في طفولتي، لطالما شكّل الأوّل من أيّار فرصة لي للاستفادة من العطلة الرسمية بمناسبة “عيد العمّال” للقيام بالزيارة السنويّة الأولى لبلدتي دير القمر الجبليّة مع بدء فصل الربيع وانكسار حدّة البرد فيها. وكانت تلك فرصة لي لزيارة بيت العائلة التاريخي وإشباع فضولي من أغراض وتركة أجدادي. وفي إحدى السّنوات توجّه فضولي نحو مكتبة جدّي الأكبر قسطنطين تابت الذي كان قاضياً ومن ثمّ شغل منصب مدّعٍ عام في متصرفيّة جبل لبنان أيّام السلطنة العثمانية. فعثرت على نسخة نادرة من كتاب “شرح المجلّة” بقلم سليم رستم باز (ابن دير القمر هو الآخر وأحد أعضاء شورى الدولة العثماني سابقاً)، وهو شرح لـ”المجّلة العثمانية” أو مجلّة الأحكام العدلية وهي بمثابة قانون مدني أيّام السلطنة العثمانية، وهي مستمدّة من الفقه على المذهب الحنفي وتشتمل على مجموعة من الأحكام وضعها ديوان العدلية في الآستانة سنة 1882.
لم أكن أعرف حينها أنني بعد سنوات سوف أصبح محامياً، ولم أتخيّل يوماً أنّه وبالرغم من سقوط السلطنة العثمانية ونهوض الدولة اللبنانية واستحداث قوانين خاصّة بها، سوف أستعين لاحقاً بأحكام “المجلّة” نفسها. وسرعان ما سوف أتيقّن من هذا الأمر، خلال عملي على الدعوى التي أقامها عمّال متاجر سبينس Spinneys ضدّ الشركة صاحبة المتاجر، حيث استعنت بالقاعدة 100 من المجلّة التي تنصّ على أنّ “من سعى في نقض ما تمّ من جهته، فسعيه مردود عليه” لدحض حجج الخصم المتناقضة. وكان ذلك ممكناً في ظلّ بقاء قسم من قواعد المجلّة ساري المفعول وفق منطوق المادة 1106 من قانون الموجبات والعقود اللبناني، طالما أنّه لا يتعارض مع أحكام هذا الأخير. وينطبق ذلك عموماً على أوّل مئة قاعدة من المجلّة، وهي عبارة عن مجموعة من المبادئ والقواعد الفقهية التي ترعى الأحكام العدلية.
بعد سنوات من مشاويري الربيعية إلى دير القمر، تغيّرت وجهة البلد وتغيّر معها وزن رمزية الأوّل من أيّار. فالبيان “المفكرة القانونية” و”المرصد اللبناني للعمّال والموظفين” الذي تولّيت تلاوته في المؤتمر الصحافي الذي نظّم في 10/12/2019، يصف وضع العمّال في لبنان بأنّه “كالوباء…”، لا سيّما في ظلّ التفشّي المتسارع لحالات الصّرف من الخدمة في لبنان منذ أوائل تشرين الأول 2019، لتصل إلى ما يقارب 160.000 حالة صرف قبل نهاية 2019 فقط، وفق بعض الدراسات. لم أتوّقع أثناء تفوّهي بهذه الكلمات حينها، أنّه وفي مطلع شهر آذار 2020 سوف نواجه وباء (لا بل جائحة) بكل ما للكلمة من معنى، ومعه سوف يتفاقم “وباء” الصّرف من الخدمة، لتلامس نسبة البطالة في البلد 40% ونسبة الفقر فيه 50%، وفق بعض التوقّعات، في وضع أشبه بوضع البلد قبل مئة سنة في زمن المجاعة وجائحة الإنفلونزا الإسبانية (1916-1918)، في الأيّام التي سبقت سقوط السلطنة العثمانية. وعلى غرار ما سجّلناه في أواخر 2019 تبعاً للانهيار الاقتصادي في لبنان، ونعود ونُسجّله اليوم – تبعاً لتفشي كورونا في البلد وإعلان الحكومة لحالة التعبئة العامّة – من مسعى لبعض أصحاب العمل لاستباق الخسائر من خلال التخلّص من عبء الرّواتب، بحيث تهافتوا على تقليص رواتب أجرائهم وصولاً إلى صرف هؤلاء جماعياً من الخدمة تحت ذريعتين رئيسيّتين هما: الأسباب الاقتصادية والقوّة القاهرة (كورونا)، وذلك غالباً من دون مراعاة أحكام قانون العمل الآمرة في هذا الإطار، لا سيما لناحية وجوب إبلاغ وزارة العمل والتشاور معها في هذا الصدد.
