ثمّة قطبة مخفيّة في ملف استجرار الغاز من مصر والكهرباء من الأردن. بعد بثّ الكثير من التفاؤل بشأن سرعة التنفيذ، وتحديد مواعيد لا تتأخر عن نهاية العام الماضي، بدأت تظهر العقبات الواحدة تلو الأخرى. بحسب المعطيات المتوفّرة، فإنّ التأخير مرتبط بعوامل متداخلة سياسية وتقنية.
العقدة الأميركية
عندما التقى رئيس الحكومة نجيب ميقاتي الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، أبلغه الأخير التزام مصر دعم لبنان في هذا الملف. وعندما سُئل وزير البترول المصري كانت الإجابة أن مصر صارت جاهزة لتصدير الغاز لكنها تنتظر التصريح الأميركي، الذي يسمح بتخطي العقد لمفاعيل قانون قيصر الذي يفرض عقوبات على المتعاملين مع النظام السوري. حتى اليوم أرسلت واشنطن أكثر من كتاب إلى السلطات المصرية، لكن أياً منها لم يُطمئن الشركات المعنية بالملف. فبحسب الدراسات القانونية للردود الأميركية لم يكن الإعفاء واضحاً، ما يؤدي إلى الخشية من تبعات لاحقة. حجة الأميركيين في عدم إرسال التصريح المنتظر أنه لا يمكن أن يُعطى تصريح على بياض. الأمر نفسه حصل مع الجانب اللبناني. سبق أن أرسل الأميركيون لائحة من الأسئلة إلى مؤسسة كهرباء لبنان تطلب الإجابة عليها، وتتعلق بأسماء المعنيين في الملف، إن كانوا أفراداً أو شركات، بحجة التأكد من أن أياً منهم ليس على لوائح العقوبات الأميركية، قبل تسليم الموافقة النهائية.
على خط موازٍ، يؤكد العاملون على إنجاز الملف التقني أن الأمور لم تنتهِ بعد. الخلافات بوجهات النظر بين الجانبين اللبناني والمصري مستمرة. ولذلك، لا يزال توقيع العقد، بخلاف ما حصل مع الأردن، مؤجلاً. التفاصيل تأخذ الكثير من الوقت وعشرات الرسائل المتبادلة. التغيير الأساسي عن العقد الذي وُقّع في العام 2009 كان تحوّل لبنان من شاهد على العقد بين مصر وسوريا إلى شريك. وهذا، إضافة إلى محاذير مرور الخط في سوريا المُعاقبة أميركياً، له تبعات عديدة، ما يستدعي وضوح الرؤية في كل ما يتعلق بالكمّيات والدفعات، وما يترتب من إشكالات تتعلق بحصة سوريا، إضافة إلى ضمان عملية تبادل الغاز في سوريا (يصل الغاز المصري إلى الجنوب السوري، ثم تسلّم سوريا الغاز من منشآتها في حمص إلى شمال لبنان).
مع ذلك، يعتبر العاملون على خطّ التفاوض التقني مع مصر أن هنالك تشدّداً مصرياً في المفاوضات، ولذلك “المطلوب بعض الحلحلة”. فعدم الموافقة على أيّ من الملاحظات التي قدّمها لبنان يعني أن ثمّة مشكلة في مكان ما، يقول مصدر مسؤول في وزارة الطاقة.
عقدة البنك الدولي
بعيداً عن كل النقاط العالقة، تبقى مسألة التمويل هي النقطة الأهمّ. لبنان مفلس. وإذا لم يموّله البنك الدولي، فلن يحصل على الغاز. لذلك، فإنّ شروط البنك الدولي لا تقلّ أهمية عن الشروط الأميركية. الشرط الأول كان ضمان وقف النزف في قطاع الكهرباء، بما يسمح للبنان بتسديد القرض ودفع النسبة المتفق عليها من العقد. وهذا يفترض أن يتمّ عبر ضمان التوازن المالي لكهرباء لبنان، عبر تخفيض الهدر وزيادة التعرفة. تجدر الإشارة إلى أنّ القرض المُخصّص لاستجرار الغاز المصريّ تبلغ قيمته 300 مليون دولار. 30 مليون دولار مخصصة لمشاريع الطاقة المتجددة مصالح المياه، 10 مليون دولار بدل دراسات وتدقيق واستشارات، و ونحو 260 مليون دولار لدفع ثمن الغاز. في السنة الأولى يُفترض أن يُموّل البنك 95% من كلفة العقد، ومن ثم يُموّل 50% لفترة ستة أشهر، على أن تكون الأشهر الستة الأخيرة النسبة 30%، مقابل دفع لبنان للـ 70% المتبقية.
