حازت منطقة الجديدة – السد- البوشرية على اهتمام الاعلام والرأي العام بعدما انتشر فيديو يظهر اجتياح النفايات لشوارع المنطقة من جراء تساقط الأمطار في تشرين الأول الماضي. أثار الفيديو سخط المعنيين من مواطنين ومسؤولين فحاول رئيس الحكومة اللبنانية تمام سلام تلقف غضبهم عبر زعمه بأن الفيديو مركب وان شاحنة افرغت حمولتها في الشارع، ما ادى الى الفيضان الذي شهدته المنطقة.
ولكن ماذا على أرض الواقع؟ وكيف تواجه هذه المنطقة أزمة النفايات؟ لا سيما ان هذه الاخيرة تتكدس على الطرقات منذ اندلاع الازمة قبل خمسة اشهر. اسئلة حاولت "المفكرة القانونية" الاجابة عنها خلال جولتها في المنطقة.
اوتوستراد الجديدة – نهر الموت تحول الى مكب بديل بمواجهة المنازل والمصانع والشركات فيما لا تخلو أحياء الجديدة والسد والبوشرية من المكبات العشوائية. الا أن البلدية، وبحسب سكان المنطقة، ابتدعت حلاً مؤقتاً فأحدثت "بورة" في المنطقة الصناعية جمعت فيها نفايات الأحياء بشكل عشوائي وفي الهواء الطلق. ومع مرور الوقت وتعذر ايجاد حلّ للأزمة، تحوّلت هذه البورة الى جبل ضخم "يستمتع" بمنظره ورائحته السكان والمارة على حدّ سواء.
لكن هذه "البورة" لم تشكل النقطة الوحيدة لرمي النفايات. فخلال جولتنا، تنبهنا الى ان الحاويات تحوّلت الى مكبات ايضاً. وبالتالي، اصبح لكلّ شارع مكبّه الخاص، هذا عدا عن عابري السبيل او سكان المناطق الاخرى الذين يتعمدون رمي نفاياتهم هناك، حسب ما افادنا احد سكان البوشرية.
وقد تطور استخدام هذه المكبات فأصبحت "معلماً" يستعين به السكان لإرشاد العابرين التائهين الى مكان زيارتهم. ففي اثناء تواجدنا في منطقة الجديدة، سألنا احد الاهالي عن مكان "البورة". ظنّ الرجل أننا نبحث عن وسيلة للتخلص من بعض الاكياس بحوذتنا: "البورة بعد إشارتين على الشمال. بس اذا بدك تكب كيس، في بعد الاشارة الأولى على الايد اليمين محل. هونيك الناس عم تكب!". الملفت اذاً ان هذه المكبات باتت تشكل جزءاً من يوميات اهالي المنطقة. اعتادوا عليها وتآلفوا معها. لكن الازمة لا تكمن فقط باستحداث هذه المكبات العشوائية، بل تمتد الى الحرق الممنهج للنفايات كوسيلة للتخلص منها نظراً لتأخر البلدية عن إزالتها لمدة تتراوح بين أسبوع وعشرة أيام.
وأمام هذه الكارثة، حاولت البلدية إيجاد حلّ مؤقّت فعمدت الى بناء جدران من الباطون في عدة أماكن جعلها الناس رغماً عنهم مكباً عاماً لنفاياتهم. وكُتِبَ على هذه الجدران عبارة "ممنوع رمي النفايات". الا أن هذا التدبير لم يشكل عائقاً لدى الكثيرين فاستمروا في رمي النفايات أمام الجدران المستحدثة في غياب ايّ حل مستدام.
وإن كانت الجدران الباطونية وسيلة البلدية لحجب النفايات عن نظر المواطنين، الاّ ان هذا التدبير غاب عن أطراف المدينة التي ظلت تعاني الأمرين دون أن تلقَى آذاناً مصغية. ولعلّ منطقة رويسات الجديدة افضل مثال على ذلك.
صرخات في وادٍ
تستقبلك منطقة الرويسات مع مكبّها المعتمد على أحد الجدران والذي بات شبيهاً بمطمرٍ للنفايات. هناك، الروائح الكريهة تملأ المكان فيما الحشرات استقرت فوق أكوام الأكياس المبعثرة. تشيح بنظرك لبعض الوقت فيمرّ فاعل خير ويشعل النار في المكب على مرأى من الناس دون أن يردعه أحد. لا بل يعتبر البعض ان في الامر خدمة لا سيما أن النفايات تتكدس لنحو أسبوعين قبل أن يزيلها عمال البلدية.
