في اللائحة التي قدّمها إلى مجلس شورى الدولة في تاريخ 9 كانون الأوّل 2014 للردّ على دعوى الحركة البيئية بوقف تنفيذ مشروع سدّ جنّة، اعتبر محامي مؤسّسة مياه بيروت وجبل لبنان إميل الحايك أنّ “ما هو خطير في هذه المراجعة العفوية هو أنّ تلزيم هذا المشروع (أي سدّ جنّة) قد استند إلى قانون البرامج الصادر بموازنة العام 2002، والذي أجاز توزيع اعتمادات المشروع على أربع سنوات”. وأشار في ملاحظته إلى أنّ “اعتماد كل سنة هو 383 مليار ليرة سنداً لقرار التلزيم الموافق عليه من الرقابتين الإدارية والمالية..”.
كان المحامي يحاول آنذاك أن يبيّن للقضاء الإداري أهمية المشروع وضخامته وقيمة الأموال التي خصّصتها الدولة له، ولم يكن يدري أنّه يدلي بمعلومة نادرة بشأن تكلفة سدّ غالباً ما اعتبره معارضوه وفي مقدّمتهم رئيس الحركة البيئية في لبنان ومؤسّس جمعية الأرض بول أبي راشد، “مغارة علي بابا”. للدلالة على ذلك، ما زالت وزارة الطاقة ومعها مؤسّسة مياه بيروت وجبل لبنان ترفضان الإفصاح عن التكلفة الحقيقية للسدّ التي تضاعفتْ مع بروز عوائق تقنية خلال تنفيذه، وفيما لم تردّ وزارة الطاقة على كتب “المفكرة القانونية” بهذا الخصوص، ولم تسلّمنا أي مستندات تتعلّق بالكلفة، يصرّ أعضاء لجنة سدّ جنّة على أنّ تكلفة السد لم تتجاوز 253 مليون دولار. الكلفة التي تضمّنتها اللائحة الجوابية للمحامي الحايك ينفيها المهندس جورج ملكي، عضو لجنة سدّ جنّة التي عيّنتها وزارة الطاقة في 2010 لمتابعة تنفيذ السدّ، مؤكداً أنّ “تكلفة السدّ لم تتخطّ الموازنة الموضوعة له وقيمتها 253 مليون دولار، إلّا ضمن سقف توقّع زيادة التكلفة في كلّ السدود ما بين 10 إلى 15%”، ليستغرب أن يدلي محامي المؤسّسة بهكذا “معلومة خاطئة”.
لكن الاعتراض على سدّ جنّة لا يقتصر على كلفته الباهظة بالنسبة لسدّ يقال إنّه سيجمع بين 33 و40 مليون متر مكعب من المياه، 60% منها ستُجرّ إلى بيروت عبر محطة الضبية، و40% تخصّص لقرى في جبيل وكسروان، بل يتعدّاها إلى عدم إنجاز دراسة الأثر البيئي حتى كتابة هذه السطور. وقد أفادت مصادر وزارة البيئة “المفكرة” أنّ لا دراسات نهائيّة حتى اليوم عن سدّ جنّة، وأنّ دراسة الأثر البيئي تحديداً ما زالت قيد الأخذ والردّ بين وزارتيْ البيئة والطاقة بعد 10 سنوات على بدء تنفيذه. وكانت وزارة البيئة قد تحرّكت في 2014 بناء على كتاب أرسلته الحركة البيئية “تسأل فيه عما إذا كان هناك دراسة تقييم للأثر البيئي للسدّ”، كما يؤكد أبي راشد لـ “المفكرة” “ويومها اكتشفنا أنّهم باشروا الأعمال قبل إنجاز دراسة الأثر البيئي، فطالبنا بإيقافه فوراً”.
ويستند الاعتراض على السدّ أيضاً إلى النشاط الزلزاليّ الكبير في منطقة جنّة، مكان إنشائه، خصوصاً في ظلّ وجود 3 فوالق زلزالية تحت حائط السدّ وفي متن بحيرته – خزّانه المائي، ومعه تكوين الأرض ونوعية الصخور الكارستية التي لا تسمح بتجميع هذه الكمية من المياه، وفق تقرير المؤسسة الفيدرالية لعلوم الجيولوجيا والمصادر الطبيعية، BGR، ومقرّها هانوفر، ألمانيا. وقد نبّه خبراء المؤسسة الألمانيّة بشدّة من وجود إمكانية كبيرة لتأثير سدّ جنّة، خصوصاً منطقة البحيرة، على تغذية نبع جعيتا الذي يزوّد بيروت بـ 70% من حاجتها المائية. يُضاف إلى كلّ ذلك ما برهنتْه دراسة الأثر البيئي التي نفّذتها شركة “جيكوم”، بتكليف من مؤسّسة مياه بيروت وجبل لبنان واستشاري السدّ “خطيب وعلمي”، وقوع خسائر بيئية على نهر إبراهيم وواديه وساحله بما يوازي نحو 101.5 (101.5) مليون دولار سنوياً، متوقعة أن تكون هذه الخسائر تصاعديّة، لتتخطّى كلفة السدّ مع مرور الوقت والفوائد المتوقّعة منه إذا نجح في جمع المياه.
نحن نتحدّث هنا عن منطقة وادي نهر إبراهيم التي يعيش فيها 70% من نباتات لبنان، وفق ما تؤكّده لـ “المفكرة” د.ة ميرنا سمعان الاختصاصية في الموارد الطبيعية القانونية، “عدا عن قيمة الوادي التاريخية والثقافية والاجتماعية والأثرية والمائية، كونه من أغزر ثلاثة أنهار في لبنان بعد الليطاني والعاصي”. كلّ هذه الأمور لم تجد الآذان الصاغية عند المخطّطين للسدّ والمُصرّين على تنفيذه، ولم تجعلْ وزارة الطاقة ومؤسّسة مياه بيروت وجبل لبنان معها تنصاعان لقرار وزير البيئة محمد المشنوق المسنود بتقرير اللجنة الفنية في وزارة البيئة، طالباً وقف الأعمال بسدّ جنّة فوراً، وتشكيل لجنة تبحث في كيفية إصلاح ما تضرّر نتيجة ما نُفذ من أعمال السدّ لغاية 2015. وإذ لم تنفّذ وزارة الطاقة قرار وزارة البيئة، يعتبر رئيس الحركة البيئية بول أبي راشد ما حصل بـ “تمرّد وزارة الطاقة على قرار وزارة البيئة، وضرب مضمونه عرض الحائط”.
وما لم يفعله القضاء الذي لم يحكم بإيقاف سدّ جنّة بناء على دعوى الحركة البيئية، تولّته الأزمة الاقتصادية حيث “لم تعد مؤسّسة مياه بيروت وجبل لبنان قادرة على دفع مستحقات الشركة الأجنبية المتعهدة تنفيذ السدّ بالدولار الأميركي بعد انهيار سعر صرف الليرة اللبنانية”، وفق عضو لجنة سد جنّة المهندس جورج ملكي، بينما يرى أبي راشد أنّ السدّ “استنزف موازنة المؤسّسة قبل الانهيار نظراً للأكلاف الإضافية التي طرأت في محاولة لتدارك المشاكل والعوائق المتعلّقة بجيولوجية الأرض وتركيبتها وتكوينها ومعها النشاط الزلزالي العالي الذي أكده تقرير المجلس الوطني للبحوث العلمية”.
وإلى الكلفة، تضاف أيضاً الدعوى القضائية قيد التحقيق في مكتب المدعي العام المالي القاضي علي إبراهيم، والمتعلّقة بدفع مؤسّسة مياه بيروت وجبل لبنان 10 ملايين دولار للشركة المنفّذة كغرامة على التأخير في تنفيذ السدّ. وقد طلب إبراهيم من وزارة الطاقة إعطاء الإذن بالاستماع إلى مدير عام مؤسّسة مياه بيروت وجبل لبنان، جان جبران، وهو ما لم يحصل حتى كتابة هذه السطور. وكذلك أعلن وزير الطاقة والمياه السابق ريمون غجر عن فتح تحقيق داخلي في الوزارة بالقضية ولكن لم يرشح أي شيء عن التقدّم بالتحقيق أو نتائجه حتى الساعة. وقامت مؤسّسة مياه بيروت وجبل لبنان وبموجب قرار مجلس الإدارة الرقم 2019/28 تاريخ 2019/7/25 المبني على اقتراح رئيس مجلس الإدارة المدير العام جان جبران، بتسديد تعويض لمتعهّد إنشاء سدّ جنّة، وهي الشركة البرازيلية A.Gutierrez، مبلغاً وقدره 10 ملايين و662 ألف دولار. وتشير معلومات صحافية مبنيّة على معطيات أدلى بها معارضون للسدّ عن التزام شركة “جبران غروب” التي يملكها جان جبران، بعض الأعمال التنفيذية في سدّ جنّة. كما أنّ جبران نفسه كان مديراً في شركة الاتحاد التي تتولّى أعمالاً أساسية في تنفيذ سدّ جنّة أيضاً، قبل أن يستقيل ليعمل مستشاراً مع وزير الطاقة الأسبق جبران باسيل، ومن ثم مديراً عاماً لمؤسّسة مياه بيروت وجبل لبنان.
