“
مساء يوم 23-08-2019، قطعت قناة نسمة التونسية بثها الاعتيادي، لتعلن قيام مجموعة مجهولة على حد وصفها بخطف مالكها “نبيل القروي” وشريكه شقيقه “غازي القروي”. وربطت الحادثة بترشح الأول بالذكر للانتخابات الرئاسية المبكرة وبرئاسته لحزب قلب تونس الذي يتقدم للانتخابات التشريعية لشهر أكتوبر 2019 في مختلف الدوائر الانتخابية. مباشرة، في إثر تداول الإعلام لهذا الخبر بصيغته تلك، صدر بيان عن وزارة الداخلية أكّد أنه تنفيذا لبطاقة إيداع بالسجن صدرت عن دائرة الاتهام بمحكمة الاستئناف بتونس التي تعهدت بنظر قضية تبييض الأموال والتهرب الجبائي، تم إيقاف المتهم نبيل القروي وإيداعه بالسجن المدني بالمرناقية. عدلت عند هذا الحد “نسمة” عن خطابها لتؤكد إيقاف “نبيل” وتتحدث عن اختفاء “غازي” وليتبين لاحقا أن الأخير غادر البلاد التونسية في ذات التاريخ في اتجاه الجزائر.
صباح اليوم الموالي، صدر بلاغ عن الوكالة العامة لدى محكمة الاستئناف بتونس ورد فيه “أنّ الشكاية المقدمة للنيابة العمومية بالقطب القضائي المالي والاقتصادي منذ شهر سبتمبر 2016 والمعروضة على دائرة الاتهام بهذه المحكمة تمّ النظر فيها أمس الجمعة، إثر استئناف المتهمين غازي ونبيل القروي قرار تجميد أموالهما وتحجير السفر عليهما، وقد قررت الدائرة تأييد قراري قاضي التحقيق بالقطب المتعلق بالتحجير والتجميد وإصدار بطاقتي إيداع بالسجن في حقهما وذلك تطبيقا للفصل 117 من مجلة الإجراءات الجزائية الذي ينص صراحة على أنه “يجوز دائما لدائرة الاتهام أن تصدر بطاقة إيداع ضد المتهم.”
ويبدو من المهم في هذا الإطار النظر في تعاطي نسمة مع حادثة إيقاف مالكها على مستوى أول، وطرح السؤال حول العلاقة المحتملة بين القرار القضائي والسياق السياسي الذي ورد فيه.
نسمة: ولاء مطلق لمالكها وخروج عن ضوابط المهنية
صاغ الفريق الإعلامي لقناة نسمة خبر الإيقاف بأسلوب بعيد عن المهنية ويعتمد الإثارة. وأكد هذا تحيز خطها التحريري لمالكها وتحولها إلى أداة دعاية تخدم مصالحه. وقد سبق للهيئة المستقلة للإعلام السمعي البصري “الهايكا”[1] أن حذرت من الخطر الذي بات خطاب القناة يشكله على الوعي العام ويخشى هنا أن يؤدي تعمد هذه الوسيلة الإعلامية أساليب دعائية إلى توجيه الناخبين التونسيين في المحطات الانتخابية المرتقبة وبالتالي التلاعب بهم.
الوكالة العامة تبرر إصدار دائرة الاتهام لبطاقتي الإيداع
حاولت الوكالة العامة في بلاغها أن تكون حاسمة في نفي كل شبهة توظيف للقرار القضائي من خلال تأكيدها على ثلاث مسائل هي أن:
– إثارة القضية كان بناء على شكاية من جمعية “أنا يقظ”،
– أن نظر دائرة الاتهام في الملف جاء بناء على استئناف المتهمين لقرار قاضي التحقيق المتعهد بالبحث بتجميد أموالهما وتحجير السفر عليهما،
– أن قرار دائرة الاتهام إصدار بطاقتي إيداع كان في إطار ممارستها لصلاحياتها القانونية التي تجيز لها اتخاذ مثل هذا القرار في كل الصور التي ترى أنها تستدعيه.
بعيدا عن هذا التبرير، سربت في ذات تاريخه وزارة العدل خبرا للإعلام مفاده أن وزير العدل كلف التفقدية العامة لوزارة العدل بإجراء أبحاث في ملابسات إصدار بطاقاتي الإيداع [2].
ترجح القراءة الحرفية للفصل 117 من مجلة الإجراءات الجزائية ومعها ما سبق ودرج عليه فقه القضاء التونسي أن المشرع أجاز فعلا لدائرة الاتهام أن تصدر بطاقات إيداع في كل الملفات التي تعرض عليها دون تقييد لهذه الصلاحية بشروط خاصة. ولكن هذه الإجازة لا تنفي أن ممارسة هذه الصلاحية يتعارض مع حقوق الدفاع لكونه تم دون الإستماع للمتهم ونائبه في موضوعه، ومع تصور الدستور التونسي للوظيفة القضائية والتي تفرض أن يكون القاضي حاميا للحقوق والحريات وبالتالي أن يعدل عن كل ممارسة قضائية ولو كانت مبررة قانونا تمس من الحريات ولا تتلاءم معها.
يظهر في المقابل قرار وزير العدل فتح بحث تحقيقي في ملابسات إصدار بطاقة الإيداع مجرد موقف سياسي يحاول أن يبرئ الحكومة من شبهة الوقوف وراءها خصوصا وأن سرية المفاوضة التي تحكم مداولات أعضاء الدائرة ستمنع كل محاولة للكشف عما يمكن أن يكون قد مورس من ضغوطات على أعضائها من خارج أو داخل مجلسها.
