض موكليهم للتعذيب.
تهميش ادعاءات التعذيب
توحي شهادات المحاميات أن مسألة التعذيب تحصل ضمن منهجية مُحكمة، وقبول ضمني من كافة الأطراف بهذه الممارسات. تقول “أ” أن إفادات موكليها الأولية متشابهة إلى حدّ مريب، الأمر الذي يؤكد لها أنها بمعظمها لا تعبر عن كلام صاحبها بل هي من صياغة المحقق، إضافةً إلى كونهم جميعاً يسردون قصصاً حول تعرضهم للتعذيب. في هذا السياق، تضيف “أ”: “نطلب من المحكمة إبطال الإفادة الأولية، لانتزاعها تحت التعذيب ولكون موكلنا يطلب التراجع عنها لعدم صحتها”. لكن المحكمة ترمي علينا عبء “إثبات أن المحقق يخترع التفاصيل، وهو أمر مخالف لمبدأ البينة على من إدعى، فهم يدعون على شخص بالإرهاب ثم يطلبون أن نثبت أن الأمر غير صحيح”. هذا ويذهب القاضي أحياناً الى سؤال من ينفي مضمون إفادته “لماذا اكتفى المحقق بالقول أنك بايعت ولم يقل أنك أطلقت النار على الجيش مثلاً؟”. والحال أن الدليل على صحة الإفادة بالنسبة للمحكمة هنا، بات عدم التمادي في التلفيق. بالمقابل لا يلتفت القاضي إلى كون “التهمة ليست معززة لا بمعلومات كافية ولا بشهادات شهود ولا بمضمون مفيد لداتا الإتصالات”.
إذن دائماً يتم التعامل مع إدعاءات التعرض لتعذيب على أنها مجرد مزاعم وفقاً لـ “أ”. فبالنسبة للمحكمة، لا دليل على صحة هذه الإدعاءات بغياب تقرير طبيب شرعي. بالمقابل لا إمكانية للحصول على هذا التقرير لعدة أسباب، أولها “أننا كمحامين ممنوعون من مقابلة موكلنا خلال توقيفه في وزارة الدفاع، أما الوضع بالنسبة للموقوفين لدى شعبة المعلومات لدى الأمن العام فهو أسوأ، حيث أن أسماء هؤلاء لا تدرج في الجداول فيكون بحكم المخفي قسرياً خلال هذه الفترة”. تضيف “أ” أن الجهات التي تمارس أعمال العنف والتعذيب لا ترسل الموقوف أمام القضاة قبل أن تزول عنه الآثار”. مثلاً: “في الشرطة العسكرية مدة التوقيف 6 أيام قبل تحويله إلى قاضي التحقيق”. أمام استحالة الحصول على تقرير طبيب شرعي، يطلب المحامون الإستماع إلى إفادة المحقق. لكن “هذا الطلب يرفض دائماً، وفي الواقع محضر التحقيق الأولي لا يمهر باسم المحقق بل برقمه، ما يجعل الوصول إليه مستحيلاً”.
تقول “ب” أن بعض موكليها “وصلوا أمام قاضي التحقيق وعلى أجسادهم آثار تعذيب، وأن إدعاء التعرض للتعذيب بات امراً شاملاً، يردده جميع المتهمين بالإرهاب أمام المحكمة”.ولكن على الرغم من ذلك “لم نستطع يوماً أن نتوصل إلى إبطال إفادة أولية أمام المحكمة العسكرية لهذه العلة، لا سيما أن سوق المتهمين إلى المحكمة لا يتم قبل “10 أو 15 يوما، عندها تكون آثار التعذيب قد زالت نهائياً”.
المشكلة بالنسبة لـ”ج”، بالإضافة الى ما تقدم، أنه “عندما نصر على موقف أو طلب أمام المحكمة العسكرية يتعلق بإدعاءات موكلنا تعرضه للتعذيب، تتخذ المحكمة موقفاً من المحامي، وتتبدل المعاملة معه، ما يترك لدينا حذرا من أن ينعكس هذا الأمر على مصالح موكلينا جميعاً”.
المؤسسة العسكرية على حق… أخطأت أم أصابت
لا تكتفي المحكمة برفض إبطال التحقيقات الأولية لعلة الإدعاء بالتعذيب. لكنها، وعلى العكس من ذلك، تعتمد على الإعترافات الواردة في التحقيقات الأولية كدليل حاسم تحكم بموجبه بتجريم المدعى عليه”. تقول “ج” أن أحد موكليها أنكر أمام قاضي التحقيق كل أقواله الواردة في التحقيقات الأولية، إلا أن المحكمة العسكرية أخذت فقط مضمون التحقيق الأولي. عندها “طلبت من المحكمة دليلا آخر غير إعترافات موكلي، فأجابني رئيس المحكمة أن “الذين يقومون بالتحقيق الأولي نزيهون ولا نرضى أن يشكك بهم أحد”. تعزو “ج” أخذ المحكمة العسكرية بالتحقيق الأولي في معظم الحالات إلى سببين: “الثقة بالأجهزة العسكرية، والتي تأخذ على المحكمة تبرئة شخص إتهمه جهاز أمني بالإرهاب”. أما السبب الثاني بالنسبة لها فهو “إقفال الباب أمام المساس بالمؤسسة العسكرية”.