يردّ عضو لجنة سدّ جنّة جورج ملكي على هذه الدعوى القضائية بالقول إنّ دفع المؤسّسة المال للشركة المتعهدة تنفيذ السدّ “كان بسبب تأخير بدء الأعمال عندما لم تكن الدولة قد أعطتْ إذناً بالتفجير في موقع السدّ، وأنّ التعويض حصل ضمن الأطر القانونية وقد دُفع منه 6 ملايين دولار وبقي 4 ملايين، وأنه في حال أرادت الدولة استرداد هذا المال فيمكن أن نسترده، طالما لم ينتهِ عقد الشركة”، وفق ملكي الذي لم يدعم كلامه بسند قانوني أو قرار إداري أو أي بند يحفظ حق الدولة بذلك. وحول التحقيق الداخلي في الملف في وزارة الطاقة، يعتبر ملكي أنّه يحقّ لوزير الطاقة فتح تحقيق كونه لم يكن في الوزارة عند دفع الغرامة. أما بالنسبة لتحرّك النيابة العامة المالية واستدعاء جبران للتحقيق، فجاء جواب لجنة سدّ جنّة: “يا قلّة فهم، يا هدف سياسي من وراء استدعائه، ونحن نعتقد أنّ هناك من قدم إخباراً عند القاضي إبراهيم”. وللتخفيف من حجم ما حصل، قال أعضاء من لجنة سدّ جنّة لـ “المفكرة”، فضلوا عدم ذكر أسمائهم “فيكي تشوفي البرغشة هيلوكوبتر وفيكي تشوفيها برغشة، وفيكي ما تشوفيها”، وكأنّه يجوز مقارنة المال العام وهدره بالبرغشة.
جنّة منطقة ناشطة زلزالياً
يؤكّد رئيس الحركة البيئية بول أبي راشد أنّ تقرير المجلس الوطني للبحوث العلمية الذي أعدّه في 2015 بناء على طلب رئيس مجلس الوزراء الأسبق تمّام سلام “قلب الطاولة فوقاني تحتاني بخصوص سدّ جنّة، لو كان هناك من يسمع في هذه السلطة، ومن يتمتّع بمصداقية بين هذه الطبقة السياسية”. فقد أشار المجلس في تقريره، وفق أبي راشد، إلى الخطورة الزلزالية في منطقة سدّ جنّة والمكوّنة من صخوركارستية مترافقة مع وجود فوالق زلزالية في الأودية “في فالق تحت حيط السدّ وفالقين في جسم بحيرة السدّ”.
وعلمت “المفكرة” من مصدر حكومي متابع أنّ تقرير مجلس البحوث العلمية، وهو أعلى هيئة علمية رسمية في لبنان، ويتبع لرئاسة مجلس الوزراء مباشرة، “ركّز على النشاط الزلزالي في المنطقة مستنداً إلى سجلّ الهزّات التي حصلت خلال الأربعين سنة الأخيرة وتبيّن حصول 45 هزة أرضية في الشهر كمعدل وسطي أي بمعدل 500 إلى 600 هزة سنوياً في البلاد، ليؤكّد أنّ منطقة سدّ جنّة هي من الأماكن الناشطة زلزالياً في لبنان”. ويلفت المصدر إلى أنّ تقرير المجلس أشار إلى وجود “ما يسمّى كريزة زلزالية تعبّر عن نفسها بكثافة هزّات في موقع محدّد وفي فترة زمنية متقاربة أو صغيرة، ممّا يدلّ على وجود طاقة تُنفّس في منطقة محدّدة، وأحياناً يكون التنفيس الصغير تمهيداً لحركة أكبر، لا يمكن حسم توقيتها أو حدوثها”. وأكد المجلس في تقريره أنّ لمنطقة جنّة في نهر إبراهيم “تاريخاً من النشاط الزلزالي يجب أن يؤخذ بعين الاعتبار. وعليه يجب أن تكون الدراسات الهندسية ومواصفات البناء والمواد المستعملة في البناء والإنشاءات تتلاءم مع نسبة المخاطر المسجّلة في الموقع”. وأشار المصدر الحكومي إلى أنّ توصية المجلس الوطني للبحوث العلمية كانت واضحة جداً” المجلس يوصي بالبرك الزراعية الكبرى لأنّ لبنان موجود على شبكة من الفوالق الزلزالية التي لا نعرف متى تتحرّك”. وأعقب إصدار المجلس تقريره، حملة ضدّه من داعمي سدّ جنّة ومنفذيه، و”مورس ضغط كبير لمنع نشر التقرير ووضعه في تصرّف الخبراء وطرحه في النقاش العام”، كما يؤكد المصدر الحكومي لـ “المفكرة”.
ورداً على الخطر الزلزالي في منطقة السدّ، يؤكد المهندس جورج ملكي من لجنة سدّ جنّة أنّ الشركة المنفذة للسدّ اتخذت كلّ الإجراءات التي من شأنها أن تقي السدّ من الانهيار: “تمّ تغيير شكل حائط السدّ الذي كان أفقياً، وعندما علم الخبراء والمهندسون أنّه قد يتحرّك أكثر، قرّروا بناءه على شكل هلال Arc أو Curve، وعليه بيصير يلقي ع إيديه في حال التحرّك، لأنّه بهذا الشكل يتحمّل ضغطاً وحركة أكثر من الحائط الأفقي الجالس Straight”. وجرى التعديل، وفق ملكي، “حتى يتحمّل حائط السدّ هزّات زلزالية عالية”. ومع أنّ التعديل في شكل الحائط رفع الكلفة، إلّا أنّه جرى التوفير في الحفريات مع تقليص حجم السد” وفق ملكي الذي يشير إلى أنّه “تمّ التأكّد من فعالية هذا التغيير مع خبراء وشركات أجنبية”.
د. زعاطيطي: أرض جنّة مصفاة لا تجمع المياه
قبل الغوص في خصائص أرضية بحيرة سدّ جنّة، يستشهد الباحث في علوم المياه الجوفية الأستاذ الجامعي سمير زعاطيطي بالخريطة التي وضعتْها البعثة الفرنسية التي عملت على جيولوجيا لبنان من 1928 ولغاية 1955 وبيّنت “وجود كسر قرطبا الذي يكمل تشققاته من جرد جبيل نحو وادي نهر إبراهيم مروراً بعقر دار سدّ جنّة المزعوم، إضافة إلى وجود 3 فوالق عرضية واضحة على الخريطة نفسها”، ليؤكّد أنّ هذه الفوالق الزلزالية تتقاطع في أرض بحيرة سدّ جنّة. ويسأل: “كيف نفكّر أن نبني سدّاً في منطقة كهذه؟”
ومن على كتف إنشاءات سدّ جنّة من ناحية بلدة قرطبا، يقف د. زعاطيطي ليشير إلى أنّه زار المنطقة قبل البدء بأعمال الحفريات بسنوات مع أستاذه الفرنسي ميشال باكولوفيتش من مونبيليه في فرنسا الذي قال إنّ “المنطقة مكوّنة من صخور كارستية، أي كربوناتية متشقّقة ومتفسّخة، ما يجعل الأرض، أرض السدّ وبحيرته، كالمصفاية لا تصلح لتخزين المياه”.