هذا الأمر ما كان ممكناً لولا تعميم ثقافة الاستهتار بالنصوص القانونية في فضاء النيوليبرالية العدائي، مقابل ضعف سبل الحماية المؤسّساتية للعمّال في لبنان (أكان على صعيد النقابات العمّالية أم وزارة العمل أم حتى القضاء). وهو أمر، يعيد إحياء تعريف ثراسيماخوس (Thrasymachus) للعدالة وفق ما صرّح به في وجه سقراط، مثلما نقله أفلاطون في حوار “الجمهورية”، قائلاً: ” تعليمي هو أنّ العدالة إنّما هي مصلحة الأقوى”، والأقوى هنا هو صاحب المال والعمل. غير أنّ وظيفة القانون الأساسيّة هي تحديداً قلب تعريف العدالة هذا من خلال إعادة توزيع السّلطة ووضع ضوابط لها. لا بلّ إنّ وظيفة قانون العمل بالذات تذهب أبعد من ذلك لتجد نظاماً عامّاً اجتماعياً حمائياً للعمّال (ordre public social) يُدرأ من خلاله تعسّف صاحب المال والعمل في استغلال قوّته ضد أجرائه، فاتحاً المجال أمام تخطّي قواعد القانون المدني التقليدية وتالياً إعمال الأحكام الأكثر فائدة للعمّال، بعيداً عن الاستثناءات القانونية الجائزة في العلاقات المدنية العادية (أو ما هو معروف في رطانة القانون بـ reformatio in pejus) التي قد تسيء إلى وضع العمّال في حال غاب مثل هذا النظام العام الاجتماعي الحمائي. وخير دليل على ذلك مثلاً، هو سقوط استرشاد أصحاب العمل بأحكام قانون الموجبات والعقود (مثل المادة 631 منها إلخ..) لتبرير عدم تسديدهم أجور موظّفيهم في ظلّ مكوث هؤلاء في المنازل إنفاذاً للتعبئة العامّة وفق شعار “لا أجر من دون عمل”، ليتعارض هذا الأمر مع النظام العام الحمائي المذكور ولا سيما المادة 7 من الاتفاقية العربية رقم 15 التي تنص على حق العمّال في تقاضي أجورهم كاملة حتى لو لم يؤدّوا عملاً لأسباب خارجة عن إرادتهم.
فماذا إذاً عن إنهاء عقود العمل لأسباب اقتصادية أو بفعل قوة قاهرة، وهو ما يتذرّع به أصحاب العمل اليوم بفعل الانهيار الاقتصادي وتفشي كورونا لصرف أجرائهم؟ وفق منطق القانون المدني التقليدي، قد يبدو الأمر بديهياً. فمن المسلّم به أنّ هناك انهياراً اقتصادياً في البلد وأنّ تفشّي كورونا وإعلان التعبئة العامّة يشكّلان قوّة قاهرة لعدد من المؤسّسات والقطاعات، تبرر فسخ العقود. لكن هذا المنطق المجرّد يفترض أنّ فرقاء العقد هم سواسية، وهو لا يأخذ بعين الاعتبار موازين القوى في علاقات العمل، كما أنّه لا يأخذ بعين الاعتبار ما يتفرّع عن هذا الأمر من كارثة اجتماعية واقتصادية لم يشهد البلد مثيلاً لها لأكثر من مئة عام. في المقابل، هذا هو تحديداً ما يأخذه بعين الاعتبار النظام العام الاجتماعي الحمائي لقانون العمل. فكيف يحمي هذا القانون العمّال في زمن الانهيار؟ ما هي الهندسة التي يضعها لإحقاق عدالة اجتماعية منصفة بعيدة عن “عدالة مصلحة الأقوى”؟ وتالياً ما هي السبل المتاحة أمام العمّال في زمن الانهيار للوصول إلى العدالة والحفاظ على حقوقهم؟ هذا ما سنحاول الإجابة عليه في المقالة الراهنة على شكل أفكار تمهيدية لمرافعة نموذجية دفاعاً عن عمّال تمّ صرفهم بسبب قوّة قاهرة أو لأسباب اقتصادية.
“الضّرورات تقدّر بقدرها”
تنصّ الفقرة “واو” من المادة 50 من قانون العمل أنّه “يجوز لصاحب العمل إنهاء بعض أو كل عقود العمل الجارية في المؤسسة إذا اقتضت قوّة قاهرة أو ظروف اقتصادية أو فنية هذا الإنهاء”. ولهذا الأجل تشترط المادة على صاحب العمل شرطين أساسيين هما:
- أن يبلّغ وزارة العمل رغبته في إنهاء تلك العقود قبل شهر من تنفيذها،
- وأن يتشاور مع الوزارة لوضع برنامج نهائي لذلك الإنهاء، يراعي أقدمية العمّال في المؤسّسة واختصاصهم وأعمارهم ووضعهم العائلي والاجتماعي والوسائل اللازمة لإعادة استخدامهم.
