بتاريخ 18-5-2016، تراجع الوكيل العام لدى محكمة الاستئناف بصفاقس عن قراره بنقل كاتبة إلى محكمة أخرى على خلفية نشرها لقصيدة على صفحة الفايسبوك. وكانت القصيدة انتقدت الأجواء الاحتفالية التي رافقت زيارة وزير العدل للمحكمة. ولم يتمّ التراجع تلقائيا إنما حصل بضغط من الرأي العام الذي كان في جانب منه قضائيا. وقد كشفت نهاية الأزمة أولا عن دور الرأي العام في التصدي للتعسف الاداري وثانيا عن تطور في الوعي القضائي الذي ابتعد عن مواقف التضامن الفئوي لينتصر لقيم القانون. وهذا ما سنحاول تفصيله أدناه.
رقابة الرأي العام تمنع التعسف
دفع اهتمام الرأي العام بالقضية وزير العدل لأن يتبرّأ في ثاني أيام الأزمة من قرار مرؤوسه، فاتصل بالمعنية بالأمر هاتفيا معلماً إياها معارضته لقرار نقلتها وتعهده بتسوية الوضعية. لكن هذا الموقف لم يؤثر في مجريات الأحداث. فقد أصر الوكيل العام على قراره، وعمد إلى تبريره إعلاميا بمصلحة العمل بعدما ادعى استحالة مواصلة المعنية عملها بمركزها السابق. وحاول أن يبرز أنه كان حليما في قراره، فذكر أنه كان بإمكانه أن يؤاخذ كاتبة القصيدة جزائيا من أجل الاساءة للغير عبر شبكات التواصل الاجتماعي. لم يكن الوكيل العام مقنعا في خطابه. في الشق المقابل، نجح المعارضون له في تنبيه الرأي العام لخطورة قرار النقلة على قيم الجمهورية.
لعبت شبكة التواصل الاجتماعي ومن بعدها الاعلام دورا أساسيا في الكشف على خطورة التجاوز الذي صدر عن المسؤول القضائي. وبذلك، شكّل الإعلام سلطة مضادة تصدّت لتعسف ممثّل السلطة القضائية في ممارسته لدور الرئيس الاداريّ. ولم يجد الإعلام في اضطلاعه بدوره معارضة في الوسط القضائي بما أشر على تحولات عميقة يعرفها الجسم القضائي.
القضاة يرفضون التضامن مع رئيسهم : حدث ذو دلالة
لم تسجل مواقف معلنة لهياكل القضاة من الأزمة التي طرأت. وقابل "صمت الهياكل" مجاهرة غير مسبوقة من القضاة كأفراد في تعاليقهم وكتاباتهم على صفحات التواصل الاجتماعي بمواقف ترفض تعسف رئيس جهاز الادعاء العام. وكشفت أول تدوينة لكاتبة المحكمة بعد نهاية الأزمة عن دور القضاء في معارضة القرار. فقد توجهت فيها الكاتبة بالشكر للقضاة وهياكلهم وخصت بالذكر القاضية أنيسة التريشلي، لأهمية دور هؤلاء في انتقاد قرار نقلها في مواجهة قاضٍ سامٍ.
ويظهر قطع القضاة مع ثقافة الموالاة للقاضي السامي وابتعادهم في اتخاذ موقفهم عن منطق التعاضد الفئوي غير المشروط مؤشرا هاما على التحولات التي يشهدها مجتمع القضاة، هذا المجتمع الذي كان حتى وقت قريب محكوماً بهرمية صارمة.
ويعد هذا التطور النوعي أثرا مباشرا لتقلص سلطة كبار القضاة بعد إرساء المبادئ المتعلقة بالحق في الترقية الآلية وعدم نقلة القاضي بدون رضاه.
ويؤكد انتصار القضاة أن ما يروج له خطاب السلطة المناوئ لاستقلالية القضاء بكون الاستقلالية ترادف تغول القضاة وتعسفهم هو شعار يفتقر للموضوعية. فقد أدى تخلص القضاة من الخوف والخضوع لكبار القضاة لتطور وعيهم الحقوقي بما يضمن قدرتهم على الاضطلاع بدورهم الوظيفي في حماية الحقوق والحريات.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.