من جهتها، تشير “أ” الى مصادر المعلومات التي يلاحق الأشخاص على أساسها. وهي بشكل عام “داتا إتصالات، قد لا تتضمن أي دليل حاسم لاشتراك الشخص بأي نشاط إرهابي، بل مجرد عبارات تدفع الأجهزة الأمنية للإشتباه بوجود هكذا نشاط”. الأسوأ أن “جهة الدفاع لا تحصل بشكل عام على نسخة من هذا المستند الذي قد يكون حاسما لإدانة الشخص وهذا إنتقاص خطير من حق الدفاع”. هناك أشكال أخرى لبناء الإتهام “كتاب معلومات، أي إفادة سرية من أحد المخبرين تتهم الشخص بارتباطه بنشاط إرهابي”، أو “بسبب ذكر إسمه في إفادة شخص آخر خلال التحقيق معه”. في مطلق الأحوال، “تبقى الإعترافات الواردة في الإفادة الأولية هي مستند الأساسي للحكم على المتهم بالإرهاب” وفقاُ لها.
“محكمة رفض، وليس محكمة نقض”
لا يقابل تشدد المحكمة العسكرية الدائمة في الحكم بجرائم خطيرة كالإرهاب، تساهل في قبول طلبات التمييز. فعلى العكس من ذلك، تقول “ج” أن “محكمة التمييز العسكرية حالياً تمارس سياسة الرفض (رفض الطعون)، لدرجة أننا أصبحنا نسميها محكمة الرفض بدلا من محكمة النقض لكثرة ما ترفض التمييزات المقدمة إليها”. كل هذا الرفض فيما أن “كل قرارات المحكمة العسكرية تصدر من دون مخالفات، وهو أمر مثير للتعجب بالنسبة لمحكمة تصدر ما لا يقل عن 50 حكما في اليوم الواحد”. تضيف “ج” بلهجة متعجبة: “ما هذا التكاتف والتطابق في آراء هيئة المحكمة على مر السنين؟” . في ظل الوضع الراهن “بتنا نشعر أن المحكمة الدائمة باتت على درجة واحدة وهي تأخذ بالتحقيق الأولي”.
أما “أ” فتؤكد أنها من أصل خمسة ملفات تقدمت بها أمام التمييز، في السنة الاخيرة، قبل واحد فقط. إلا أن هذه القضية ما كان لتمييزها أن يرفض بسبب فجاجة الحكم الصادر فيها. حيث قررت المحكمة الدائمة وقتها أن تغفل التقارير الطبية المقدمة من قبل جهة الدفاع والتي تثبت أن المتهم ليس أهلاً للمشاركة بأي معركة مسلحة بسبب كونه مصابا بعجز دائم بإحدى قدميه. وقد قبل التمييز بسبب “وجود مستند حاسم لم يعرض للنقاش قبل صدور القرار”.
– تعرف المادة 314 من قانون العقوبات الأعمال الإرهابية: “يعنى بالأعمال الإرهابية جميع الأفعال التي ترمي إلى إيجاد حالة ذعر وترتكب بوسائل كالأدوات المتفجّرة والمواد الملتهبة والمنتجات السامة أو المحرقة والعوامل الوبائية أو الميكروبية التي من شأنها أن تحدث خطراً عاماً”
نشر في العدد الخاص حول المحاكم العسكرية في دول المنطقة العربية.
النسخة اللبنانية
النسخة التونسية
– “المحكمة العسكرية تفرض إختصاصها على الجرائم الواقعة في سوريا بشكل مخالف للقانون. فهي تسيء تفسير المواد التي تستند عليها من قانون العقوبات، تحديداً المادة 19 والمادة 23 أي التي تحدد الصلاحية الذاتية والصلاحية الشاملة للمحاكم اللبنانية تجاه الأجانب. وتنص هذه المواد على إختصاص المحاكم اللبنانية بالنسبة لكل أجنبي دخل الأراضي اللبنانية، بحال إرتكب إحدى الجرائم المنصوص عليها في المادة 19 أو أي جريمة أخرى في حال توافر الشروط المنصوص عنها في المادة 23. ومن بين هذه الجرائم المحددة في المادة 19، الجرائم التي تمس أمن الدولة، على أن صلاحية المحاكم اللبنانية تنتفي في حال كان الفعل غير مخالف للقانون الدولي. والقانون الدولي لا يعاقب على النزاعات المسلحة فهذه النزاعات تحكمها إتفاقيات جنيف التي صادق عليها لبنان بالتالي المحاسبة على حمل السلاح بسوريا، أو حمل سلاح غير مرخص أمر غير قانوني، حتى لو كان النزاع في سوريا غير مصنف نزاعاً مسلحاً دولياً، فإن المادة الثالثة المشتركة في لإتفاقيات جنيف ترعى النزاعات المسلحة غير الدولية”.