ولتوضيح فكرته أكثر، سأل د. زعاطيطي: لماذا لدينا وادٍ هنا؟” ليجيب: “صار عندنا وادي في نهر إبراهيم لأنّ الأرض خُسفت بسبب وجود مجاري مائية جوفية كبيرة تتوسّع في قلب الأرض يوماً بعد يوم، ويكبر حجمها وتزداد، فيما تكبر فوقها جرفيات النهر فتخسف الأرض أكثر وأكثر، ويزيد حجم المجاري الجوفية المائية أيضاً”. ومع هذه العملية، وفق د. زعاطيطي “يحصل تهبيط في الوادي كما في مرج بسري”، ليؤكّد أنّ “كلّ المواقع التي اختيرت للسدود هي أودية كارستية، أي مصافي غير صالحة للتخزين السطحي لأنّها خزّانات جوفية طبيعية”.
وليدعّم كلامه، يذكّر د. زعاطيطي بما خلُصت إليه “البعثة الجيولوجية الفرنسية التي أجرت أبحاثها من 1928 إلى 1955 عندما اشتغلت على الأراضي اللبنانية والمنطقة من حولنا، وقالت إنّ لبنان هو بلد المياه في الشرق الأوسط، كما قال المهندس إبراهيم عبد العال إنّ جبالنا مخازن حقيقية للمياه، فلدينا 14 نهراً تنبع من جبال لبنان وتذهب الى البحر، بينما لا يوجد نهر واحد من شمال فلسطين إلى جنوبها، كما لا نجد نهراً واحداً أيضاً في الشمال السوري”. وعليه: “المياه في لبنان مخبّاية بقلب الجبال وليست جبالنا صالحة للتخزين السطحي، بل الجوفي”.
ومع البعثة الفرنسية، يستشهد د. زعاطيطي بتقرير الأمم المتحدة للتنمية الذي “درس الثروة المائية في لبنان في 1970 ليقول إنّ مخزون لبنان الجوفي المتجدّد سنوياً يبلغ نحو 3 مليارات متر مكعب، فيما يبلغ حجم مياهنا السطحية الجارية 1.3 مليار متر معكب، هي التي لوّثناها بالأنشطة الإنسانية والاستثمارية من نفايات سائلة منزلية وصناعية ومطامر ومكبّات”، ليخلص إلى إمكانية استثمار المياه الجوفية “كما فعلنا في جبل عامل في جنوب لبنان حيث غذّينا البلدات من الآبار الجوفية”.
10 سنوات على السدّ ولا دراسة نهائية للأثر البيئي
في 2014 وبينما كانت حفريات سدّ جنّة في أوجّها، أرسلت الحركة البيئية كتاباً إلى وزير البيئة آنذاك تسأله عن دراسة الأثر البيئي والاجتماعي للمشروع، كما ينصّ مرسوم أصول تقييم الأثر البيئي والاجتماعي الصادر في 2012. جاء جواب وزارة البيئة لينفي أي وجود لدراسة أثر بيئي سارية المفعول لسد جنّة. وعليه أرسلت وزارة البيئة كتاباً إلى وزارة الطاقة تطلب إيقاف المشروع إلى حين وضع دراسة أثر بيئي جديدة غير تلك التي كانت شركة “خطيب وعلمي” الاستشارية في السدّ، قد وضعتها في العام 2008. واعتمد وزير البيئة محمّد المشنوق في كتابه على مرسوم أصول تقييم الأثر البيئي الذي يقول إنّ فعالية أيّ دراسة أثر بيئي تنتهي بعد عامين من إجرائها.
وبناء على طلب المشنوق وقراره، أرسلت وزارة الطاقة دراسة أثر بيئي جديدة إلى وزارة البيئة في تموز 2015 بعدما كلّفت (أي الطاقة مع مؤسّسة مياه بيروت وجبل لبنان) شركة “جيكوم” التي استعانت بمجموعة من الخبراء والاختصاصيين لإنجازها. وفي 31 آب 2015 أصدر المشنوق قراراً يصفه أبي راشد بـ “التاريخي”، جاء فيه حرفياً أنّ “وزارة البيئة ترى أنّه لا يمكن الاستمرار باستكمال أعمال إنشاء مشروع سدّ وبحيرة جنّة-نهر إبراهيم في ضوء المخاطر البيئية التي برزت (في هذه الدراسة)”. واقترحت وزارة البيئة على وزارة الطاقة “البحث عن البدائل التي يمكنها تحقيق أهداف المشروع من دون الإضرار بالبيئة وتفادياً للمخاطر التي حدّدتها دراسة الأثر البيئي بوضوح، وكذلك تأليف لجنة من الخبراء بهدف الكشف على الأضرار التي لحقت بموقع إنشاء سدّ وبحيرة جنّة- نهر إبراهيم، والقيام بالتقييم العلمي الدقيق والاستعانة إذا لزم الأمر بخبراء دوليين بهدف وضع خطة واضحة لإعادة تأهيل المواقع المتضررة”.
ونجد في تقرير اللجنة الفنية في وزارة البيئة الذي حصلت “المفكرة” على نسخة منه، الأسباب التي دفعت وزارة البيئة إلى الطلب من وزارة الطاقة إيقاف سدّ جنّة فوراً والبحث في إصلاح الأضرار التي لحقت بالمنطقة. واستندتْ اللجنة في تقريرها إلى التوصيات التي خلص إليها تقرير تقييم الأثر البيئي وكذلك المخاطر التي تعترف فيها الدراسة نفسها التي أنجزتها شركة “جيكوم”. ورأت اللجنة في باب “السياسات والأطر القانونية والإدارية” أنّه قد “تمّت مخالفة قانون حماية البيئة الرقم 444/2002، لا سيما الباب 6- المادة 58، كما مخالفة المادة 10 من المرسوم 8633/2012 (أصول تقييم الأثر البيئي)، حيث تبيّن من الكشوفات على الموقع أنّه قد تمّ البدء بتنفيذ المشروع قبل إبداء وزارة البيئة موقفها حيال تقرير دراسة الأثر البيئي”.
وفي جيولوجية الموقع، رأتْ اللجنة الفنّية في وزارة البيئة أنّ “تضارب المعلومات ما بين التقرير الجيولوجي والهيدروجيولوجي الصادر عن شركة خطيب وعلمي من جهة والتقرير الصادر عن خبراء المعهد الفيدرالي الألماني BGR ما يزال قائماً، لاسيما المتعلق منها بتسرّب المياه الجوفية واتجاهاتها في الطبقات الجوفية في الحوض الأعلى لنهر إبراهيم باتجاه الحوض الجوفي لنبع جعيتا”، مع الإشارة إلى أنّ الشركتين قد أصدرتا مراسلات عدّة تتضمن رداً ورداً مضاداً. وبعدما عرضت اللجنة ردود الشركتين، رأت أنّ “هناك تناقضاً لناحية النظام الهيدروجيولوجي لأرضية منطقة البحيرة ومحيطها، ووفقاً لهذه المعطيات تلفت اللجنة النظر إلى أهمية استكمال الدراسات للتحقق من مكامن الضعف الجيولوجية في موقع سدّ جنّة، وذلك من خلال عقد اجتماع الخبراء لمناقشة التناقض القائم مع إمكانية التوصّل إلى حلول علمية من دون إجراء أعمال جيولوجية ميدانية. وأشارت إلى أنه في حال لم يؤدّ اجتماع الخبراء إلى النتيجة المرضية لكلا الطرفين، فيجب القيام بأعمال هيدروجيولوجية ميدانية أكثر، والتي تشتمل على حفر آبار اختبارية.
وعلى صعيد المسح الشامل للتنوّع البيولوجي، رأتْ اللجنة الفنية لوزارة البيئة أنّه “وفقاً للمعطيات والمعلومات المقدمة في التقرير المرفق لدراسة الأثر البيئي، تبيّن وجود حوالي 404 أصناف من النباتات و739 نوعاً من اللافقاريات و6 أنواع من البرمائيات و23 نوعاً من الزواحف و140 نوعاً من الطيور داخل وادي جنّة الطبيعي”. كما بيّن التقرير، وفق اللجنة الفنية، “وجود 5 موائل طبيعية ذات أهمية إيكولوجية عالية ستتأثر سلباً من جرّاء السدّ، فضلاً عن مساحات شاسعة من الأشجار الحرجية التي سيتمّ قطعها، والتي تقدّر مساحتها بحوالي 480 ألف متر مربع”، وحيث أنّ فريق الخبراء، وفق تقرير اللجنة الفنية، قد خلص إلى أنّه لا يمكن اتّخاذ أيّ تدابير تخفيفية لتفادي الآثار البيئية السلبية، فاللجنة “تتبنّى ما جاء في هذا الجزء من التقرير لاسيما أنّه لا يمكن التعويض عن اندثار النظام البيئي في هذا الجزء من وادي نهر إبراهيم”.
