عانى لبنان خلال الحرب العالمية الثانية (1939 – 1945) من أزمة اقتصادية حادة شأنه شأن جميع البلاد المشاركة في الحرب أو التي شكلت ساحة لها. وقد أدت إلى غلاء في المعيشة أثر بشكل كبير على مداخيل الطبقات المتوسطة والفقيرة وقدرتها على تلبية حاجاتها الأساسية ومنها السكن. وبحسب الحقوقية ندى نصار، انعكست الأزمة بشكل خاص على وضع الإيجارات والعلاقة بين المالكين والمسـتأجرين: فعقود الإيجار كانت تخضع آنذاك، بما يتصل بمدتها وبدلاتها، لمبدأ حرية التعاقد من دون أي ضوابط، وتالياً لشروط العرض والطلب. وقد استفحلت الأزمة تدريجياً مع إنخفاض عدد المساكن المعروضة للإيجار بفعل الحرب، مما سمح للمالكين بالتلاعب ببدل الايجارات. وعليه، أضحت أزمة الإيجارات إحدى أكبر الأزمات التي واجهها لبنان خلال الحرب. وتبعاً لذلك، تدخّل المشرّع لوضع حد لاحتكار الأسعار ولإيجاد صيغة تنصف المستأجر وتمنع رميه في الشارع على خلفية عجزه عن دفع بدل إيجار مرتفع مع الحفاظ في الوقت عينه على حقوق المالك آخذاً في عين الاعتبار الوضع الاقتصادي الحرج[1].
نعود في هذا البحث إلى القرارات الصادرة عن المفوّض السامي الفرنسي بين عامي 1940 و1943. ثم نتناول السياق السياسي والاجتماعي الذي رافق إقرار قانون الايجارات الأول الصادر عام 1944 عن حكومة رياض الصلح بعد نيل لبنان استقلاله عن فرنسا عام 1943. ونحاول من خلال هذا البحث الإضاءة على الدور الذي لعبه المشرّع، عشية الاستقلال وغداته، للحد من أزمة السكن من خلال حماية المستأجرين وتأمين حقوق المالكين آخذين في عين الاعتبار غلاء المعيشة وارتفاع الأسعار بسبب الأزمة الاقتصادية.
ويرتدي البحث في هذه الفترة أهمية مضاعفة: فعدا عن أنه يضيء على فترة هامة من تأسيس لبنان ما بعد الاستقلال، فإنه يشرح لنا بوضوح منشأ ما نسميه اليوم بالإيجارات القديمة، أي الإيجارات التي تمدد بقوة القانون، والتي باتت منذ 1992 تتميز عن الإيجارات الجديدة أو الحرة. ونسارع إلى القول بأن الدوافع للتمديد القانوني في الأربعينيات اختلفت في جوهرها وفي أبعادها عن التمديد القانوني الحاصل في فترة ما بعد انهيار الليرة اللبنانية في الثمانينّات. ففي الأربعينيّات، بدا واضحاً أن الدافع الأساسي يكمن في منع المالكين من استغلال ندرة المساكن لرفع بدلات الإيجار على نحو غير عادل. أما في الثمانينيّات وما بعد، أصبح الدافع الأساسي مع انهيار قيمة بدلات الإيجارات القديمة، تحميل المالك مسؤولية إسكان المستأجرين في ظل تقاعس الدولة عن وضع سياسة إسكانية قادرة على ضمان حق السكن لهؤلاء ببدلات معقولة. وعليه، بدا واضحاً أن الدولة عملت في الأربعينيات للحدّ من مظلومية المستأجرين ضد تعسّف المالكين، فيما انتهت في الثمانينيات إلى التعسّف ضد المالكين من خلال تحميلهم مسؤولية السكن ببدلات متدنيّة جداً. وبالطبع، تغير الوضع في 2014 بعدما أعلنت الدولة نيتها تحمّل جزء من أعباء الإيجار تمهيداً لتحرير الإيجارات القديمة، إلا أن تقاعسها عن تطبيق موجباتها في هذا المضمار أدى إلى تعزيز هشاشة أوضاع المستأجرين من دون تحسين أوضاع المالكين. إلا أن تلك مسألة أخرى تخرج عن حدود هذا المقال.