لذلك، كان البنك شريكاً أساسياً في إعداد الخطة التي قدّمها وزير الطاقة إلى مجلس الوزراء. وبعد إقرارها مع بعض التعديلات، يعكف المعنيّون في البنك على دراسة هذه التعديلات، تمهيداً لبدء مسار تنفيذ اتفاقية القرض. المشكلة الفعلية، بحسب مصادر مطّلعة تتعلق بدخول الخطة في تفاصيل لا تنتهي، فيما كان بالإمكان الاكتفاء بإعداد ورقة سياسات تشير إلى الخطط المنوي تنفيذها. لكن الدخول في تفاصيل المعامل ومناطق إنشائها نقل الخلاف إلى السياسة الداخلية، وهو ما برز في مسألة معمل سلعاتا. لكن بالنتيجة، وافق مجلس الوزراء، في 16/3/2022 على الخطة بعد تعديل تاريخ تعيين الهيئة الناظمة ليصبح في العام 2022 بدلاً من العام 2023. كما تمّ تعديل الخطة في شقّها المتعلّق بمواقع معامل الإنتاج، بحيث يتم تحديد تلك المواقع لاحقاً بحسب الحاجة ووفقاً للضرورة، مع مراعاة الشروط البيئية وعلى أن تُلحظ محطة منها في المنطقة الواقعة في ساحل لبنان الشمالي. أما مسألة رفع التعرفة، فتبقى مرهونة بزيادة التغذية إلى ما بين 8 و10 ساعات.
للتوضيح، كان البنك الدوليّ طلب معرفة: كيف تريد الدّولة معالجة مشكلة الكهرباء على المدى المتوسّط والطويل. كما طلب تشكيل الهيئة الوطنيّة، مقترحاً الآلية لذلك. كذلك أكّد أنّه لا يمكن تمويل الغاز ما لم يصلْ إلى دير عمار (كانت مصر طلبت تسليم الغاز على الحدود الأردنية السورية). وطالب البنك بإجراء دراسة بيئية واجتماعية لزوم التشغيل التجاري لخط الغاز، حيث وافق على خطة الالتزام البيئي التي أعدّتها الوزارة. كما وافق على تلزيم العقد لشركة “الأرض” (ELARD) بالتراضي (وافق مجلس الوزراء، في 16/3/2022، على تلزيمها المشروع، بقيمة 104.960 دولاراً).
عقدة شركات الخدمات
البنك الدولي كان طالب بالحدّ من الهدر الفني وغير الفني على الشبكة وتحسين الجباية والتدفقات النقدية. ولذلك، سعتْ وزارة الطاقة إلى تعديل عقود تقديم خدمات التوزيع، إلا أن الاتفاق قضى بالتمديد لهذه الشركات على أساس قانون تمديد المهل العقدية لسنة ونصف من دون تعديل. ومن دون أن يعترض البنك الدولي على ذلك، انطلاقاً من أن الغاية هي تحسين الجباية بغضّ النظر عن طبيعة عقود تقديم الخدمات. لكن مع ذلك، ظلّ وزير الطاقة وليد فيّاض مُصرّاً على تعديل العقود، بحجّة مطلب البنك الدوليّ وقرار مجلس الوزراء في 8/5/2019 الموافقة على الخطّة المحدثة لقطاع الكهرباء، والتي تضمّنت “التأكيد على تفعيل العمل بمشروع مقدمي الخدمات وتفعيل استقلالية عمل شركة مقدمي الخدمات”.
وبالرغم من أن الملف أقفل، خاصة بعد تأكيد ديوان المحاسبة، في الرأي الصادر في 11/3/2022، أن تعديل صلاحيات هذه الشركات يتطلب تعديل قانون إنشاء مؤسسة كهرباء لبنان. لكن وزير الطاقة، في الرسالة الموجّهة إلى مجلس إدارة كهرباء لبنان، في 16/2/2022، اعتبر أن بالإمكان زيادة الصلاحيات من خلال تعديل النظام المالي للمؤسسة الصادر بقرار عن مجلس الإدارة في العام 1997. وأشار إلى أن “التعديلات الطفيفة” المنوي إدخالها على أنظمة مؤسسة كهرباء لبنان ليس نقل صلاحياتها إلى مقدمي الخدمات ولا يندرج في إطار التشركة بل هو تقاسم صلاحيات مع الحرص على عدم التداخل في الصلاحيات والمهام لتفعيل سير المرفق العام.
ولذلك، اعتبر أنه طالما لمجلس الإدارة سلطة تقديرية في إعطاء صلاحيات لمقدمي الخدمات (“طبع فواتير – تركيب عدادات ذكية دون العودة للمؤسسة – الاستعانة بمفتشين – إلغاء القيمة النقدية للفواتير – فرض الغرامات وغيرها) تندرج في أطر عقدية وتتماشى مع أنظمة المؤسسة في حال اقتضت المصلحة العامة، فيكفي لإقرار التعديلات المقترحة على الأنظمة الداخلية للمؤسسة الحصول على استشارة مجلس شورى الدولة.