وبعدما رأت أنّ موضوع الترسّبات النهرية لا يشكّل عائقاً فنّياً تجاه القدرة الاستيعابية للبحيرة، وتجاه فكرة تآكل مجرى النهر أسفل السدّ، توقّفت اللجنة الفنيّة عند الجزء المتعلّق بمناطق التأثير المحتملة للمشروع، لترى أنّه “وفقاً لمعطيات ومعلومات التقرير هناك 7 مناطق أعلى وأسفل السدّ يمكن أن تتأثر بطريقة مباشرة أو غير مباشرة من جرّاء إنشائه”. ومع الإشارة إلى أنّ مناطق التأثير المحتملة قد تمّ تحديدها بناء على التأثيرات المحتملة من جرّاء السدّ على صعد عدّة أهمّها: “التأثيرات السلبية على قطاعات التنوّع البيولوجي والنظام الإيكولوجي العام ومواقع الإرث الثقافي والتاريخي في وادي نهر إبراهيم وعلى مصبّ النهر والشواطئ المحاذية”. واشارت إلى التأثيرات الإيجابية على قطاعات إدارة مياه الشفة وإدارة مياه الريّ والطاقة الكهربائية النظيفة، في حال نجاح السد. وهنا رأت اللجنة الفنية أنّ “التاثيرات السلبية للمشروع لا تنحصر بموقع السد فقط وإنّما تمتدّ إلى أعلى وأسفل السدّ وصولاً إلى الشاطئ اللبناني عند مصبّ نهر إبراهيم. وهذا ما يظهر جلياً ضمن الخرائط المرفقة بهذا الجزء”.
وبالنسبة إلى كلفة التدهور البيئي، رأت اللجنة الفنية في وزارة البيئة أنّها تقدّر، وفق تقرير دراسة الأثر البيئي نفسها، بحوالي 42 مليون دولار أميركي سنوياً حسب استطلاع رأي العامّة في منطقة المشروع. وأمّا الكلفة بحسب التقييم العملي للأهمية البيئية لوادي نهر إبراهيم فقد قدّرت بحوالي 101.5 (101.5) مليون دولار أميركي سنوياً، وأنّ هذه الكلفة ستكون تصاعدية”.
وبعد تفصيل المنهجية المتّبعة لحساب هذه الكلفة بطريقة واضحة، أكّدت اللجنة الفنية أنّها “تتبنّى ما جاء في هذا الجزء من التقرير لجهة الخسائر الكبيرة والعالية (الإرث الثقافي والتاريخي، التنوّع البيولوجي،..) والتي قد تترجم بخسارة مادية تساوي ضعف فوائد المشروع (مياه شفة وتوليد الطاقة الكهربائية النظيفة).
وفي باب الإرث الثقافي والتاريخي، واستناداً إلى معلومات دراسة الأثر البيئي، أشارت اللجنة إلى أنّ التقرير يُظهر وجود أماكن عدّة ومواقع أثرية ذات أهمية تاريخية وثقافية، لا سيما وأنّ وادي نهر إبراهيم يعتبر من الوديان المقدسة وله رمزية لاسيما للحضارة الفينيقية، مع الإشارة إلى طلب وزارة الثقافة تسجيل الوادي ضمن لائحة التراث العالمي لليونيسكو منذ العام 1996، إلّا أنّه لغاية تاريخه لم يتمّ تصنيفه بعد. ونظراً لأهمية هذا الموضوع، وحيث تبيّن للجنة الفنية أنّ لمشروع السدّ انعكاسات وآثار سلبية وخطيرة على الإرث الثقافي والتاريخي، فإنّ اللجنة تقترح أنه “على وزارة الثقافة أن تبدي رأيها الفني في هذا الموضوع وتحديد الأضرار التي من الممكن أن تلحق بالمواقع الأثرية من جرّاء إنشاء السدّ”.
وفي تحليل مبدئي عام لبدائل المشروع، وبعد الاطّلاع على القسم المتعلّق بها (التقرير المعدّ من قبل شركة “خطيب وعلمي”)، تبيّن أنّه تمّ تحليل البدائل المتعلّقة بتصميم السدّ وموقعه، ولم يتم التطرّق إلى أيّ تصوّر للحلول البديلة للسدود التي تهدف إلى تأمين مياه الشفة ومياه الريّ. وبالتالي، ونظراً لحساسية المشروع، رأت اللجنة “من الضروري البدء بوضع تصوّر للحلول البديلة للمشروع بهدف تأمين مياه الشفة ومياه الريّ للمنطقة”.
ختاماً، وفي تحليلها لسيناريو انهيار السدّ، أشارت اللجنة الفنية لوزارة البيئة، واستناداً إلى معطيات الجزء رقم 5 من تقرير تقييم الأثر البيئي الذي خلص إلى أنّ السيناريو الأسوأ لانهيار السد لا يحصل إلّا في حال حصول زلزال كبير، وفي حين أفادت الدراسة المعدّة من قبل “خطيب وعلمي” إلى أنّ السدّ تمّ تصميمه لمقاومة كافة أنواع الزلازل، رأت اللجنة أنّ المعلومات المتعلّقة بهذا الموضوع قد تمّ التطرق إليها بطريقة وافية وكاملة، مشيرة إلى أنّه “من الآن وصاعداً وفي ما خصّ مشاريع بناء السدود، على تقارير تقييم الأثر البيئي أن تتضمّن إفادة متعلّقة بالدراسات الزلزالية وقدرة التحمّل من المصلحة المختصّة بمشاريع إنشاء السدود في وزارة الطاقة والمياه، إضافة إلى إفادة من المجلس الوطني للبحوث العلمية-المركز الوطني للجيوفيزياء”.
ورداً على موضوع تأخّر دراسة الأثر البيئي، يشير عضو لجنة سد جنّة جورج ملكي إلى أنّه تمّ تكليف شركة “خطيب وعلمي” بمؤزارة فنية من شركة “أرتيريا” الفرنسية بإجراء الدراسة في 2005 “وكانت مشمولة ضمن الدراسات الأوّلية للسدّ، مع الجدوى الاقتصادية وهي التي تحدّد المضي نحو المرحلة الثانية لتنفيذ السدّ”. ويؤكّد أنه “تمّ تسليم دراسة الأثر البيئي إلى وزارة البيئة ضمن المسار المعتمد يومها”. وعن مطالبة وزير البيئة الأسبق محمد المشنوق في 2015 بدراسة الأثر البيئي، يرى ملكي أنّ الأمر يعود للمعارضة التي انطلقت ضدّ السدّ، مشيراً إلى أنّ وزارة الطاقة لم تدر ظهرها لوزارة البيئة “بل طلبنا منهم الأطر التي تحكم إجراء دراسة أثر بيئي”.
ولا ينفي ملكي عدم الالتزام بقرار وزير البيئة وقف المشروع “ما فينا نوقّف متعهّد ومشروع مشت فيه الدولة، فكفّى الشغل بانتظار وضع مراسيم تطبيقية لكيفية وضع دراسة الأثر البيئي كما ينصّ عليها المرسوم 8633، حيث لم تكن كيفية تطبيق المرسوم معروفة”. ويرى أنّ “النيّة الحسنة موجودة والوزارات تنيناتهن مؤسّسات دولة، وبلّش الشغل بالسدّ فعلياً، وصار النقاش مع وزارة البيئة بعد 5 سنوات من التلزيم، وانتهى إلى تلزيم شركة جيكوم”. ورداً على سؤال يتعلّق بقرار وزير البيئة مجدّداً بوقف السدّ بعد إنجاز شركة “جيكوم” لدراسة الأثر البيئي، يشير أحد أعضاء لجنة سد جنّة، وكان برفقة ملكي ولكنه لم يرغب في ذكر اسمه، إلى أنّ شركة “جيكوم” استعانت بخبراء عندهم مواقف مسبقة معارضة للسدّ ومن بينهم د.ة ميرنا الهبر، وعليه استوقفنا التقرير بأرقامه وحسبوها بشكل خنفشاري”. وخلص عضو لجنة سد جنّة نفسه إلى الاستنتاج “يعني إذا عندك توجّه معيّن بتقدري تحطّي رقم إذا واحد مسيّر بعقلاته بيجيب النتيجة لي بدّه اياها”. وعليه قُدم اقتراح إلى وزير البيئة باستقدام شركة أجنبية مع الاشتراط عليها بعدم التعاقد مع خبراء لبنانيين “بس أجانب، وطلع تقرير الشركة الأجنبية بحسابات وأرقام مختلفة عن تقرير جيكوم، والدراسة اليوم أودعت لدى وزارة البيئة منذ 8 أشهر ولم نتلقّ منها أيّ جواب لغاية اليوم”.