ويبدو من المهم وقد طرح ملف صلاحيات دائرة الاتهام وشبهات التدخل في عمل القضاء تجاوز محاولات التوظيف السياسي لهذا الاستحقاق والمسارعة إلى إصلاح منظومة الإجراءات الجزائية بما يخدم شروط المحاكمة العادلة ويضمن شفافية إجراءاتها وبما يوفر حلولا لمشاكلها.
ويكون من المهم هنا طرح السؤال حول الحاجة لمؤسسة الاتهام كما يكون من المفيد التفكير في إجراءات تحصن دوائر الحكم من محاولات التدخل في عملها أيا كان مصدرها. وقد يكون اعتماد نظام الرأي المخالف في كل أطوار التقاضي الجماعي المدخل الذي يحقق هذه الغاية ويوفر العلاج الأمثل لمرض عانى منه القضاء التونسي طويلا ويزيد التمسك الصارم بسرية المفاوضة من مقاومته لمجهود الإصلاح.
تنفيذ سريع لبطاقة إيداع: خدمات خاصة
بتاريخ 02-10-2018، أصدرت الدائرة الجنائية الاستئنافية بمحكمة الاستئناف بتونس حكما يقضي بسجن الناشط الإعلامي والسياسي برهان بسيس والذي عرف بمعارضته لرئيس الحكومة وموالاته لشق أحد منافسيه السياسيين مدة عامين بعد إثبات إدانته بتهمة فساد نسبت له. وبعد أقل من ساعة من صدوره أعلن عن ضبط فرقة أمنية على مستوى أحد مخارج العاصمة التونسية للمحكوم عليه.
وقد كرر إعلان إيقاف نبيل القروي ذات المشهد بذات تفاصيله إذ تم تنفيذ القرار القضائي في ذات يومه وكان مرة أخرى من تم التنفيذ عليه شخصية عامة تعارض السلطة القائمة.
يستدعي عادة مرور قرار قضائي للتنفيذ في حق متهم غير حاضر أمام المحكمة حيزا زمنيا يقتضيه إعلام الجهات المكلفة به وتعميم قياداتها لمضمونه على مختلف وحداتها. وقد غاب تماما هذا الحيز في الحالتين بما يوحي بتعامل خصوصي مع قرارات قضائية بعينها من الجهة الأمنية، وبما ينمي شبهة استعمال القرار القضائي لغايات سياسية. ويدفع التكرار المريب للتعبير عن الخشية من تحول مثل هذه الممارسات لسياسة عامة تعول على القضاء في إدارة الخلاف السياسي.
كشفت ممارسات القروي في الساحة السياسية وخصوصا منها التسريبات الصوتية التي تم تداولها عنه، عن كونه يعتمد بشكل كبير على الفساد في صناعة مساره السياسي. لكن فساده هذا لا يمكن بحال أن يبرر استعمال القضاء في تصفيته سياسيا لكون مثل هذا الاستعمال يعيد إنتاج منظومة الاستبداد ويضر بالمؤسسة القضائية التي استفادت كثيرا من الثورة سواء على مستوى تحسين شروط استقلاليتها أو على مستوى الثقة العامة في أدائها. ويقتضي التنبه لمثل هذا الخطر من المجلس الأعلى للقضاء بوصفه ضامنا لاستقلالية القضاء التحري في تواتره توصلا لفتح ورش إصلاح هادف وواع لمنظومة الإجرءات الجزائية يكون منطلقها تشخيص الحاجيات ومنتهاها ضمان الحق في المحاكمة العادلة ومنع كل فرصة لمعاودة تحكم قضاء التعليمات بمشهد القضاء.
[1] ورد ببيان صدر عن الهايكا بتاريخ 29-01-2019 ” إن ما تقوم به هذه القناة اليوم هو إصرار على إعاقة كل المبادرات الساعية لإنجاح عملية الانتقال الديمقراطي ولو بلغ ذلك حد الإضرار بالمصالح الوطنية العليا وعلى رأسها أمن البلاد. ونذكر هنا أن صاحب القناة “نبيل القروي” قد سبق له أن فتح فضاءاتها أمام أشخاص وثيقي الارتباط بالجماعات المتطرفة في سبيل تحقيق مصالح ضيقة. كما سبق له أن حاول وضع اليد على المشهد الإعلامي السمعي البصري ككل لولا أن الهيئة وأصوات حرة من البرلمان والمجتمع المدني وقفت حائلا دون ذلك. وقد عرّض ذلك الهيئة إلى حملات تشويه غير مسبوقة من قبل القناة وصاحبها، وهي حملات لطالما احترف القيام بها من خلال التخطيط وتوفير الآليات والإمكانيات اللازمة لها وهو ما تؤكده التسجيلات الصوتية والوثائق التي تم تسريبها بهذا الخصوص. “
[2] صدر مساء يوم 24-08-2019 بموقع الشروق أون لاين خبر للصحفية إيمان بن عزيزة ورد فيه ” أفاد مصدر مطلع بوزارة العدل الشروق اون لاين أن وزير العدل محمد كريم الجموسي أذن بتعهيد التفقدية العامة للبحث في ملابسات إصدار بطاقتي الإيداع في حق الأخوين القروي والتثبت من سلامة الإجراءات القانونية المتبعة “
“