فإذا تخلّف صاحب العمل عن إبلاغ وزارة العمل برغبته في إنهاء عقود العمل وقام بتنفيذ هذا الإنهاء، يُعتبر قراره هذا مسنداً إلى سبب غير مقبول، وتبعاً لذلك يكون الصرف الذي تمّ قد حصل بصورة تعسّفية. وقد ثبت موقف الاجتهاد اللبناني في هذا الإطار على اعتبار أنّ الشروط المنصوص عليها في المادة 50 فقرة “واو” من قانون العمل، هي شروط شكلية جوهرية وفق ما أكّدته الدراسة التي أنجزتها “المفكرة” سنة 2019 حول أحكام مجالس العمل التحكيمية في بيروت وجبل لبنان سنة 2018، والتي أظهرت تشدّد مجالس العمل التحكيمية على الطابع “الجوهري” لهذه الشروط، وإلّا اعتبر إنهاء عقود العمل بمثابة صرف تعسّفي من الخدمة يتحمّل مسؤوليّته صاحب العمل وفق أحكام الفقرة “ألف” من المادة 50 من قانون العمل (وما يتبعها من لزوم التعويض للأجير وفق آلية هذه الفقرة). لا بل أظهرت الدراسة نفسها أنّ الاجتهاد لم يكتفِ حتى بإعلان إفلاس بعض الشركات صاحبة العمل لاعتبار الصرف مبرّراً، بحيث فرض في هذه الحالة أيضاً على الشركة المفلسة التقيّد بالشروط الشكليّة الجوهرية المذكورة. فإعلان إفلاس صاحب العمل “لا يعفيه عن التعويض على [الأجير] عن فسخ عقد عمله وعن مهلة الإنذار طالما أنّه لم يتقيّد بشرط الفقرة “واو” من المادة 50 عمل”.
أبعد من ذلك، فإنّ إبلاغ وزارة العمل بحدّ ذاته غير كافٍ أيضاً. بتاريخ 14/04/2020، أعلنت إدارة مستشفى “سيّدة لبنان” إقفال أبوابها والتوقّف عن العمل في كافّة أقسامها الاستشفائية بسبب الأوضاع الاقتصادية والمالية. وقد أبلغت وزارة العمل رغبتها في فسخ عقود العمل لديها. وبتاريخ 15 نيسان (أي بعد يوم واحد)، بلّغت موظفيها فسخ عقودهم اعتباراً من 16/05/2020 (أي بعد شهر تقريباً). ظاهرياً، قد يبدو أنّ إدارة المستشفى احترمت شروط المادة 50 فقرة “واو”، غير أنّ الواقع القانوني مختلف عن ذلك تماماً. لماذا؟ أوّلاً لأنّ إدارة المستشفى اكتفت بتنفيذ أحد الشرطين الجوهريين (إبلاغ الوزارة) من دون مراعاة الشرط الثاني (التشاور مع الوزارة)، علماً أنّ الشرطين هما تراكميّان وليسا مستقلّين. ثانياً، أنّها لم تحترم حتى شكليّة الشرط الأول، فبإبلاغها الوزارة بتاريخ 14/04/2020 رغبتها في إنهاء عقود العمل ومن ثمّ إبلاغها موظّفيها بعد يوم واحد فقط إنهاء هذه العقود، تكون إدارة المستشفى قد تحايلت على القانون والتفّت حول صراحة نصّه (“قبل شهر من [تنفيذ إنهاء العقود]”). فإبلاغها موظفيها قرار الصرف هو بمثابة تنفيذ الإنهاء، ومحال القول إنّها أنذرتهم قبل شهر، لأن هذا الأمر يفرّغ المادة 50 فقرة “واو” من غايتها الشكلية. فهدف مهلة الشهر، هو السماح لوزارة العمل إجراء مراقبة حقيقة لدوافع الإنهاء من جهة، والتنسيق مع صاحب العمل لمنعه من الإنفراد في قرار الإنهاء (فقد لا يكون إنهاء العقود كافة ضرورياً مثلاً)، من جهة أخرى. أما إبلاغ إدارة المستشفى موظفيها إنهاء عقودهم من دون التشاور المسبق مع الوزارة وبعد يوم واحد فقط على إبلاغ هذه الأخيرة بهذا الأمر، إنّما يشكّل تحايلاً على القانون والتفافاً حول صراحة نصّه وتالياً مخالفة له، يجعل من إنهاء عقود أجرائها، صرفاً يتّسم بطابع تعسّفي. وهذا ما أكّدت عليه محكمة التمييز اللبنانية في قرار مبدئي أصدرته سنة 1999 في دعوى ذهب فيها صاحب العمل ونفّذ قرار الصّرف بعد يوم واحد من إبلاغ وزارة العمل، حيث اعتبرت المحكمة أنّه من الثابت أنّ صاحب العمل في هذه الحالة يكون قد خالف الشرط الجوهري المشار إليه في المادة 50 فقرة “واو” المذكورة وتالياً يكون الصرف “حاصلاً لسبب غير مقبول… ومن قبيل الإساءة أو التجاوز في استعمال حق الصرف، ويحق للمميّز [الأجير] المطالبة بتعويض تقدره هذه المحكمة ببدل 12 شهر…”.