تغذية حوض نهر إبراهيم لنبع جعيتا
في إطار عملها على حوض تغذية نبع جعيتا الذي يرفد بيروت بـ 70% من حاجتها المائية، حذرت المؤسسة الفيدرالية لعلوم الجيولوجيا والمصادر الطبيعية BGR، من عدم قدرة بحيرة سدّ جنّة على تخزين الكمية المتوقعة منه والتي تتراوح بين 33 و40 مليون متر مكعب من جهة، وبتأثير السدّ على تغذية نبع جعيتا من وادي نهر إبراهيم من جهة ثانية. وفي إطار طبيعة منطقة سدّ جنّة الكارستية ذات النفاذية المائية العالية، تحدّث تقرير BGR عن وجود مقطع جيولوجي عرضي شرق – غرب، يمرّ بفالق اليمّونة إلى اليمين وفالق تنورين جنّة إلى اليسار، ويظهر التباعد العمودي بين كتلتيْ الصخور التي يضربها فالق تنورين جنّة الطولي، المحاذي لموقع سدّ جنّة، والذي يُعتبر من أهم مناطق تسريب المياه السطحية نحو العمق الصخري.
وأُعدّ التقرير إثر تكليف مجلس الإنماء والإعمار ومصلحة مياه بيروت وجبل لبنان BGR بإجراء دراسات حول نبع جعيتا في إطار مشروع التعاون التقني اللبناني الألماني والذي بدأ في 2010.
وأشار التقرير إلى أنّ صورة أقمار صناعية لحدود حوض تغذية نبع جعيتا بمساحة إجمالية تمتد 406 كيلومترات مربّعة وكذلك تجارب التلوين، تبيّن أنّ نصف المخزن الجوفي الذي يغذّي نبع جعيتا هو مشترك مع حوض نهر إبراهيم السطحي الأعلى.
ويرى خبراء المؤسّسة الفيدرالية الألمانية أنّ الحد الأدنى لحجم التسريب العرضي أو الأفقي، تمّ تقديره بواحد متر مكعب/ثانية، أي 3600 متر مكعّب بالساعة أي حوالي 86400 متر مكعّب/ يومي أو 31536000 متر مكعب/ سنوياً. واعتبروا أنّ الرسوبيات الحديثة الموجودة في قاع السدّ ليست مانعة لتسريب المياه بشكل عمودي، بل يمكن، حسب طبيعة مكوّناتها، أن تتمتّع بنفاذية متوسطة إلى خفيفة تسمح بالتسريب العمودي وبمسامية عالية تسمح بترشيح المياه نحو الصخور الدولوميتية المتموضعة تحت الرسوبيات (الكاربونتية الكلسية).
وأشار الخبير آرمين مارغان، أحد الجيولوجيين الذين اشتغلوا في دراسة BGR إلى وجود انخسافات كارستية كبيرة، وإلى أنّ نبع جعيتا ونهر إبراهيم الجوراسي امتداد واحد، كما هو معهود بالنظام الكارستي الصخري القديم التكوين، وإلى أنّ ما يفرقهم هي الفوالق فقط، أي من الممكن أن يكونا متّصلين ببعضهما البعض، مما يرجّح نظريّة تغذية نبع جعيتا من نهر إبراهيم.
ويرى أحد الخبراء الذين تابعوا الجدل بين وزارة الطاقة ومؤسّسة مياه بيروت وجبل لبنان ومعهما لجنة سدّ جنّة من جهة أولى وخبراء المؤسّسة الفيدرالية الألمانية من جهة ثانية، أنّ “دراسة برنامج الأمم المتحدة حول المياه الجوفية في لبنان (1970) تبيّن أسهم (فلاشات) مياه تتجه من ناحية نهر إبراهيم باتجاه جعيتا، وهو ما يعزز فرضية خبراء BGR”.
ويشير الخبير نفسه إلى أنّه عند دراسة نوعية الأوكسيجين والهيدروجين في مياه نبع جعيتا “تبيّن وجود كمية ملحوظة تتأتّى من ذوبان الثلوج، وبأنّها تنساب من منطقة بعيدة وتأخذ وقتاً طويلاً لتصل إلى نبع جعيتا”. ويحدّد احتمالين لمصدر هذه المياه: “إمّا أنْ تكون من نبعَي اللبن والعسل في كفرذبيان وتنساب في الحوض الجوراسي لنبع جعيتا في منطقة نهر الكلب، أو أنّها آتية من أفقا وهذا ما قاله مارغان، أي أنّها تأتي من أفقا إلى حوض نهر إبراهيم وتدخل في فالق طويل لتصل إلى جعيتا”. ويلفت الخبير إلى أنّ الصخور الجوراسية في نهر الكلب ذات اللون الرمادي تقع على ارتفاع 1600 حيث لا نشهد ثلوجاً لأيام طويلة في السنة، لافتاً إلى أنّ “هناك قسما من المياه لا نعرف من أين تأتي ولكن يلزمها وقت طويل يقدّر بالسنوات لتصل إلى جعيتا، أي أنّها تأتي من مكان بعيد. وهنا نسأل أنفسنا هل يا ترى تؤثر بحيرة سدّ جنّة على نبع جعيتا؟ وما هي نسبة هذا التأثير؟ لأننا بذلك نساهم بخفض تغذية نبع جعيتا الذي يغذي بدوره مدينة بيروت في حال عزل منطقة بحيرة السدّ وتسكير نفاذيّته المائية”. ويوضح فكرته بالقول “نحن ننفّذ سدّاً بكلفة عالية بحجة تغذية بيروت فيما ربما نخفّض من منسوب النبع الذي يغذّيها”. هذا الاحتمال بلّغه الخبير الألماني مارغان لوزارة الطاقة، وجاء تقريره “شديد اللهجة وهذا ما دفع ببعض أعضاء لجنة سدّ جنّة إلى الردّ بلهجة قاسية على BGR حتى أنّ أحد أعضاء لجنة السدّ قال لهم باي باي BGR”. وكانت مؤسّسة BGR تموّل دراسات وأبحاثاً تتعلّق بالمياه في لبنان.
ويرى الخبير أنّه كان على وزارة الطاقة ومؤسّسة مياه بيروت أن تبرهن عدم وجود علاقة بين حوض نهر إبراهيم وتغذية نبع جعيتا، “لأننا لا يمكن أن ندفع لإنشاء سدّ يغذّي بيروت بكلفة عالية من جهة، ونتسبّب من جهة ثانية بخفض تغذية نبع جعيتا الذي يغذّي بيروت أيضاً”.
رد لجنة سدّ جنّة
يصف أعضاء في لجنة سد جنّة في حديث مع “المفكرة” دراسة BGR بـ “الهَمَيونية، وما إلها أي أساس علمي. ويقولون إنّ الخبير الألماني آرمين مارغان تجمعه صداقة مع شخص يملك شاليهات سياحية في منطقة نهر إبراهيم وأنّ بحيرة السدّ تشكّل خطراً على مشروع صديقه وإنّه قال إنّ لا مشكلة في السدّ إذا تمّ تخفيض مستواه 20 متراً عمّا هو مقرّر، وهذا الواقع المخفي من القصة”.
ويشير عضو لجنة سد جنّة المهندس جورج ملكي إلى أنّ “مؤسّسة مياه بيروت وجبل لبنان تعاقدت مع خبراء لوضع تلوينة في آبار في مناطق سرعيتا والضفتين اليمنى واليسرى من قرطبا لترى إذا كانت التلوينة ستظهر في نبع جعيتا، فخرجت كلّ التلوينة في أسفل سدّ جنّة ولذا تبيّن لنا أنّ لا علاقة لحوض نهر إبراهيم بنبع جعيتا”. وكذلك، وفق ملكي، أتت مؤسّسة مياه بيروت وجبل لبنان بالخبير الهيدروجيولوجي بهزات حكيم و”هو من كبار الخبراء في لبنان، وأكّد أنّ هناك ثلاثة أودية بين حوض نهر إبراهيم ونبع جعيتا ونهر إبراهيم أوطى من جعيتا ولذا من المستحيل أن يغذيه بالمياه”. واستنتج ملكي: “يعني كلّ الحكي عن تغذية حوض نهر إبراهيم لنبع جعيتا كان من تأليف آرمين مارغان”.