أمام هذا المكب الهائل، يوجد فرن للمناقيش. صاحب الفرن لم يعد يكترث لوجود النفايات أمامه. "لقد تأقلمنا مع الوضع وصار عنّا مناعة. مثل الذي يسافر الى افريقيا فيعطونه لقاحا ضد الأمراض. لقد تعودنا. نقوم برش المبيدات لإبعاد الحشرات، ماذا بوسعنا أن نفعل؟ هذه النفايات ليست من أهالي المنطقة وحسب. بل يأتي غرباء ويرمون نفاياتهم أيضاً. ولا يمكننا أن نمنع أحداً. في الماضي كان هناك عدد من الحاويات التي يتم تفريغها يومياً. ولكن مع بدء الأزمة، عمدت البلدية الى سحب الحاويات لأنها لا تملك شاحنات لرفعها مثل سوكلين بل لديها جرافات تجرف بها النفايات".
الى جانب فرن المناقيش، محل لتصليح السيارات. سألنا صاحبه عن النفايات وإن كان قد تقدم بأية شكوى أو إعتراض لدى البلدية. فرد:"ماذا سنقول؟ ان معظم العمال في البلدية هم من أهالي الرويسات". حاولنا معرفة هوية من يقوم بإشعال النفايات وان كانت البلدية على علم بهذا الامر او تساهم فيه. فأتانا الجواب مبهماً: "البلدية والناس، الكل بيولّع… ما منعرف مين… قد يمر أحد في سيارته ويرمي كبريت لإشعالها".
أمام محل الميكانيك تسيل المياه بغزارة: "هذا قسطل لمياه الصرف الصحي مضى عليه أشهر. أخبرنا البلدية عنه ليقوموا بإصلاحه، فقالوا لنا أن هناك مشروع هدم وإعمار في هذه المنطقة. ولذلك، يعدّ إصلاح القسطل مشروعاً ضمن مشروع عمره أكثر من عشرين عاماً".
في أعالي المنطقة، وادٍ فيه بعض أشجار الصنوبر تحوّل الى مكبّ ضخم يرمي فيه الناس نفاياتهم. على بعد كيلومترات، مكب آخر يقع على مسافة قريبة من مركز "سما الطبي". لم نتمكن من الحديث مع أيّ من العاملين في المركز لنسألهم عن رأيهم بوجود مكب على مدخل مركز طبي، من المفترض أن يكون محاطاً بالحد الأدنى من الشروط الصحية اللازمة. إلاّ أن جيران المركز اخبرونا بأنه من النادر أن يحضر أحد منذ أن بدأت النفايات بالتكدس. يعلّق احدهم: "يأتون كل 15 يوماً ويأخذون النفايات لا ندري الى أين، فيما تستمر معاناتنا طوال باقي الأيام. وقد زاد تفجير قسطل الصرف الصحي الوضع صعوبة. طالبنا بايجاد حلّ مرات عدة فكان الجواب أن لا مكان آخر لرميها".
فرح العطاء تطرح خطة وقائية
أفادت وسائل الإعلام أن بلدية الجديدة السد والبوشرية بدأت بتطبيق الخطة الوقائية التي طرحتها جمعية "فرح العطاء" والتي تقوم على توضيب النفايات للحد من أضرارها. شارك رئيس البلدية في النشاط الذي نظمته الجمعية، التقطت الصور التذكارية وانتهى تطبيق الخطة عند هذا الحدّ.
بالعودة الى المشروع، يتحدث رئيس جمعية "فرح العطاء" المحامي ملحم خلف قائلاً: "انطلقنا من حسّ المواطنة لدينا. فهناك أزمة صحية تطال كل مواطن وعندما تكون الأزمة كبيرة الى هذه الدرجة ليس لدينا الحق بالمكوث والتفرج دون القيام بأي عمل. المشروع كله يقوم على كيسين ورباط. الكيس الأول من النايلون طوله متر ونص متر بسماكة تجعل من الصعوبة ان يتمزق. يوضع فيه كل المخزون المتروك على الأرض دون فرز ثم نغلقه ونضعه في كيس آخر يسمى كيس "خيش" بلاسيتيكي لا تدخل اليه المياه. وبالتالي البلاستيك مع النايلون يشكلان حاجز يمنع وصول المياه الى النفايات. وعندها نكون قد قطعنا الهواء عن هذه النفايات. في النتيجة، تتخمر النفايات بالداخل ولا ترمي عصارتها خارجاً ولا تجذب القوارض والحشرات والحيوانات".