الإيجارات مع بدء الحرب (1940 – 1943)
شهدت تلك الفترة تدخلاً متكرراً من قبل السلطات الفرنسية لضبط العلاقة بين المستأجر والمالك وذلك من خلال إصدار قرارات تحدد قيمة الإيجارات تبعاً للوضع الاقتصادي، خاصة بعدما سعى بعض المالكين إلى التلاعب بقيمة الإيجارات بعدما ارتفع الطلب على المساكن.
في 28 كانون الأول 1940، أصدر المفوّض السامي الجنرال هنري فيرناند دينتز قراراً يحمل الرقم 368 ل.ر. مدد على أساسه الإيجارات على أنواعها حتى نهاية عام 1941. وأعطى القرار المالك الحقّ في طرد المستأجر إذا استعمل هذا الأخير “العقار في غير الوجوه التي استأجره من أجلها[2]“. ونصت المادة السادسة من القرار على “تغريم المالك إذا لم يشغل المأجور بعد إخلائه خلال 3 أشهر على الأقل و3 سنوات على الأكثر من خروج المستأجر[3]“. ونصت المادتان السابعة والثامنة على أن “الايجارات الجديدة التي عقدت قبل نشر هذا القرار يكون البدل فيها حسب اتفاق الطرفين على أن لا يتعدى البدل الذي رفع في أول شباط 1940[4]“.
وفي قرار ثان صادر في 4 شباط 1941، حدد المفوض السامي السلفة على الإيجار لمدة أقصاها 3 أشهر. وطالب البلديات بالإعلان عن المباني الخالية الصالحة للسكن ضمن نطاقها خلال مدة 8 أيام مع الإعلان عن قيمة آخر إيجار على المنزل[5]. وتوالت القرارات الصادرة عن المفوضية السامية والتي كانت تهدف إلى حماية المستأجر من التلاعب ببدل الايجارات. فأصدر المفوض السامي مع تفاقم الأزمة الاقتصادية، في 16 أيار 1941 القرار رقم 110 الذي منع صاحب الملك من زيادة الإيجار تحت طائلة تغريمه ما يعادل على الأقل “قيمة المبالغ التي طلبها أو قبضها المؤجر علاوة على ما ينص عليه القانون ودون أن يزيد هذا المبلغ 3 أضعاف[6]“. كما أجبر المالك على إعادة المبالغ التي قبضها عن غير حق.
ومع اقتراب نهاية العام ومعها مدة التمديد للإيجارات المعمول بها، طالب المالكون بتعديل القرار المعمول به في حين عمد بعضهم إلى زيادة الإيجار خلافاً للقانون. وعلى إثره، وقع رئيس الجمهورية ألفرد نقاش في 2 كانون الثاني 1942 مرسوماً اشتراعياً يقضي بزيادة الإيجارات المعقودة قبل 1 كانون الأول 1939 أو التي جددت بعد هذا التاريخ بين 10 و20%[7]. وفور صدور الخبر، وجه وفد من المستأجرين عريضة إلى رئيس الجمهورية اعتبروا فيها أن المرسوم الصادر “راعى مصلحة الملاكين وظلم الأكثرية الساحقة من المستأجرين[8]” وطالبوا بعدم تطبيق أي زيادة على “إيجارات الفقراء”.