في المقابل، يعلّق الخبير المُتابع لسدّ جنّة، والذي رغب في عدم ذكر اسمه، “أنّ مؤسّسة مياه بيروت وجبل لبنان قامتْ باختبارات وهذا صحيح ولكن أيّ اختبارات؟”. ليجيب: “جاءت المؤسسة بـ 24 كيلوغراماً من التلوينة، واختارت هي البئر، ولم تترك مجالاً للخبراء المستقلّين باختياره، وقالت لهم أنْ يضعوا التلوينة فيه، وهو فوق نبع الحكيم في نهر إبراهيم، ووصل الخبراء ليجدوا البئر محفورة في مكان يبدو جلياً أنّها ستظهر في نبع الحكيم القريب، وهو ما حصل إثر وضع التلوينة في البئر الذي اختارته المؤسّسة، إذ ظهر 21 كيلوغراماً من التلوينة في نبع الحكيم وبقي مصير 4 كيلوغرامات مجهولاً”. وعندما طلب الخبراء المستقلّون من وزارة الطاقة أن تمنحهم أكثر من 15 يوماً لانتظار ما إذا كان ما بقي من التلوينة سيظهر في جعيتا، جاء الأمر بسحب معدّات المراقبة من جعيتا، وفي اليوم الثاني، تمّ وضع حجر الأساس لسدّ جنّة (شباط 2013)، وأعلنت وزراة الطاقة ومؤسّسة مياه بيروت وجبل لبنان أنّ لا علاقة لحوض نهر إبراهيم بتغذية نبع جعيتا”. وعليه، يرى الخبير نفسه أنّ “لا علاقة لهذا الاختبار بالشكل الذي نُفّذ فيه بالمصداقية أو المنهجية العلمية”. والأسوأ وفق هذا الخبير، أنّ تقرير الخبراء الذي قُدّم لشركة “خطيب وعلمي” ذُيّل بعبارة تفيد بأنّ الاختبار “لا يؤكّد أنّ لا صلة بين حوض نهر إبراهيم ونبع جعيتا”. ولكن تمّ شطب هذه العبارة من التقرير لتغيير خلاصته نهائياً وتمّ تقديمه من دونها”، ليضيف أنّه “كان يجب حفر بئر التلوينة في موقع بحيرة سدّ جنّة وليس في المكان الذي اختارته وزارة الطاقة ومؤسّسة مياه بيروت وجيل لبنان”.
إشراك المجتمع المحلّي في قرار السدّ
يجلس مختار بلدة قرقرية وجنّة في وادي نهر إبراهيم هيثم الحاج حسن أمام منزله خلف منشآت السدّ بنحو 400 متر “خطّ نار” ليقول “لم نعرف بالسدّ إلّا عندما جاء الوزير جبران باسيل مع فريق عمل وزارة الطاقة ووضع حجر الأساس”. يومها، سأل المختار الحاج حسن عن مصير ضيعة جنّة التي بقي جزء كبير منها خارج الاستملاكات التي حصلتْ تمهيداً لوضع حجر أساس السدّ، فجاءه جواب باسيل واضحاً لا لبس فيه: “إنتو ما حدا مقرّب صوبكم خلّيكم ببيوتكم”.
في عين الغويبة ولاسا ودير مار سركيس يتحدثون عن بعض الاجتماعات التي عُقدت بعد وضع حجر أساس السدّ، وخلال إعداد دراسة الأثر البيئي التي رفضتها وزارة البيئة لاحقاً. يقول رئيس بلدية لاسا رمزي المقداد إنّه لم يُدعَ إلى “أيّ اجتماعات أو مشاورات بشأن سدّ جنّة، عرفنا بالسدّ عندما بدأوا العمل ونزلنا وقفناهم فأخبرونا أنّهم استملكوا وطلبوا منا مراجعة القضاء”. ويعتبر أنّ السدّ توقّف كلّياً منذ أكثر من عام، وفق ما أفاده القيّمون عليه لغاية 2022، بسبب العوائق المالية واختلاف الكلفة عمّا كانت عليه قبل انهيار الليرة، مشيراً إلى أنّ مياه لاسا تأتي من مغارة أفقا مباشرة “ولا علاقة لنا بالسدّ من حيث الاستفادة من المياه”. ويقول المقداد إنّ ضفّة بحيرة السدّ ستمتدّ إلى خراج لاسا وعليه “سنسنتفيد منها سياحياً وجمالياً”. ويشير رئيس بلدية لاسا إلى أنّه كان هناك مخطّط لشقّ طريق من ضفاف بحيرة السدّ إلى لاسا وأخرى من البحيرة إلى قرطبا “ولكن لا نعرف لماذا ألغيت الطريق إلى لاسا فيما أبقيَ على الطريق نحو قرطبا”. وعليه، اعترض سكان لاسا لدى مدير عام مؤسّسة مياه بيروت وجبل لبنان جان جبران لأنّ الطريق “حيوية بالنسبة لنا وتخدم الضيعة وتسهّل الوصول إليها شتاء لأنّ مسار الطريق التي كانت مخطّطة مع السدّ منخفضة ولا يتساقط عليها الثلج كما طريقنا الحالية”، وفق المقداد. ويلفت إلى أنّ هذه الطريق كانت ستنشّط السياحة المرتبطة ببحيرة السدّ في لاسا وستتيح فرص عمل خدماتية للعابرين والسيّاح وتسمح بوجود رصيف قد يشكّل استقطاباً لافتتاح مقاهٍ ونقاط بيع سريعة. و”لكن يبدو كأنّهم يريدون فتح بحيرة السدّ على قرطبا فقط، وبالتالي منعوا عنّا الاستفادة من المرافق المرتبطة بالبحيرة وسياحتها الموعودة، وهذه كانت وعودهم لنا والتي تركّزت على السياحة، وبالتالي ستتبخّر هذه الوعود مع إلغاء الطريق”، يضيف. ويشير المقداد إلى أنّ الدولة استملكتْ من خراج لاسا ومشاعها نحو 270 ألف متر مربع. “ونحن قبضنا مستحقاتنا من الاستملاكات في تموز 2021، ولكن عين الغويبة لم يقبضوا بسبب الخلافات الموجودة بيننا وبين عين الغويبة على جزء من الخراج كونها انفصلت عن لاسا في 2004، ونحن نعمل على استرداد أملاكنا في المشاع. ومجمل قيمة الاستملاكات 3 مليارات ليرة قبضنا منها مليار ونصف المليار فيما بقي النصف الآخر مجمّداً بانتظار أن يبتّ القضاء بالقضية بيننا”. ويتضمّن المشاع الذي استملكته الدولة من لاسا أحراج سنديان وصنوبر، و”لا أعرف كيف وافقت البلدية السابقة على بيع المشاع من دون تخمين قيمة الأشجار الكثيفة التي يحتويها المشاع والتي قطعها منفذو السد”، يقول المقداد ليلفت أنّ البلدية “طعنتْ في الاستملاك لتخمين الأشجار ودفع ثمنها”. ويعتبر المقداد أنّ لاسا قد ظلمت في تخمين العقارين 95 و96، تبلغ مساحة الأوّل 240 إلى 250 ألف متر مربع، ودفعوا لنا ثمن المتر المربع 10 آلاف ليرة فقط، فيما دفعوا ثمن المتر المربع في العقار الذي تبلغ مساحته 17 ألف متر مربع 40 ألف ليرة، لنلمس التناقض في التخمين”. واستأنفت بلدية لاسا هذا التخمين مع مطالبة “بدفع ثمن الأشجار بقيمة 100 دولار لكلّ شجرة، وقال لنا المحامي إنّ الأموال التي دفعت للبلدة لا يمكن أن تكفي ثمناً للأشجار التي قُطعت”. ويشير المقداد إلى أنّ لاسا تلقّت وعوداً بتغيير تصنيف الأراضي المتاخمة لبحيرة السدّ من زراعية إلى سياحية تمهيداً للاستثمار والاستفادة من النهضة السياحية الموعودة. وأشار إلى أنّ قيمة الأراضي المتاخمة للنهر كانت بحوالي 50 دولاراً للمتر “بس ما حدا كان يبيع إلى أنْ جاءت الدولة واستملكت تحت عنوان المصلحة العامة”.