وتابع خلف: "هذه المرحلة الأولى المتعلقة بالتوضيب والتخزين. أما المرحلة الثانية فتتعلق بالمواطن والبلدية في آن. فمسؤولية المواطن هي الفرز فيما تقوم البلدية بتوزيع الأكياس للمواد العضوية. أما ما تبقى فتأخذه الى أي عقار وهناك بإمكانها فرزه وبيعه ما يسمح لها بتأمين رواتب العمال".
واشار خلف الى الرقم الساخن 548305/04 الذي وضعته "فرح العطاء" بمتناول الناس والبلديات في حال أرادوا استشارتها أو الحصول على مساعدة منها. كما ذكر خلف عددا من البلديات المتعاونة في هذا الموضوع والتي باشرت بعمليات التوضيب ومنها عجلتون وكفرحيم ومكين –قضاء عاليه وعشقوت –كسروان وبلدية الجديدة – السد – البوشرية.
النفايات الى نهر الموت
قررنا بعد هذه الجولة وحديثنا مع الاستاذ خلف زيارة رئيس البلدية انطوان جبارة للاطلاع منه على السياسة المعتمدة لمواجهة ازمة النفايات والتحديات المطروحة في ظلّ تعذّر وجود الحلّ. حاولنا الاتصال بالسيد جبارة مراراً وتكراراً الى ان وافق على استقبالنا بعد أسبوع في مكتبه في مبنى البلدية. توجهنا للقائه في 11 تشرين الثاني 2015 الساعة الواحدة ظهراً. الا أننا فوجئنا لدى دخولنا برفض جبارة الحديث عن أزمة النفايات بحجة انها باتت تشكل مصدر تعب. "اعفينا من هالقصة بلا مواعيد. هلكونا بالنفايات ومشاكل النفايات. اعفينا من هالشغلة".
بدأ جبارة المقابلة وأنهاها بهذه الجملة. ثم تابع حديثه على الهاتف واستقبل زواره المتوافدين الى مكتبه كما لو أن شيئاً لم يكن. واثناء تواجدنا في المكتب، دخل احد الاشخاص وبادر رئيس البلدية بالحديث عن النفايات المنتشرة في بعض الاحياء.
سأل الرجل رئيس البلدية:"بدك شي ريّس؟
فرد عليه الرئيس: كلّو ماشي؟
الرجل: الروضة والسبتية بطلّ فيها شي وهلق بدن يوصلوا على السنترال.
الرئيس : مين عم يشتغل؟
الرجل: شغّيلتنا (عمالنا) وسوكلين.
الرئيس: وين عم يكبوا؟
الرجل: عم نحطن على نهر الموت. شو بدنا نعمل؟
الرئيس: يلا ماشي الحال."
لم نتمكن من كشف مصير هذه النفايات بعد نقلها الى نهر الموت. فبعد انتهاء الحوار الجانبي مع الرجل، حاولنا التحدث مجدداً مع جبارة ولفتنا نظره الى ان الموعد كان للتداول بأزمة النفايات. فأتى جوابه: "اذا قصة مقابلة بيني وبينك ما الي جلادة… اعملي لي بدك ياه". أصرينا مجدداً على أن هناك أسئلة بحاجة الى توضيحه. فقال: "ولك بتعرفيهن إنتِ، جاوبي عني". وبسؤاله عن موافقته على إجراء مقابلة ثم رفض اعطائنا حديث، اكتفى بالقول: "فكرتك جاية كرمال إشتراك". لم يعد امامنا حينها سوى الاستفسار من السكرتيرة عن امكانية حدوث لغط في المواعيد. الا ان هذه الاخيرة اكدت لنا انها اوضحت لجبارة ان هدف المقابلة كان الحديث عن ازمة النفايات.
في وقت تتعالى الصرخات جراء الروائح الكريهة والأمراض المتفشية والتلوث البيئي، يجد رئيس بلدية المنطقة في قضية النفايات موضوعاً ثانوياً لا يستحق ان يفرد لأجله بعضاً من وقته الثمين. كما انه لا يتردد من التنصل منه بأسلوب لا يليق بالمنصب الذي يشغله.