وخلال هذه الفترة، زاد الطلب على المنازل التي لم تكن لتستوعب هذه الأعداد. فراح المالك يسعى لطرد المستأجر لإعادة تأجير ملكه بسعر مرتفع[9]. وعلى الفور، كلفت الحكومة وزيري العدل والخارجية وضع مشروع قانون يلبي طلبات وحاجات المستأجرين والمالكين، لاسيما أن هؤلاء كانوا يشكون بقاء مواردهم ودخل أملاكهم على ما كانت عليه في السنوات الخمس السابقة على الرغم من ارتفاع الأسعار[10]. ومرة أخرى، لجأت الحكومة إلى تمديد الايجارات حتى 31 كانون الأول 1943. وجاء في المادة الرابعة للمرسوم الصادر في 14 كانون الأول 1942 أن “بدل الإيجار المحدد في العقود الجارية قبل أول أيلول 1939 والتي جددت أو مددت بعد ذلك التاريخ يمكن زيادته اعتباراً من أول كانون الثاني 1943 على الأساس التالي، بالرغم من كل دفع سابق من بدلات الإيجار يعود لمدة سابقة لتاريخ أول كانون الثاني [11]1943″. وعليه، زيدت إيجارات السكن بين 20 و40%.
ومع انتهاء عام 1943، وبعد نيل لبنان استقلاله عن فرنسا، بدأ النقاش مجدداً حول مصير الإيجارات. فانقسمت الحكومة بين مؤيدين لتمديد المرسوم سنة جديدة وبين مؤيدين للتعديل على نسب الأجور التي تتجاوز 400 ليرة[12]. وبالتالي طرح مشروع قانون جديد للإيجارات.
وعليه، خلال هذه الفترة، شهدنا بدء تطبيق نظام التمديد القانوني لعقود الإيجارات التي ستعرف فيما بعد بعقود الإيجارات القديمة. وفيما أبدت الحكومة صرامة في هذا الصدد في مواجهة المالكين، فإنه من البيّن أن عدداً من هؤلاء حاول التحايل على القانون للتفلت من أحكامه.
قانون الإيجارات عام 1944: بين ضغط الشارع ونقاشات النواب
في العام 1944، أي بعد نيل لبنان استقلاله، باشرت وزارة العدل دراسة مشروع قانون إيجارات جديد مع ممثلين عن المالكين والمستأجرين والقضاة. وحاولت الوزارة التوفيق بين الطرفين المتنازعين وتوحيد مطالبهم قبل طرح الصيغة النهائية للمشروع.
انتفض المستأجرون على المشروع المطروح وشكلوا لجنة للدفاع عن حقوقهم. وعلى إثر اجتماعات مكثفة، أصدرت اللجنة بياناً وجهته إلى رئيس الحكومة رياض الصلح ووزير العدل أيوب تابت شددت فيه على معارضتها لكل زيادة في الايجارات “لأنها زيدت كفاية ولم يطرأ أي تبدل على الحالة الاقتصادية[13]“. كما رفضت اللجنة أن يسترد المؤجرون أملاكهم “ما دام المستأجر يقوم بدفع البدل المترتب عليه طوال مدة الحرب[14]” بالإضافة إلى منح المستأجرين “الذين اضطروا للاستئجار ببدلات فاحشة حق طلب التخمين وإعادة النظر بها[15]“. وطالبت اللجنة جميع المستأجرين التضامن فيما بينهم للدفاع عن حقوقهم. ورفعت اللجنة لاحقاً عريضة إلى رئيس الجمهورية بشارة الخوري “وكّلوه” (بمعنى: تمنّوا عليه) من خلالها الدفاع عن مصالحهم.
وأدت الخلافات بين الطرفين إلى عرقلة عمل المحاكم. فأشارت جريدة “النهار” إلى أن “المحاكم الصلحية والبدائية حائرة بين القضايا التي وردت إليها حتى الآن من ملاكين ومستأجرين[16]“، وأن القضاة قرروا تأجيل البت في الدعاوى إلى حين صدور القانون الجديد.