هذا في الشكل، ولكن ماذا عن المضمون؟ فالاكتفاء بالشروط الشكلية المجرّدة للنص، إنما يفرّغ بدوره أيضاً النص من روحه ويبعده عن الغاية التي وُضع من أجلها والتي تتفرّع بدورها من طبيعة قانون العمل والنظام العام الاجتماعي الحمائي الذي يوجده. هنا يكمن دور وزارة العمل (أي الدولة) الأساسي، بحيث يقع على عاتقها التأكّد والتصديق على الرواية القانونية لصاحب العمل، مانعة إياه من استغلال قوّته للانفراد في القرار وتعديل وضع عمّاله من دون رقيب أو حسيب. وهذا ما أكّده الاجتهاد اللبناني وفق ما أظهرته دراسة “المفكرة” سنة 2019 المذكورة أعلاه. فقد أصرّ اجتهاد المحاكم اللبنانية على أنّه في حال لم توافق وزارة العمل على برنامج صاحب العمل لإنهاء بعض عقود العمل لديه (وهي تالياً لم تصّدق على صحّة أوضاعه الاقتصادية أو على درجة تعسّرها لتبرير إنهاء العقود) وعدم التوصّل مع الوزارة إلى اتفاق حول الوسائل اللازمة لإعادة استخدام الأجراء المصروفين من الخدمة، فلا يحقّ لصاحب العمل أن يضع عملية الصرف قيد التنفيذ وإلّا يكون في حالة مخالفة لمنطوق الفقرة “واو” من المادة 50 المذكورة، وبالتالي يكون الصّرف مستنداً إلى سبب غير صحيح ومن قبيل التجاوز أو الإساءة في استعمال حقّ الفسخ. وقد ذهب الاجتهاد في قرارات عدّة إلى التذكير بأنّ “نيّة المشترع تتعدّى الإجراءات الشكلية إلى تقييد حرّية صاحب العمل لمنعه من الانفراد في عملية الصرف لدواعٍ اقتصادية تتعلّق بكيفية عمل مؤسسته”.
وعليه، يقتضي البحث في أسباب الصّرف التي يتذرّع بها والإجابة على عدد من الأسئلة للتأكّد من صحّتها. وهنا نكتفي بالبحث في السّببين الرئيسيّين اللذين غالباً ما يتمّ التذرع بهما حالياً: القوّة القاهرة والأسباب الاقتصادية.