يشير رئيس بلدية عين الغويبة حسين علي برو إلى أنّ رئيس البلدية السابق كان على اطّلاع بخصوص السدّ “كنّا نعرف ببناء السدّ وأنّنا سنستفيد منه عبر توليد الطاقة الكهربائية وتربية الأسماك في بحيرته ومن فرص العمل التي ستتأتى من حوله وكذلك ري الأراضي الزراعية”، وهي وعود أطلقها لأهالي البلدة وبلديتها القيّمون على السدّ” ويستبشر برّو “خيراً بفوائد السدّ كمشروع حيوي” كما يصفه. “ولكن لا يمكنكم تربية الأسماك في بحيرة مخصّصة لمياه الشفة، وكذلك ليس هناك مياه مخصّصة لكم للري منه”، نقول لرئيس بلدية عين الغويبة على سبيل السؤال، فيجيب “نحن موعودون بذلك، وبأنّه سيكون نقلة إنمائية وإنتاجية للمنطقة”.
لدى عين الغويبة أراضٍ كبيرة على نهر إبراهيم، وفق برّو “بس ما عنّا طرقات عليها إلّا طريق إجر قادومية، ولو كان في طريق مشقوقة ومرتّبة كانت بتكون أحلى مشاريع زراعية ومقاهي ومطاعم”. ولذا رحّبت البلدة وأهلها بمشروع السدّ “قلنا يلّا إجا وقت إنعاش المنطقة، كنّا ننزل ع أراضينا ع الدواب وبمشقة سير طويل على الأقدام لنصل إلى حقولنا والنهر، ولكن للأسف لم تنظر إلينا الدولة نظرة إنمائية”.
كان رئيس البلدية نفسه يملك مع أبناء عمومته نحو 42 ألف متر مربع من الأراضي على ضفة النهر: “استملكتها الدولة مع نحو 500 ألف متر مربّع بين أراضينا وأراضي لاسا، فيما استملكت نحو 400 ألف متر مربّع من الناس”. لم تقبض عين الغويبة مستحقّاتها من الاستملاكات بسبب الخلاف مع جارتها لاسا على المشاع، فيما دفعت الدولة “ما بين 20 إلى 30 دولاراً سعر المتر المربّع الواحد للناس، حسب نوع الأرض وموقعها، كما عوّضت عن الأشجار المثمرة وموسم الخضار”، كما يؤكد برّو. ويرى أنّ السدّ ساهم في ارتفاع أسعار الأراضي في عين الغويبة “إلى 80 و120 دولاراً للمتر الواحد حسب موقع الأرض وقربها من بحيرة السدّ”، ليشير إلى أنّ “الناس متأمّلة تستثمر على بحيرة السدّ وتنتعش السياحة وفي ناس بلشت تبني مشاريع سياحية للمستقبل”. ويؤكد برّو أنّ البلديّة مع السدّ في حال كان لمصلحة الناس وبيروت وجبيل من دون تأثير على البيئة والمواطنين “ما زلنا نتمنى أن يسكتمل السدّ في حال كان سيأتي بالخير على المنطقة وأهلها”.
يكشف رئيس دير مار سركيس الأب يوحنا أنّ هناك 90% تقريباً من الأراضي التي استملكتْ لصالح سدّ جنّة وبحيرته في بلدة، وخصوصاً من جهة الدير في قرطبا، هي ملك الدير سواء كانت مستثمرة من مزارعين أو يديرها الدير مباشرة. ويؤكد الأب يوحنا أنّ الدولة استملكتْ 265 ألف و297 متر مربع من الدير مباشرة “وما زلنا نملك أراضي واسعة في جنّة أبلغونا نيتهم استملاكها من جديد”. ويشير رئيس دير مار سركيس إلى بعض الإشكالات التي رافقت الحديث عن استملاك أراضي الدير في جنّة “ولذا تمّ كفّ يد رئيس الدير السابق عن المفاوضات ورُفعت إلى الرئاسة العامة للرهبانية المارونية للبتّ فيها وهي التي عقدت الاتفاق مع الدولة”. ويؤكّد أنّ الدير منح كلّ المزارعين الذين استُملكت الأراضي التي كانوا يستثمرونها “أراضي بديلة عن تلك التي استملكتها الدولة بعقود استثمار على تسع سنوات، أي يدفعون مبالغ سنوية رمزية للدير مقابل استثمار أراضيه”، مشيراً إلى أنّ الدير لم يدفع للمزارعين بل قبضوا تعويضات الاستملاك من الدولة التي دفعت بدورها للدير أيضاً ما قيمته نحو مليار و300 مليون ليرة لبنانية على سعر 1500 ليرة للدولار يومها، أي ما مجمله 866 ألف دولار. وأكد أنّ الدولة هي التي دفعت للمزارعين ودفعت ثمن الأرض للدير أيضاً بقيمة مليار و300 مليون ليرة، غير المبالغ التي دفعت للمزارعين. ويوجد نحو 10 مزارعين من آل عكر في جنّة استملكت الأراضي التي كانوا يشغلونها.
Good Bye جنّة
تعتبر قرية جنّة المنطقة الأشدّ تأثراً بسدّ جنّة كونه سيزيلها من الوجود نهائياً، عكس وعود وزير الطاقة الأسبق جبران باسيل لدى وضعه حجر الأساس للسدّ. يومها سأل مختار جنّة هيثم الحاج حسن باسيل عن مصير أهل جنّة وقريتهم فجاءه الجواب “إنتو ما حدا جايي صوبكم، كمّلوا حياتكم عادي”.
نحن نتحدّث عن جنّة، الضيعة التي يمكن وصفها “باسم على مسمّى” ليس لموقعها الجغرافي المميّز في قلب وادي نهر إبراهيم وعلى ضفّتيه فحسب، بل لجمالها وبساطتها ونأيها عن الإسمنت وتواجدها في قلب الطبيعة تجري من حولها الأنهار فيما تتفجر الينابيع من أراضيها ومرتفعاتها. يشقّ نهر إبراهيم جنّة إلى نصفين، فيما يهدر نبع بطراييش من أعاليها من ناحية حدودها مع قرطبا ليروي أراضيها الزراعية ثم يكمل ليصبّ في نهر إبراهيم. تتوزّع على ضفتي نهر إبراهيم مقاهٍ وأراضي زراعية وخيم زراعية تشكّل مرتعا لزراعة الأشجار المثمرة وأنواع الخضار كافة وعلى رأسها الفريز والبندورة واللوبياء، وبين كل هذا نجد نحو 20 منزلاً لسكانها بعدما ابتلعت بحيرة السدّ نحو 8 منازل في جسم البركة كانت مشغولة من آل أبي عكر. تقع جنّة على بعد 12 كيلومتراً من أوتوستراد جرد جبيل الذي يكمل مساره نحو بلدات قرطبا وعين الغويبة ولاسا فالعاقورة، وبالتحديد عند المنعطف الواقع على مدخل بلدة علمات نحو أسفل وادي نهر إبراهيم. تنقسم الضيعة من حيث الاستثمار بين مزارعين من آل أبي عكر يعتاشون من أراضٍ يملكها دير مار سركيس، التابع للرهبنة المارونية، ويستثمرونها عبر الضمان، ومزارعين آخرين من آل الحاج حسن يتحدّرون من قرية قرقرية المحاذية لجنّة. قلّة من آل الحاج حسن تملك عقاراتها في جنّة، فيما يستثمرون بقية الأراضي من الدير أو من ملاك من خارج المنطقة يعيشون على الساحل.