انتهت الحكومة من درس مشروع القانون في أواخر كانون الثاني 1944. وفي 23 كانون الثاني، وقع رئيس الجمهورية على مشروع القانون الجديد وأحيل على المجلس النيابي لدرسه. وكما كان متوقعاً، لم يرضِ مشروع القانون مطالب المستأجرين الذين اعتبروا أنه كان على المعنيين تقديم قانون يشكل “تسوية توفّق بين حق المالك ومقدور المستأجر على الدفع بحيث لا يظلم الأول ولا يرهق الثاني[17]“. لكنهم رأوا أن المشروع وبعكس ذلك سيؤدي إلى تحميل المالك الصغير عبء الأزمة التي تمر بها البلاد ومعه أيضاً التجار الصغار الذين يشكلون الأكثرية الساحقة. كما رأوا أن القانون سيساهم في “إثراء المالك الكبير وبعض المستأجرين تحت ستار الموظف والعامل والمستخدم”. وقد اقترح المحامي حبيب ربيز في مقال في “النهار” العودة إلى لجان التحكيم التي كان معمولاً بها للموازنة بين الفريقين فـ”يكلف الميسور منهما على احتمال عبء الأزمة وذلك ضمن حد أدنى وحد أعلى يقرره وتطبقه اللجان التحكيمية وفقاً لظروف كل دعوى”. وطالب بتطبيق الزيادة على أساس القرار الصادر عام 1939 الذي شرّع الأجور الاستثنائية.
في المقابل، اعتبر المالكون أن المشروع أعطى للمستأجر حقوقاً “أصبح هو معها صاحب الملك مع أنه لم يعمره ولم يرهنه ولا يدفع عنه الرسوم”. كما أن السماح له بالتأجير بدون موافقة المالك يعطيه مورداً إضافياً على واردات المالك. وتساءل كاتب وجّه رسالة إلى “النهار” عن حرمان المالك حق الزيادة “بينما التاجر حرّ في أن يبيع بضاعته بأي سعر يشاء، مع العلم أن أكثر الملاكين ليس لهم أي إيراد إلا من أملاكهم لتغطية نفقاتهم وصيانة الأبنية التي يملكونها[18]“. وأشار إلى أن “دوائر السجل العقاري تبيّن أن هناك 22 ألف بناية يملكها 70 ألف ملاك. ومتوسط صغار الملاكين 88%، فيكون معدل كبار الملاكين 12%، بينهم أوقاف مختلف الطوائف[19]“.
في موازاة ذلك، تحرّكت لجان الملاكين والمستأجرين نحو المجلس النيابي. فقدم الطرف الأول عريضة للمجلس “طلبوا فيها زيادة الايجارات وفق المشروع السوري بعد أن كاد التشريع في البلدين أن يكون واحداً[20]“. فيما أصر المستأجرون على إعادة المشروع إلى الحكومة لتعديله قبل إحالته إلى مجلس النواب. من جهته، اعتبر رئيس الحكومة أن الزيادات التي أقرّت بسيطة وقد راعت الحكومة من خلالها أوضاع الموظفين والمستخدمين والعمال، أي الطبقتين المتوسطة والدنيا.