1. القوّة القاهرة:
أجمع الفقه والاجتهاد على وجوب تطبيق شروط القوّة القاهرة على وجه الحصر في قضايا العمل بغية تأمين الاستقرار الوظيفي والسّلم الاجتماعي. وقد أوجب الاجتهاد توفّر الشروط التالية لكي تصبح القوّة القاهرة سبباً يبرر فسخ عقد العمل: أن يكون الحدث غير منتظر ولا يمكن تجنّب وقوعه وليس فعل صاحب العمل، والأهمّ: أن يؤدّي إلى استحالة مطلقة في التنفيذ وألّا يكون فقط حالة أدّت إلى صعوبة في التنفيذ أو إلى كلفة أكبر على صاحب العمل. وهنا، يجوز استكمال نصّ المادة 50 فقرة “واو” بأحكام أخرى من القانون، الأمر الذي يدفعنا إلى إعادة الاسترشاد بقواعد المجلّة العثمانية التي لا تزال سارية المفعول وفق ما أسلفنا. فوفق المادة 22 من المجلّة “الضرورات تقدّر بقدرها”، وتالياً يقتضي البحث في مدى إمكانية تكيّف صاحب العمل مع القوّة القاهرة. فهل هي تؤدي بالفعل إلى استحالة في استكمال العمل؟ قد لا يكون هذا هو الوضع في جميع الحالات. وخير دليل على ذلك هو مثلاً تحويل بعض المؤسّسات (منها في قطاع الخدمات وبيع المنتجات) عملها إلى “خدمة التوصيل إلى البيوت” (ديليفري). من ناحية أخرى، فقد أثبتت إجراءات التعبئة العامّة، قدرة عدد هام من الأجراء على القيام بمهامهم من منازلهم (حتى الحرفيين منهم). وهنا يُشار إلى اعتراف قوانين العمل (ومنها اتفاقية العمل الدولية رقم 177، غير المبرمة)، بـ”العمل من المنزل” كأحد أنواع العمل الخاضعة لقوانين العمل ومساواته بغيره من أنواع العمل بأجر. وقد ذهبت حتى إدارة الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي في لبنان إلى معالجة مسألة إدراج العاملين في منازلهم في نظام الانتساب والتسجيل رقم 7، وأوضحت أن هؤلاء يجب اعتبارهم بمثابة أجراء، حتى ولو كانوا يملكون قسماً من العدّة اللازمة لعملهم أو لم تكن علاقتهم بأصحاب العمل تماماً كعلاقة العاملين في مكان العمل، بالرغم من تمتّعهم بهامش حريّة أوسع من دون سلطة أو رقابة من صاحب العمل عليهم. وإن دلّ هذا الأمر على شيء فعلى جهوزية الإطار القانوني لتطوّر طبيعة العمل والاستحداثات الطارئة عليه في ظلّ أوضاع شبيهة بتفشّي وباء كورونا وإعلان التعبئة العامّة.
تالياً يصبح السؤال والتفكير الأساسي بشأن مواجهة صاحب العمل للقوّة القاهرة يتمحور حول ما يمكن أن يقوم به للتكيّف معها. وكيف يمكن إعادة تصوّر طبيعة العمل ومكانه لإنقاذ المؤسّسة بدلاً من إنهاء عقود العمل فيها.
2. الأسباب الاقتصادية:
من المهمّ التنويه هنا بداية أنّ لا الصعوبات الاقتصادية وحدها تكفي لتبرير الصّرف ولا إبراز دفاتر المؤسّسة التي تفيد بتلك الصعوبات، وإلاّ أفرغت الفقرة “واو” من المادة 50 من روحها، وتحوّل البحث في الأسباب الموضوعية لها إلى بحث شكليّ مجرّد يخالف مبادئ النظام العام الاجتماعي الحمائي. وهنا أيضاً، يقتضي الاسترشاد بأحكام المجلّة التي يمكن أن ترعى روحيّة عمل وزارة العمل في هذا الإطار (ومن ثم القاضي، في حال استُكمل النزاع أمام القضاء). فالقاعدة 27 من المجلّة تنصّ على أنّ “الضرّر الأشدّ يُزال بالضّرر الأخفّ” فيما تنصّ القاعدة 28 على أنّه “إذا تعارض مفسدتان، روعيَ أعظمهما ضرراً بارتكاب أخفّهما”. وهو أمر يتطابق تماماً مع فلسفة النظام العام الاجتماعي الحمائي، ومفاده تفادي الضّرر الأكبر المتمثل حتماً هنا بالكارثة الاقتصادية والاجتماعية الناجمة عن عمليات التسريح الجماعية التي تشهدها البلاد منذ ستة أشهر لتطال مئات آلاف العاملين في لبنان، أي ما يقارب نصفهم.
على هذا الأساس، يقتضي أن تكون أوضاع صاحب العمل الاقتصادية في حالة عسر تبرّر الصّرف، فيكون بذلك “الصّرف” الحلّ الوحيد المتبقّي أمام صاحب العمل. فلا يكفي ألّا يجني هذا الأخير أرباحاً كافية لتبرير الصّرف، إذ أنّ “درء المفاسد أولى من جلب المنافع” وفق القاعدة 33 من المجلّة. وعليه يقتضي الإجابة على عدد من الأسئلة الأخرى، أهمّها: هل أنّ إنهاء بعض العقود لإنقاذ المؤسّسة هو الحلّ الوحيد؟ هل يمكن إعادة ترتيب العمل أو إعادة النظر في الأجور لإنقاذ المؤسسة؟ هل أحسن القيّمون على المؤسّسة إدارتها أم أخطأوا في الإدارة على نحو أدّى بها إلى التعسّر؟ ما هي إمكانات المؤسّسة التي يمكن الاستفادة منها لإنقاذها من دون إنهاء عقود العمل فيها؟ إلخ. كلّ هذه الأسئلة مهمّة والإجابة عليها تقع على عاتق صاحب العمل. هذه هي ضريبة موقع القوّة (وتالياً السّلطة) التي يتمتع بها صاحب العمل في علاقات العمل، فـ”النعمة بقدر النقمة والنقمة بقدر النعمة” وفق القاعدة 88 من المجلّة. وعليه لا يمكن تكبيد العامل وحده فاتورة الأوضاع الاقتصادية، فالفاتورة الأكبر تقع على عاتق صاحب النعمة أولاً، أي صاحب المال والعمل.