هذه الرسالة أدّت عملياً إلى استنفار بين الموظّفين، الذين أعلنوا الإضراب رفضاً لخطّة فيّاض. وأشارت نقابة الموظّفين إلى أنّ مؤسّسة التمويل الدوليةIFC التابعة للبنك الدولي تملك 16.67% من أسهم في شركة BUTEC والتي تملك بدورها أسهماً في شركة مقدمي الخدمات BUS، سائلة: ألا يشكّل هذا الأمر تضارب مصالح وفقًا للقوانين والأنظمة المرعية؟
ورفضت النقابة “أي تعديل على أنظمة المؤسسة المالية والإدارية بهدف إعطاء صلاحيات إضافية لشركات مقدّمي الخدمات بالرغم من الضغوط التي يمارسها الوزير فياض على إدارة المؤسسة.
كذلك، أعلنت النقابة في مؤتمر صحافي عُقد أمس الاستمرار في الإضراب والاعتصام حتى الثلاثاء المقبل، واعتبرت أن “مشروع مقدّمي الخدمات فاشل ولا يستحقّ التضحية بمؤسسة وطنية بحكم كهرباء لبنان”.
في المقابل، رأت مصادر مطلعة أنّ رأي الديوان واضح في هذا المجال، ولا يفترض بشورى الدولة أن يكون له موقف مضاد. فالديوان ميّز بين الصلاحيات التي تحتاج إلى تعديل قانوني، والمهام التي يمكن أن تضيفها المؤسسة للشركات، إن كانت بلا مقابل. ولذلك، تؤكّد مصادر معنيّة أنّه لا مانع لدى المؤسّسة بزيادة مهامّ يمكن أن تساهم في مساعدة الشركات على تخفيض الهدر. ومن هذه المهامّ على سبيل المثال، إمكانية تولي مسؤولية طباعة الفواتير داخل المؤسسة، لكن من دون أن تؤدي أي مهمة إلى الاقتطاع من صلاحيات الموظفين.
عقدة الترسيم البحري
كل هذه الإشكاليات والعقبات تعني عملياً أن أزمة الكهرباء مستمرة، خاصة إذا صدق الكلام الذي يتردد عن ترابط ملفي الترسيم البحري واستجرار الغاز. فالمسؤول عن الملفين هو الموفد الأميركي آموس هوكشتاين، وهو بالرغم من أنه لم يربط بينهما رسمياً، إلا أن ذلك لا يحتاج إلى الكثير من الجهد لتبيانه. في الزيارة الأخيرة، شارك الوزير فياض في اجتماع هوكشتاين مع رئيس الجمهورية. وبعد عرض التصوّر الأميركي لمسألة الترسيم، انتقل النقاش إلى مسألة استجرار الغاز المصري. فهل يكون رفض المقترح الأميركي للترسيم سبباً لضغط أميركي من بوابة استجرار الغاز، وتأخير الإعفاء من “قيصر”؟
الأزمة مستمرة
بالنتيجة، الوضع سيبقى على ما هو عليه، إلى حين موافقة مجلس إدارة البنك الدولي على القرض، وهو قرار يتأثر بشكل وثيق بالموقف الأميركي. فإذا قررت الإدارة الأميركية فصل مساري الترسيم واستجرار الغاز، ستفتح الطريق أمام موافقة البنك الدولي على القرض، بالتوازي مع إعفاء العقد مع مصر من تبعات قانون قيصر. أما إذا ظل المساران مترابطين، فسيكون على اللبنانيين الانتظار لوقت طويل قبل تحسّن التغذية، خاصة في ظلّ استمرار مصرف لبنان في رفض إعطاء كهرباء لبنان ما تطلبه من دولارات، حيث لم تحصل المؤسسة منذ أيلول الماضي سوى على 100 مليون دولار، اشترتْ فيها 3 بواخر غاز أويل وأجرتْ بعض الصيانات للمعامل. علماً أنّ المؤسسة تملك نحو 300 مليون دولار على سعر الصرف الرسمي، في حال وافق المصرف على صرفها، بخاصّة أنّ المؤسسة لا يمكنها الحصول على الدولارات من مصادر أخرى. حتى سلفة الـ78 مليون دولار التي أقرّها مجلس الوزراء أمس للمؤسسة لتشغيل المعامل، ظلّت شيكاً بلا رصيد حيث ربطت بإيجاد وزارة المالية آلية للتمويل. وعليه، فإن التغذية لن تزيد عن ساعتين إلى ثلاث ساعات يومياً، حيث يبقى المصدر الوحيد للفيول هو الفيول العراقي، وهو مصدر محدود بالزمن (حتى أيلول أو تشرين الأول المقبل) ما لم يتمّ تجديد العقد.