وتحت ضغط الشارع، عاودت “لجنة الإدارة والعدلية” اجتماعاتها لدرس العرائض والاقتراحات المقدمة من كلتا اللجنتين اللتين وجدتا في الدولة الحكم الذي يمكن أن ينصفهما. فاقترح عدد من النواب تمديد قانون الإيجارات المعمول به إلى حين انتهاء الحرب فيما رأى نواب آخرون أنه يجب إقرار المشروع الجديد بعد إدخال بعض التعديلات عليه، في حين طالب فريق ثالث اتخاذ مرسوم 1939 أساساً لأي تعديل يطرح[21]. وعلى إثره، كلفت اللجنة النائب وديع نعيم ومقرر اللجنة جورج عقل درس هذه الاقتراحات. قدم هذا الأخير تقريره في 3 شباط 1944 فأيّد مطالب المستأجرين بالإبقاء على رسوم الإيجارات كما هي إلى حين إنتهاء الحرب أو تمديدها سنة على الأقل. في حين قدم نعيم مشروعاً جديداً اقترح فيه تعديل مشروع الحكومة: “تجري الزيادات على أساس إيجارات 1939 (لا على أساس 1941 كما جاء في مشروع الحكومة) باعتبار أن إيجارات 1939 اتخذت أساساً لزيادتين متتاليتين فلا يجوز والحالة هذه أن يتبدل الأساس لعدم تبدل الحالة العامة”. وقسم المستأجرين إلى فئتين: مستأجري “العقارات ومكاتب المهن الحرة ومستوصفات الأطباء والجمعيات الخيرية” فيما الفئة الثانية تضم “المحلات التجارية والصناعية[22]“. واجتمعت اللجنة النيابية لدراسة الاقتراحين وانقسم أعضاؤها بين مؤيد لمشروع الحكومة وبين معارض له و”لكل مشروع يقسم المستأجرين على اعتبار أن المستأجرين جزء لا يتجزأ وأن الحالة التي أوجبت الزيادة لا تزال كما كانت[23]“. وبالتالي طالب المعارضون تمديد قانون الإيجارات المعمول به إلى نهاية 1944. ومع احتدام الخلاف في اللجنة، قرر الأعضاء التصويت على المشروع ما أدى إلى سقوط مشروع الحكومة وإقرار تمديد العمل بالقانون الحالي. وقد رأت اللجنة في تقريرها أن “الغلاء لا يمكن أن يعالج بتشجيع الغلاء وتقريره بقوانين وأن مبدأ الرفق بالمستأجر هو من أسمى المبادئ الإنسانية المتلاحمة مع العدل والظرف الاستثنائي الحاضر”. واعتبرت أن الوضع الاقتصادي للمالك أفضل من المستأجر “لأن هذا يعيش من عمله بينما المالك يضيف إلى مداخيل عمله والعمل مفروض في كل إنسان عائدات ملكه العقاري[24]“.
لكنّ وزير العدل أصر على طرح مشروعه وكذلك فعل النائب نعيم فبات أمام مجلس النواب ثلاثة مقترحات قوانين إيجارات للدرس. وفي جلسته في 12 شباط، ردّ المجلس بأكثرية ساحقة مشروع قانون الحكومة إلى لجنة العدل لدراسته من جديد.
عادت اللجنة إلى الاجتماع لدرس المشروع فطرح بعض أعضائها فكرة تصنيف المالكين أسوة بالمستأجرين وعلى أن يبقى أساس الزيادة عام 1941. عارض الطرح 4 نواب واقترح هؤلاء “تأليف لجان للتخمين يكون إقرارها الصفة التنفيذية بدلاً من التصنيف الذي تقترحه الحكومة لما قد ينشأ عنه من مشاكل بين المؤجر والمستأجر كما قد يخلق للقضاة متاعب تقضي بهم إلى الاتكال على لجان التخمين فيما بعد[25]“. ولكنّ الحكومة ومعها وزير العدل ارتأت تبنّي اقتراح تصنيف المالكين بحجة أنه سيساهم في تخفيف الزيادة عن المستأجرين. رفضت اللجنة الاقتراح وأجمع أعضاؤها على “اتخاذ أول تشرين الأول 1939 أساساً للزيادة بدلاً من أول كانون الثاني 1941 كما هو منصوص عليه في مشروع الحكومة[26]“. وافق الوزير على الاقتراح وانتدبت اللجنة 4 أعضاء لمناقشة هذه الزيادة مع الحكومة بطريقة ترضي الطرفين.