هنا يتجلّى الدور الحقيقي لوزارة العمل (قبل القاضي)، ليس كشاهد زور على عملية الصّرف، بل كحارس جمهوري فاعل يحمي النظام العام الاجتماعي، على نحو يصبح الصرف مستحيلاً في غياب تصديقها وموافقتها عليه ضمن كافة الشروط التي ذكرناها. ولكن دور الحراسة لا ينتهي هنا، فماذا بعد صرف الأجراء على أساس الفقرة “واو” من المادة 50 المذكورة؟
“ما جاز لعذرٍ بطُل بزواله”
إنهاء عقود العمل في المؤسّسة على أساس الفقرة “واو” من المادة 50 من قانون العمل ووفق شروطها، لا ينهي بحدّ ذاته موجب صاحب العمل ودور وزارة العمل. فالفقرة “زاي” من المادة نفسها تنص حرفياً على ما يلي:
“يتمتع العمّال المصروفون من الخدمة تطبيقاً للفقرة السابقة (أي الفقرة “واو” من المادة 50)، ولمدّة سنة تبدأ من تاريخ تركهم العمل بحق أولويّة (أفضليّة) في العودة إلى العمل في المؤسّسة التي صرفوا منها إذا عاد العمل فيها إلى طبيعته وأمكن استخدامهم في الأعمال المستحدثة فيها”. وهي تشكّل امتداداً للقاعدة 23 من المجلّة العثمانية ومفادها: “ما جاز لعذرٍ بطُل لزواله”. بمعنى آخر، هذا يعني أنّه في حال زالت الأسباب الاقتصادية أو القوّة القاهرة المبرّرة للصّرف، وأمكن إعادة عمل المؤسّسة إلى طبيعته، يكون العمّال المصروفون على أساس تلك القوّة القاهرة أو الأسباب الاقتصادية أَوْلى في عمليّة التوظيف المستجدّة من غيرهم، وهو أمر يؤمّن لهم تالياً حداً أدنى من الاستقرار الوظيفي ومن ديمومة العمل. غير أنّ استخدام المشرّع لكلمتي “طبيعته” و”أمكن” إنّما يفتح المجال لتفسير هذه المادّة على نحو يترك هامشاً واسعاً لصاحب العمل لتأويلها بشكل قد لا يأتلف ومصلحة أجرائه المصروفين. وفي حين قد يقود هذا الأمر إلى إفراغ الفقرة “زاي” من مضمونها ومن الغاية التي وجدت من أجلها، جاء اجتهاد المحاكم (في القانون اللبناني والقانون المقارن الفرنسي) للحدّ من إمكانية تأويلها واستكمالها وفقاً لروحها على نحو يرعى النظام العام الاجتماعي الحمائي وما هو أكثر فائدة وإنصافاً للعمّال. فـ”إعمال الكلام أولى من إهماله” وفق القاعدة 60 من المجلّة العثمانية.
وعلى هذا الأساس، حدد اجتهاد المحاكم بداية الشروط الشكليّة الواجب توفّرها لإعمال هذه الفقرة من المادة 50 المذكورة، معتبراً أنّه يقتضي على صاحب العمل أن يذكر في كتاب الصرف على أساس القوّة القاهرة أو بسبب الظروف الاقتصادية “أولويّة العمّال المصروفين في العودة إلى العمل في المؤسّسة” وفق منطوق الفقرة “زاي” من المادة 50، وإلاّ يُعتبر هذا الأمر مخالفة لها ويرتّب على صاحب العمل واجب التعويض للأجير جرّاء مخالفته هذه للشروط الشكلية. وبالعودة إلى قضية عمّال مستشفى سيدة لبنان المصروفين، وإلى كتاب الصّرف الذي وجّهته إدارة المستشفى إلى عمّالها، يتبيّن أنّها لم تأتِ على ذكر أولويّتهم في العودة إلى العمل، وهي لم تشِر ولم تحِل حتى إلى الفقرة “زاي” من المادة 50 المذكورة، وهو أمر يشكّل بحد ذاته مخالفة مغايرة للقانون يحقّ للأجراء المطالبة بتعويض على أساسها.