هناك في جنّة، كما في مجمل وادي نهر إبراهيم، لا مكان إلّا للأحراج الكثيفة “ووسط هذا الوادي التاريخي والثقافي والمائي قرّرت الدولة أن تزرع سدّاً” كما تصف الواقع الاختصاصية في الموارد الطبيعية د.ة ميرنا سمعان التي تلفت إلى أنّ كثافة الأشجار في الوادي وجنّة “تبلغ من شجرة إلى 3 أشجار أو شجيرات في المتر المربع الواحد”. أصدرت د.ة ميرنا بالشراكة مع د. ريكاردوس الهبر كتاب “نهر أدونيس: وادي الظلال الراقصة” (Adonis River, Valley Of The Dancing Shadows) في 2013، حيث تشير إلى أنّه تمّ قطع الأشجار على مساحة 480 ألف متر مربع، كما قدّرت دراسة الأثر البيئي التي شاركت في إعدادها “يعني بقدّر أنّهم قطعوا ورح يقطّعوا نحو 480 ألف شجرة على الأقلّ لاستكمال السدّ وجسم البحيرة في حال استكمال المشروع”، كما تؤكّد.
وحدها الطريق من منعطف علمات إلى مدخل ضيعة جنّة، (حيث تنتصب لوحة معدنية صفراء تؤشر إلى مشروع السدّ)، معبّدة بالإسفلت وسط الأحراج الكثيفة والغطاء النباتي النادر. عُبّدت الطريق بعدما أرغم سكانها وأهلها الشركة، متعّهدة تنفيذ السدّ، فرشها بالإسفلت بعدما بقيت ضيّقة ومحفّرة لغاية البدء بتنفيذ المشروع. اعتصم الأهالي ومنعوا مرور الآليات والموظفين والعمال ليرغموا الشركة على تعبيد طريقهم بعدما وسّعها المتعهدون لتمكين الآليات الضخمة من الوصول إلى موقع السدّ عبر الوادي الحرجي الكثيف والشديد الانحدار.
قبل نحو 4 سنوات، وكان قد مضى على بدء تنفيذ السدّ نحو 5 سنوات، وفق ما يؤكّد المختار الحاج حسن، استفاق الأهالي على مهندسين وموظفين يروحون ويجيئون في حقولهم وبين بيوتهم. “عند سؤالهم عمّا يفعلون، أخبرونا أنّهم يمسحون الأراضي تمهيداً لاستملاكها حيث لا يمكن أن يبقى أي إمكانية لبقاء السكان بعد حائط السدّ، لأنّ ذلك يشكّل خطراً علينا”. وضعت الدولة إشارات على أملاك سكان جنّة من ناحية آل الحاج حسن وعواضة، ومنذ ذلك الحين “نحن ممنوعون من بيع أراضينا أو رهنها أو التصرّف بها بأيّ شكل من الأشكال، وننتظر وعود الجهات الرسمية ومن بينها مؤسّسة مياه بيروت وجبل لبنان بالتعويض العادل علينا”، يقول الحاج حسن.
تختلف حال آل الحاج حسن من سكان جنّة عن حال أهلها من آل أبي عكر الذين قبضوا تعويضات وصلت إلى حدود 100 ألف دولار لكلّ بيت، عندما كان الدولار بسعر 1500 ليرة لبنانية، وفق ما يؤكد مختارهم جان أبي عكر لـ “المفكرة”. وتهجّر من مكان بحيرة السدّ نحو 10 مزارعين بعدما هُدمت بيوتهم تمهيداً للجرف واقتلاع الأشجار”كانت المنطقة مكان بحيرة السدّ وحائطه اليوم عامرة بكافة أنواع الأشجار المثمرة، فيما كنّا نزرع الأرض بشتى أنواع الخضار وعلى رأسها الفريز والبندورة والخيار والورقيات وغيرها”، يؤكد أبي عكر.
ولد المختاران أبي عكر والحاج حسن كما الآباء والأجداد في جنّة “نحن عايشين هون أباً عن جدّ” يقول أبي عكر وهو يجول بناظريه في الحقول الممتدّة حول منزله على ضفتي نهر إبراهيم، فيما تجري المياه غزيرة وسط اخضرار وأراض نادرة الخصوبة. من هذه الأراضي الزراعية كلها اعتاش اهالي جنّة وربّوا أجيالاً متعاقبة، فيما استثمر بعضهم على ضفاف النهر في استراحات سياحية تشهد إقبالاً كثيفاً خلال فصل الصيف حيث يشكّل موقع جنّة وأشجارها وبرودة النهر ونقاوته استقطاباً جيداً لحركة سياحية منتجة.
مع بدء أعمال حفريات السدّ وتحويل النهر عبر نفق في الجبل الغربي للنهر، انقطعتْ المياه عن الاستراحات والمقاهي، ثم عادت “معوكرة وموحلة”، كما يؤكد حافظ الحاج حسن، صاحب استراحة على النهر.
ومع الحفريات والأعمال أيضاً، انقطع نبع جنّة الرئيسي بطراييش الذي كان يؤمّن مياه الريّ والشفة للسكان والمزارعين، إضافة إلى نهر إبراهيم، وفق ما يؤكد المزارع، ابن جنّة، حسين عواضه، لـ “المفكرة” “خرّبوا لنا القنوات الزراعية التي كانت تأتي بمياه نبع بطراييش إلى جنّة، وصارت أراضينا ومزروعاتنا بلا مي”. يأتي بطراييش إلى جنّة من الجبل الشرقي الذي يفصل الضيعة عن قرطبا. مع “عوكرة” مياه نهر إبراهيم وهدم قنوات الريّ من نبع بطراييش وحرمان ضيعة جنّة ومزارعيها من مياهه، حوّلت الآليات أيضاً حياة سكان جنّة منذ 2013 ولغاية اليوم إلى جحيم “غبار وضجيج وآليات ضخمة تروح وتجيء بين البيوت عدا عن التفجيرات”، وفق المختار الحاج حسن. هنا تداعى أهالي جنّة وبدأوا بالضغط على الشركة ومؤسّسة مياه لبنان لتعويضهم خسائرهم وتهجيرهم. وعليه بدأت الشركة تدفع بدل إزعاج وقطع أرزاق وغبار بما تتسبّبه من أمراض صدرية للأطفال والسكان وكبار السن، وكذلك وظّفت بعض شبّان ورجال الضيعة كحرّاس أمن في منشأة السدّ، وكل ذلك تحت ضغط السكان وقطعهم المستمر للطريق ومنع عبور الآليات. ولكن مع توقف المشروع وبروز جائحة كورونا والأزمة الاقتصادية توقفت التعويضات “ما عدنا شفنا قرش ولكنهم يعدوننا بدفع كل مستحقاتنا لاحقاً”، وفق ما ينقل الحاج حسن عن المسؤولين في مؤسّسة مياه بيروت وجبل لبنان بعدما سحبت الشركة البرازيلية المتعهدة الأساسية تنفيذ سد جنّة، معظم موظفيها.
حافظ الحاج حسن والمزارع حسين عواضه ينقلان صورة مختلفة عن علاقة أهالي جنّة مع القيمين على السدّ “لن نقبل باستئناف الأعمال بعد اليوم، نحن لا نريد ترك بلدتنا ومكان عيشنا حيث ولد جدودنا وآباؤنا”، يقول الحاج حسن. حتى مبلغ 100 ألف دولار “هو قليل على كلّ مزارع كتعويض عن أرضه وبيته”. فهذا المبلغ “لا يشتري شقة ولا يؤمّن فتح باب رزق بديل نعتاش منه، وماذا عن مردودنا الزراعي والسياحي؟”.
عندما هدمت الشركة قنوات الرّي في جنّة، قامت بتركيب مضخّات إلى خزانات بلاستيكية ركزتها في أهالي الضيعة وبدأت تضخ المياه من نهر إبراهيم إلى الخزانات ومنها إلى أراضي المزارعين ومنازلهم. مع توقّف السدّ اليوم والتقنين القاسي في تشغيل المولّدات الكهربائية، لم تعد المياه تكفي سكان جنّة ولا مزارعيها “شو منعمل بحياتنا ورزقنا هلّق؟” يسأل المزارع حسين عواضه، وهو يشير إلى حقله حيث يقوم باقتلاع شتول الفريز “ما بقى في مَيْ حتى إسقي، وأنا عايش بالجنّة، تجري من حولي الأنهار”، في إشارة إلى نهر إبراهيم ومجرى نبع بطراييش الذي يتدفّق غزيراً على مدار أيام السنة “هيدا نبع يتفجر من الصخر ودائم شتاء وصيفاً، وليس مجرّد مجرى سيل يجفّ مع توقف الأمطار، يعني ما بينشف بالصيف وهن خربوا قنوات الري منه إلى أراضينا”.