قانون الإيجارات يبصر النور
في 25 شباط 1944 أقر مجلس النواب قانون الايجارات في جلسة استمرت 6 ساعات وشهدت نقاشات محتدمة بين النواب. هاجم عقل “المستثمرين والمحتكرين والمتلاعبين بقوت الشعب وطلب إنزال العقاب بهم[27]” وناشد المالكين “أن يحكّموا عواطفهم في معاملة المستأجرين إلى أن تزول الحالة الاستثنائية[28]“. واتهم النائب عبدالله اليافي النواب بأنهم “يرتجلون القوانين[29]” وطالب بإعادة المشروع إلى اللجنة النيابية مجدداً، فيما رأى النائب نعيم أنه من المستحيل أن يرضي أي مشروع قانون المالك والمستأجر في آن وبالتالي من الأفضل ترك حلّ قضايا مماثلة “لهيئة مختصة لأنها غالباً ما تكون ذات طابع شخصي[30]“. في المقابل، ساند النائب رشيد بيضون المالكين قائلاً: “أثبتت الدوائر الرسمية أن هنالك 25 ألف بناية يملكها خمسة وسبعون ألف ملاك منهم 90 بالمائة من متوسطي الملاكين و10 بالمائة من كبار الملاكين. ومن هذا يتضح أن الأكثرية الساحقة هي من صغار الملاكين الذين يجب العطف عليهم واحاطتهم بسياج من الحصانة حتى لا يصيبهم طمع الذين يريدون أن يخففوا عن أنفسهم شيئاً من أجور بيوتهم[31]“. واعتبر زميله جميل تلحوق أن “هذا المشروع أرهق المالك وأضر به وأمّن للمستأجر سكنه وانتزع من المالك حق الانتفاع بملكه وتركه في حالة الشقاء[32]“.
وقد جاءت الأسباب الموجبة للقانون مطابقة لتوجّه الحكومة حينها وهو إيجاد حلّ ينصف المستأجر في ظل الأزمة الاقتصادية ويمنع المالك من الاحتكار والتلاعب بالأسعار بسبب قلة عدد المساكن وازدياد الطلب عليها. فاعتبر القانون أن “الأسباب التي دفعت الحكومات منذ عام 1940 للتدخل بين المالك والمستأجر لا تزال على حالها وأهمها زيادة سكان العاصمة والمدن الأخرى من جهة ومن جهة ثانية قلة البناء ومصادرة البيوت بفعل الظروف الحاضرة”. لذا ارتأت الحكومة أن تقترح على المجلس النيابي “تشريعاً جديداً تتفق أحكامه مع الضرورات الحاضرة ونتائج اختبارات الماضي. فقضية الأجور قضية اجتماعية واقتصادية خطيرة”. وفيما اعترفت الحكومة أنها لم تتمكن من وضع مشروع يرضي الطرفين، رأت أنه “خطوة جريئة في سبيل التوفيق بين المصالح المتناقضة والمحافظة على الطبقات ذات الموارد المقننة والتي أرهقتها الأحوال الحاضرة[33]“.
وقد نصّت المادة الخامسة من القانون على “أن بدل الإجارة المعين في الاتفاقات التي عقدت قبل أول أيلول سنة 1939 أو جددت رضاء أو مددت بموجب القوانين السابقة يحدد لسنة 1944 وفقاً للمعدل التالي شرط أن لا يقل بدل الإيجار له لسنة 1944 عن بدل الإيجار لسنة 1943”. وقد راوح معدل الزيادة بين 25 و50%. وجاء في المادة السادسة “أن الإجارات المعقودة لمستأجر جديد منذ تاريخ أول أيلول سنة 1939 حتى أول تموز سنة 1941 تكون خاضعة لزيادة قدرها 40% من الضمائم القانونية المبيّنة في المادة السابقة”. ونصّت المادة السابعة على أن “لا تخضع لأية زيادة بدلات الإيجارات المعقودة لمستأجر جديد بعد أول تموز سنة 1941 وما يليها رغم تمديدها بمقتضى أحكام المادة الأولى من هذا القانون”. وحددت المادة الثالثة عشرة التالي: “بالرغم من كل اتفاق سابق أو عادة محلية لا يجوز طلب البدل مسبقاً عن مدة تزيد عن ثلاثة أشهر ولا يحق للمؤجر أن يتذرع بهذا السبب لزيادة بدل الاجارة”. وحدد القانون في المادة 14 سقوط حق التمديد للمستأجر إذا تأخر شهراً عن دفع إيجاره وتبليغه بذلك رسمياً، أو إذا أحدث أي تخريب فادح في المنزل أو استعمله بطريقة تنافي الاتفاق المعقود بينه وبين المالك. وسمح القانون في المادة 15 للمالك باسترداد منزله في الحالات العائلية الطارئة ولأجل استعماله الشخصي. لذا لا يحق له تأجيره وعليه تشغيله في مدة أقصاها 6 أشهر ودفع إخلاء للمستأجر لا يقل عن بدل إيجار سنة[34].