هذا في الشكل، أمّا في المضمون ودحضاً لأيّ تأويل للمادة 50 فقرة “زاي” واحتمال إفراغها من مضمونها ومن غايتها، فقد اعتبر الاجتهاد أنّ على صاحب العمل أن يعرض على الأجراء الذين ألغيت وظائفهم وجرى تحويلها، وظائف شاغرة من الفئة نفسها أو من فئة أدنى حتى وإن أدّى ذلك إلى تعديل جوهري في عقد العمل، تحت طائلة اعتباره قد فسخ عقودهم بصورة تعسّفية. ومردّ ذلك، عدم إمكانية تنصّل صاحب العمل من أحكام الفقرة “زاي” من المادة 50 بحجّة عدم توفّر وظائف مماثلة لتلك التي تم إلغاؤها في المؤسّسة، ما يشكل بنظري تضييقاً في تفسير الفقرة المذكورة لصالح العمّال. فالأَوْلى هنا هو تأمين الاستقرار الوظيفي وديمومة العمل بدلاً من عدم إمكانية إعادة التوظيف بالمطلق تحت مختلف الذرائع، وذلك إعمالاً للقاعدة 29 من المجلّة العثمانية التي تنصّ على أنه “يختار أهون الشرّين”. مع الإشارة إلى أنّه وفي هذه الحالة، يقع على صاحب العمل موجباً عاماً إضافياً في تدريب أجرائه تدريباً متكاملاً ليتكيّفوا مع التطوّر الذي طرأ على وظائفهم. فضلاً عن ذلك، فقد استقرّ اجتهاد مجالس العمل التحكيمية في لبنان على اعتبار أنّه وفي هذه الحالة (أي حالة العودة إلى العمل)، يجب أن تحتسب خدمات الأجراء السّابقة بعد عودتهم إلى العمل في المؤسّسة ذاتها، على نحو يبعد فرضيّة انقطاع مدّة العمل تبعاً للصّرف على أساس المادة 50 فقرة “واو”، بحيث تُحتسب سنوات الأقدميّة على أساس بدء العمل الفعلي وبغضّ النّظر عن أيّ انقطاع طرأ في العمل ومهما طال.
أمّا في حال خالف صاحب العمل أحكام الفقرة “زاي” من المادة 50، فيترتّب عليه إذ ذاك التعويض للأجراء المعنيين على هذا الأساس، علماً أنّ التعويض المذكور هنا هو تعويض منفصل عن التعويض المتأتّي بسبب الصّرف على أساس الفقرة “واو” (إن وجد وفق برنامج الإنهاء) أو على أساس الفقرة “أ” (إن اتّسم بالطابع التعسّفي)، وهو يحتسب تالياً بشكل تراكمي مع التعويضات الأخرى.
يحملنا ما تقدّم إلى إعادة التفكير في دور وزارة العمل. فدورها لا يتوقّف إذ ذاك على عملية التشاور المتوجّبة وفق المادة 50 فقرة “واو” المذكورة وحسب، إنّما يقتضي أن يمتدّ إلى الفترة اللاحقة للصّرف الاقتصادي أو بسبب قوّة قاهرة، ولمهلة سنة إضافية على الأقلّ بغية متابعة أوضاع صاحب العمل والتأكّد من إعمال أحكام الفقرة “زاي” من المادة 50، مع كلّ ما يستتبع ذلك من أعمال متابعة وتقصٍّ وملاحقة.
لكن بالرّغم مما يفترض أن توليه أحكام قانون العمل ومبادئ النظام العام الاجتماعي الحمائي من حماية لحقوق العمّال ولحقّ العمل بشكل عام وفق ما أسلفنا، تبقى هذه الحماية مبدئية أكثر ممّا هي عمليّة. وتالياً تبقى استباحة الأجراء شائعة بفعل هشاشة أوضاعهم. وقد سبق لنا أن ذكرنا أسباب هذه الهشاشة وما هو المطلوب اليوم من أجهزة الدولة ومؤسّساتها للحدّ من تفشّي وباء الصّرف الجماعي والكارثة الاجتماعية المتأتّية عنه وعن الانهيار الاقتصادي، في الكلمة التي أشرت إليها أعلاه.
