في انسجام مع مواقفه السابقة، قدم النائب جبران باسيل بتاريخ 8 آب 2019 بمعية تسعة نواب من كتلة لبنان القوي (وهم سيزار أبي خليل وسليم عون وميشال معوض وإدكار معلوف وأنطوان بانو وجورج عطاالله وحكمت ديب وابراهيم كنعان وأسعد درغام)، اقتراح قانون معجلا مكررا يرمي إلى إلغاء الفقرة الأخيرة من المادة 80 من قانون الموازنة العامة لعام 2019. وكانت هذه الفقرة نصت على حفظ حقوق الناجحين في المباريات والامتحانات التي أجراها مجلس الخدمة المدنية وأعلنت نتائجها حسب الأصول، في أفضلية التعيين في الإدارات العامة، وذلك خلافا للقانون المعمول به والذي يسقط حقوق هؤلاء في حال مرور سنتين من دون تعيينهم رسميا (المادة 8 من نظام الموظفين). وقد استند هذا الاقتراح المدرج على جدول أعمال الجلسة التشريعية بتاريخ 24/9/2019 إلى حجج عدة، أبرزها “أن المباريات والامتحانات … قد أسفرت عن خلل فاضح بالتوازن الوطني بعكس “مقتضيات الوفاق الوطني ولا تتم معالجته إلا بالتفاهم على اعتماد حلول كان العمل جاريا عليها وقد بلغت أو أوشكت أن تبلغ الخواتيم المفيدة”.

يجدر التذكير أن باسيل كان هاجم تضمين قانون الموازنة هذه الفقرة، ليس حول مبدئية حفظ حق هؤلاء بالتوظيف رغم انقضاء المدة القانونية على نجاحهم، إنما حول هويتهم الطائفية حيث وصلت نسبة المسلمين من بينهم إلى 426 مقابل 140 للمسيحيين. وفيما تخوف البعض من أن تثني هذه الفقرة رئيس الجمهورية ميشال عون عن التوقيع على قانون الموازنة العامة للسبب نفسه، فإن هذا الأخير وجه بتاريخ 31 تموز 2019 للمجلس النيابي بالتزامن مع توقيعه على هذا القانون كتابا دعاه فيه إلى تفسير معنى المادة 95 من الدستور على ضوء الفقرة ي من مقدمة الدستور التي تنصّ على أن لا شرعيّة لسلطة تناقض ميثاق العيش المشترك.

وفيما يتعيّن على النواب مناقشة صفة العجلة للاقتراح قبيل التصويت عليه مما قد يؤدي إلى إحالته إلى اللجان، فإنّ مجرد تقديمه يستدعي ملاحظات أربع:

  • أن نواب العهد استبقوا النقاش الذي دعا إليه رئيس الجمهورية والمقرر حصوله في 17 تشرين الأول، حيث قدموا اقتراحهم بصيغة المعجل المكرر بعد 8 أيام من كتاب الرئيس. والأهم أنهم أعلنوا من خلال اقتراحهم رفضهم لأي تجاوز للمناصفة في تعيين الموظفين العامين، حتى في الفئات الثالثة والرابعة، بشكل يتعارض بوضوح مع ظاهر المادة 95 من الدستور التي حصرت المناصفة بتعيينات الفئة الأولى. وتنصلا من هذه المادة الواضحة والصريحة، أعادوا الإشارة إلى “مقتضيات الوفاق الوطني” على غرار ما تضمنه كتاب رئيس الجمهورية لجهة وجوب تغليب الوفاق الوطني على أي اعتبار آخر. وبفعل هذا الاستعجال، يظهر أن نواب لبنان القوي يسعون إلى فرض نقاش بهذا الشأن قبل الجلسة المنتظرة لمناقشة كتاب الرئيس في 17 تشرين الأول القادم. وهو أمر قد يحصل فعليا في حال موافقة غالبية النواب على صفة العجلة.
  • أن تذرّع أصحاب الاقتراح بوجود مساعٍ لتجاوز ما أسموه “الخلل الفاضح بالتوازن الوطني” وقرب التوصل إلى خواتيم مفيدة من دون إعطاء أي تفاصيل حول هذه المساعي أو شكل هذه الخواتيم (وهي واقعة يؤكدها كتاب رئيس الجمهورية) إنما يؤشر إلى تحويل مسألة الأحقية في تولي وظائف عامة من مسألة حقوقية ودستورية (أحقية الناجحين في المباريات بالتعيين في الفئات الثالثة والرابعة من الوظيفة العامة) إلى مسألة سياسية تخضع للمساومة والمحاصصة، وفق قاعدة أن الوفاق السياسي ذات قيمة أعلى من الدستور وأن التمثيل الطائفي يسمو على أيّ اعتبار آخر، بما فيه الكفاءة. ومن هذه الزاوية، يستدعي هذا الاقتراح النقد نفسه الذي سبق ووجهته لكتاب رئيس الجمهورية، على ضوء أحكام الدستور والتي أولت على العكس من ذلك تماما الاعتبار الأول للدولة ومصالحها وأخضعت أي تمثيل طائفي لما تفترضه هذه المصلحة.
  • مقابل سعي الاقتراح إلى إجهاض المباريات أو الامتحانات، خلتْ الأسباب الموجبة من أيّ إشارة إلى رفض النواب للتوظيف العشوائي (رغم أن هذا التوظيف أدى إلى توظيف عشرة أضعاف الأشخاص المعنيين بالمادة المراد إلغاؤها خلال فترة 2017 و2018 وأن أحد النواب الموقعين تولى بنفسه التحقيق في هذا النوع من التوظيف من منطلق صفته كرئيس لجنة المال والموازنة وهو ابراهيم كنعان) أو التفاتة إلى أهمية اعتماد الكفاءة في اختيار الموظفين العامين، وكأنما هذه الاعتبارات كافة مسائل ثانوية لا وزن لها مقارنة بمسألة التوازن الطائفي. ومن شأن هذا التجاهل أن يشكل دليلا آخر على انزلاقة النظام اللبناني من نظام يحمي الأقليات بهدف إشراك الجميع في بناء الدولة التي هي الهدف والغاية، إلى نظام يسخّر فيه زعماء الطوائف الحقوق الممنوحة لها لتغليب مصالحهم ومعها منطق المحاصصة على مصلحة الدولة، وبكلام آخر للهيمنة على الدولة والقضاء على حظوظ بنائها.
  • ختاما، وعلى ضوء كل ما تقدم، تجدر الإشارة مجددا إلى أن التمسك بالفقرة “ي” من مقدمة الدستور لتغليب التوازن الطائفي على مصلحة الدولة، هو من قبيل التمسك بعبارة “لا إله”. فالقول أن لا شرعية لسلطة تناقض العيش المشترك، يأتي ضمن سياق دستوريّ ولا يمكن فصله عن مبدأ آخر وهو بمثابة حجر الأساس لأي دستور، وهو أن لا شرعية لسلطة تناقض مصالح الدولة.

 

اعتبارا من هذه المنطلقات، وإذ يبقى النواب مدعوين للتراجع عن اقتراحهم للأسباب المبينة أعلاه، تتجه أنظارنا إلى الوقفة الاحتجاجية التي دعا إليها الناجحون في المباريات (“ناجحون لأجل لبنان” وفق تمسيتهم) في 24 أيلول صباحا (الساعة التاسعة) ضد الاقتراح المذكور، والتي يؤمل أن تحظى بما تستحقه من تضامن إعلامي وشعبي واسع صونا لما تبقى لنا من الدولة.