- نشر هذا المقال في العدد | 60 | حزيران 2019، من مجلة المفكرة القانونية | لبنان |. لقراءة العدد اضغطوا على الرابط أدناه:
منحة السكن ومحنته
[1] Nada G. Nassar. Le droit du bail au Liban. Paris: Librairie générale de droit et de jurisprudence, 1984, p. 17
[2] قرار بتمديد الإيجارات وتحديد الأجور. جريدة النهار، 31 كانون الأول 1940
[5] قرارات جديدة بشأن عقود الإيجار. جريدة النهار، 5 شباط 1941
[6] قرار جديد يمنع التلاعب في العقود. جريدة النهار، 17 أيار 1941
[7] قانون زيادة الأجور. جريدة النهار، 3 كانون الثاني 1942
[8] الضجة حول قانون الايجارات. جريدة النهار، 7 كانون الثاني 1942
[9] البحث بأجور المنازل في الأسبوع القادم. جريدة النهار، 8 تشرين الأول 1942
[10] قانون الايجار في مجلس الوزراء. جريدة النهار، 3 كانون الأول 1942
[11] تعديل قانون الايجارات وتمديدها سنة. جريدة النهار، 15 كانون الأول 1942
[12] وضع قانون جديد للإيجارات. جريدة النهار، 2 كانون الأول 1943
[13] وزارة العدلية تدرس الايجارات. جريدة النهار، 12 كانون الثاني 1944
[16] مشكلة الإيجارات تزداد تعقداً. جريدة النهار، 15 كانون الثاني 1944
[17] نظرة في قانون الإيجارات الجديد. جريدة النهار، 1 شباط 1944
[18] المجلس ينظر في قضية الإيجارات. جريدة النهار، 11 شباط 1944
[20] مشروع الايجارات في لجنة العدلية. جريدة النهار، 1 شباط 1944
[22] مفاجأة في قانون الإيجارات: لجنة العدلية ترد مشروع الحكومة. جريدة النهار، 4 شباط 1944
[24] محاضر مجلس النواب، الدور التشريعي الخامس، العقد الاستثنائي الثاني لسنة 1944، محضر الجلسة الرابعة
[25] مشروع الإيجار بين الحكومة واللجنة. جريدة النهار، 17 شباط 1944
[26] مشكلة الإيجارات في اللجنة. جريدة النهار، 18 شباط 1944
[27] المجلس يصدق على قانون الإيجارات. جريدة النهار، 26 شباط 1944
[31] محاضر مجلس النواب. الدور التشريعي الخامس، العقد الاستثنائي الثاني لسنة 1944، محضر الجلسة الرابعة.
[33] محاضر مجلس النواب، الدور التشريعي الخامس، العقد الاستثنائي الثاني سنة 1944، محضر الجلسة الثالثة.
[34] محاضر مجلس النواب، الدور التشريعي الخامس، العقد الاستثنائي الثاني لسنة 1944، محضر الجلسة الرابعة