وأمام الغياب المدوّي للدولة في هذا الإطار والذي شهدناه في الأشهر الأخيرة، ما عسى للعمّال أن يقوموا به للدفاع عن أنفسهم وحماية حقوقهم؟
في ثورة العمّال وحقّهم في الدفاع عن ذواتهم
وُلد جدّي الأكبر القاضي قسطنطين تابت (صاحب نسخة “شرح المجلّة”) في 1858 في دير القمر. في السنة ذاتها، اندلعت ثورة الفلّاحين في كسروان. وقد انفجرت ثورة الفلّاحين في ذلك العام كردّة فعل على النظام الإقطاعي في جبل كسروان، وتحديداً ضد حكم آل الخازن وآل حبيش الذين لم يتداركوا آنذاك مآسي وضع الفلّاحين الاقتصادي والاجتماعي وأمعنوا في بطشهم واحتكار الأرباح من المنتوج الزراعي مقابل فرض ثقافة الطاعة على رعاياهم، وسرعان ما تحوّلت الثورة من انتفاضة سلميّة بقيادة صالح صفير (“شيخ الشباب”) إلى ثورة مسلّحة تبعاً لتعنّت آل الخازن في عدم التجاوب مع مطالب الفلّاحين وتسلّم طانيوس شاهين قيادة الانتفاضة، ما أدّى إلى طرد آل الخازن من كسروان وإسقاط حكمهم مقابل إنشاء (ولو لفترة زمنية وجيزة) جمهورية شبه مستقلة ذات طابع تمثيلي في المنطقة، مستوحاة إلى حد ما من مبادئ الثورة الفرنسية. وضع البلد اليوم (بعد 160 سنة على ثورة الفلّاحين) ليس مختلفاً عن وضع كسروان في سنة 1858، يكفي استبدال آل الخازن بالأوليغارشية الحاكمة اليوم واستبدال فلّاحي آنذاك بعمّال اليوم. وعلى غرار آل الخازن حينها، لم تتدارك الأوليغارشية الحاكمة اليوم حجم مآسي الشعب اللبناني تبعاً لاندلاع ثورة 17 تشرين، فأمعنت في سياستها المعتمّدة والمرتكزة على الاحتكار والامتيازات والزبائنية وحاولت حتى استغلال تفشّي وباء كورونا لإعادة بسط مخالبها على المجتمع لتصطدم مجدداً بموجة ثانية من الثورة بدأت تتبلور منذ أيّام قليلة، لا سيما تبعاً لتدهور الليرة اللبنانية التاريخي.
عمّال لبنان اليوم هم حجر الأساس في ثورة العصر، ومعركتهم هي معركة الشعب اللبناني برمّته. وفي حين يمكنهم اللجوء إلى القضاء لضمان حقوقهم وفق ما أسلفنا (ولذلك نعيد الإحالة إلى الدليل المصوّر من إعداد شبكة “عملي، حقوقي!” الذي يشرح كيفية اللجوء إلى مجلس العمل التحكيمي في حال مواجهة أيّ مصاعب أو تعسّف داخل العمل، والمنشور على موقع “المفكرة القانونية”)، نشير في المقابل إلى سبل قيامهم بمعركتهم خارج المحاكم، وذلك من خلال اللجوء إلى العدالة الخاصّة وممارسة حق الدفاع عن النفس. فالعدالة الخاصّة مُبرّرة بعدم قدرة السّلطات العامّة على الاضطلاع بمهامها في حماية الأشخاص، بحيث تصبح العدالة الخاصّة والدفاع الفردي وسائل مشروعة بديلة عن السّلطات العامّة العاجزة، لدرء التعرّض (مثل عدم دفع مستحقّات الأجير إلخ.). وهذا الحق، المستمدّ من القانون الطبيعي، ملحوظ حتى في المادة 49 من قانون العمل اللبناني التي تنصّ حرفياً على الآتي: “للأجير الذي في حوزته شيء من صنعه أن يمارس حق الحبس” (وهو نوع من العدالة الخاصّة)، مضيفة أنّ له أن يبيع أيضاً “الأشياء المنقولة المسلمّة [إليه] لصنعها أو إصلاحها أو تنظيفها ولا تكون قد استرجعت خلال سنتين من تاريخ إنجازها” بعد استئذان القاضي المختصّ لبيعها في المزاد العلني، بغية حصوله “على البدل المرتّب له بذمّة صاحب العمل عن الشيء المسلّم إليه”.
إذاً معركة العمّال اليوم، مثلها مثل معركة الشعب اللبناني عموماً، هي معركة وجودية لاستعادة الدولة والدفاع عن النّفس بغية إسقاط نظام الطاغية المهيمن على الدولة وإنشاء نظام جديد أكثر عدلاً على غرار ما حاول القيام به أسلافنا ذات ربيع من سنة 1858. فمعها فقط يتجلّى ربيع العمّال، ومعها فقط نخرج من زمن الانهيار.
ختاماً أودّ إهداء هذه المقالة إلى الرفيق أحمد الديراني، المدير التنفيذي للمرصد اللبناني لحقوق العمّال والموظفين وأحد أبرز وجوه الحركة النقابية في لبنان.
لقراءة المقالة مترجمة إلى اللغة الانكليزية