أبعد من قضية بريصا، آن أن نحاكم سياسة السدود في لبنان


2019-11-05    |   

أبعد من قضية بريصا، آن أن نحاكم سياسة السدود في لبنان

بتاريخ أمس، عمم النائب العام المالي علي ابراهيم خبرا مفاده أنه ادّعى في ملف سد بريصا على مجلس الإنماء والإعمار وأشخاص آخرين. وقد تبين باتصال مع النائب العام المالي أن الادعاء انبنى على المادة 363 من قانون العقوبات التي تعاقب الفساد في التعهدات العامة وأنه حصل ضد مجلس الإنماء والإعمار الذي هو مؤسسة عامة من دون الادّعاء ضدّ رئيس المجلس ولا ضدّ أي شخص طبيعي آخر. وتعليقا على هذا الادعاء، يقتضي التذكير بالأمور الآتية:

1- أنه جدّ مستغرب أن يمارس ابراهيم ادعاءه ضد هيئة عامة من القطاع العام، من دون أن يحدد الأشخاص الطبيعيين المسؤولين عن هدر المال العام والفساد. ويأتي الادعاء من هذه الجهة بمثابة تجهيل للفاعل وتمييع للمسؤوليات الفردية. وعليه، يؤمل أن يعمد قاضي التحقيق المختص إلى تصحيح هذا الخلل واستكمال التحقيقات في هذا الملف تمهيدا لدعوة النيابة العامة إلى تصحيح ادعاءها، ضمانا لوصول الملاحقة إلى خواتيمها.

2- أن هذا الادعاء يأتي تبعا للنقاشات التي شهدتها الهيئة العامة لمجلس النواب بتاريخ 24 أيلول 2019 حول إقرار اتفاقية قرض بقيمة 8 ملايين د.أ مع الصندوق الكويتيّ للتنمية الاقتصادية العربية وذلك لتأهيل أرضيّة سدّ بريصا كون طبيعة الأرض الكلسية في منطقة السدّ لا تسمح بتجميع المياه. وقد كشف عدد من النواب خلال النقاشات أن كلفة السد فاقت ثلاث مرات كلفته الأساسية. ففيما كانت مقدّرة ب 10 ملايين دولار، فإنّ تصليح قعر السدّ بسبب طبيعة الأرض كلّف حتى الآن عشرين مليون دولار إضافية، ويأتي هذا القرض الذي تقارب قيمته ثمانية ملايين دولار مخصّصا للغرض نفسه. والفضيحة هنا لا تقتصر على هدر المال العام، إنما أيضا على التأخر في إنجاز السدّ الذي كان المتوقّع الإنتهاء منه في العام 2003. وقد خلص رئيس المجلس نبيه بري تحت ضغط النقاش إلى مطالبة وزير العدل ألبر سرحان بفتح تحقيق في الملف على أن يُنجز في مهلة شهر كحدّ أقصى، وإلّا سيشكّل المجلس النيابي لجنة تحقيق خاصّة. وقد كشفت هذه القضية حجم الفساد في إدارة الأشغال العامة، بفعل تماهي ممثلي المؤسسات العامة والدولة مع المتعهدين.

3- أن المواجهة حول فتح اعتمادات جديدة لإنشاء سد بريصا أخذت طابعا طائفيا سياسيا، تراءى من خلاله شبح المحاصصة. وكان النائب ابراهيم كنعان ووزير الدفاع الياس بو صعب انتقدا الإزدواجية في مواقف رئيس الوزراء سعد الحريري، على خلفية أن الحريري وافق على فتح اعتماد جديد في قضية سدّ بريصا الواقع في منطقة الضنية، فيما أنه رفض ذلك فيما يتصل بالمشاريع المتعلّقة بجبل لبنان.

أخيرا، يرشح هذا الإدعاء عن أبعاد تتجاوز بكثير قضية بريصا لتتناول سياسة بناء السدود بشكل عام، وما يتخللها من جهل وسوء إدارة وتخطيط. فخلال النقاشات النيابية، صرحت وزيرة الطاقة والمياه، تبريرا للاعتمادات الجديدة ولعجز السدّ عن تجميع المياه، أنه يصعب معرفة طبيعة التربة قبل تنفيذ أعمال السدّ. وبالطبع، هذا الاعتراف بعدم قدرة الإدارة التنبؤ بمدى نجاح السدّ في تحقيق أهدافه ينسحب على مجمل سياسة إنشاء سدود ويقوي مناوئيها وبخاصة في حال أدى إنشاؤها إلى تدمير مواقع ذات أهمية كبيرة لاعتبارات عدة كمرج بسري. ففي هذه الحالة، نكون بصدد تدمير الثروة والبيئة لتحقيق هدف احتمالي محض. وما يزيد من قابلية تصريح الوزيرة للانتقاد هو أنها من ضمن فريق سياسي استلم وزارة الطاقة منذ أكثر من 10 سنوات واتبع استراتيجية تشييد السدود بشكل منتظم في حين أن الطبيعية الجيولوجية الكارستية للأرض اللبنانية غير خفية على أحد، وهي صخور متفسّخة تشرب المياه وتجعل بناء السدود في لبنان خيارا غير مجدٍ إذ تتسرّب المياه منها بشكل كبير. من هذا المنظار، جاز وصف المحاكمة المنتظرة بأنها لا تقتصر على محاكمة المسؤولين عن بناء سد وحسب، بل هي تتمدد لتشمل سياسة السدود في لبنان والتي آن الأوان لإعادة النظر فيها. في هذا ألإطار، كان د. رولان رياشي (وهو خبير في المياه) انتقد في حديث مع المفكرة الخطة العشرية التي أقرّت في 2000 من قبل وزارة الطاقة والمياه، فضلا عن استراتيجية 2012 التي وضعها وزير الطاقة السابق جبران باسيل، للاعتبارات المشار إليها أعلاه. وقد لفت رياشي إلى أن المياه تتسرب من سدّ شبروح بما يتراوح بين 200 إلى 400 لتر/الثانية. كما لفت إلى أن لبنان ليس بحاجة إلى تخزين مياه (حيث يوجد أكثر من 50 خزان مياه جوفية)، بل هو بحاجة إلى إدارة سليمة لمياهه الجوفية، مع توزيع فعال لخزانات مياه على كل مساحته، وإصلاح شبكة المياه، والعمل على تكوين طاقات بشرية كفوءة؛ وهي كلها اجراءات ذات كلفة قليلة مقارنة بأكلاف تشييد السدود.

انشر المقال

متوفر من خلال:

لبنان ، مقالات ، بيئة وتنظيم مدني وسكن



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني