السلطة في مواجهة النقابات في لبنان: اثنين لصفر؟


2015-01-27    |   

السلطة في مواجهة النقابات في لبنان: اثنين لصفر؟

شهد 25 كانون الثاني 2015 حدثين ملفتين في تاريخ العمل النقابي في لبنان. ففي اليوم الذي ولدت فيه نقابة لعاملات المنازل في لبنان متحدية ارادة وزير العمل سجعان القزي، نجح الطاقم السياسي في وضع يده على هيئة التنسيق النقابية من خلال انتخابات رابطة اساتذة التعليم الثانوي الرسمي. فقد فازت اللائحة المدعومة من 14 و8 آذار الى جانب التيار الوطني الحر والحزب التقدمي الاشتراكي في وجه لائحة رئيس الرابطة الحالي الاستاذ حنا غريب مدعوما من القوى اليسارية والمستقلين. هكذا اذاً تمكنت لائحة “التوافق النقابي” او “التوافق على انهاء حالة هيئة التنسيق” اذا صح التعبير من الفوز بأغلبية 16 مقعداً من اصل [1]18 في وجه «لائحة الحفاظ على الحقوق والموقع الوظيفي لأستاذ التعليم الثانوي» في الهيئة الادارية لرابطة اساتذة التعليم الثانوي الرسمي. وهذه ليست المرة الاولى التي تتدخل فيها السلطة السياسية مباشرة للامساك بالعمل النقابي في لبنان. فتجربة رئيس الاتحاد العمالي العام الياس ابو رزق خير دليل على ذلك. وما جرى  يدفعنا الى التذكير بما حصل خلال التسعينات عندما قررت السلطة ازاحة ابو رزق. فبغض النظر عن نجاح او اخفاق كلا من غريب وابو رزق، شكل نهج الرجلين مصدر ازعاج للطبقة الحاكمة في مرحلة ما والتي اعتادت على تدجين من حولها لخدمة مصالحها السياسية.

بدأت معركة الياس ابو رزق مع السلطة عام 1993 في الانتخابات الاولى للاتحاد العمالي العام بعد اسقاط حكومة الرئيس عمر كرامي عام 1992. يومها، تدخل وزير العمل عبدالله الامين، العضو في “حزب البعث العربي الاشتراكي،” في الانتخابات مباشرة فأعلن دعمه لرئيس الاتحاد آنذاك أنطوان بشارة في وجه ابو رزق. ورغم الضغوط الكبيرة، نجح ابو رزق في الفوز برئاسة الاتحاد بفارق صوت عن بشارة تبعا لتحالفه مع القوى اليسارية. انعكس فوز ابو رزق سريعاً على الارض اذ بدأ الاتحاد العمالي العام بتنظيم تحركات مطلبية هدفت الى تصحيح الاجور ومكافحة غلاء المعيشة. وبالفعل، شهدت هذه المرحلة عودة للعمل النقابي في لبنان كما استطاع ابو رزق تحريك الشارع مجدداً قبل ان تفرض حكومة الرئيس رفيق الحريري قرار منع التظاهر بحجة المخاوف الامنية.

نظمت الانتخابات الثانية للاتحاد في نيسان 1997 وكان على ابو رزق ان يواجه هذه المرة وزير العمل الجديد اسعد حردان، العضو في الحزب السوري القومي الاجتماعي. تنافست لائحتان برئاسة ابو رزق من جهة وغنيم الزغبي من جهة اخرى. لجأت السلطة حينها الى اسلوب “قمعي” جديد حين منعت القوى الامنية ابو رزق من الدخول الى مقر الاتحاد. خرج هذا الاخير اذ ذاك ليقول امام وسائل الاعلام ان الانتخابات قد تمّت وبأنه قد انتخب رئيساً وياسر نعمة اميناً عاماً للاتحاد. لكن، وفي الوقت عينه، كان الزغبي يعلن فوزه برئاسة الاتحاد ايضاً. وقع الخلاف وانقسم الاتحاد الى فريقين يتنازعان السلطة، الأمر الذي أدى الى شلّ عمله كلياً[2]. تقدم الزغبي امام النيابة العامة الاستئنافية بشكوى ضد ابو رزق بجرم انتحال صفة رئيس الاتحاد العمالي العام. لم يتأخر القضاء عن التحرك فأوقف ابو رزق في ايار 1997 في ما اعتبر يومها سابقة في تاريخ المواجهة بين الدولة والنقابات. ثار سخط المعارضة واتحادات العمال العربية والدولية. وحمّل رئيس المجلس النيابي السابق حسين الحسيني “الحكومة مسؤولية هذه الاساءة عن طريق تورطها في احداث هذه النزاعات بقصد شل الحياة النقابية وكبت الحريات العامة.وقد اشار الحسيني أن هذه الاساءة لا تقتصر على السيد الياس ابو رزق الذي يعتبر من اهم رموز الحركة النقابية فحسب، بل تشمل الحركة النقابية ومؤسسات المجتمع المدني برمتها.[3]” أوقف نعمة وانضم الى أبو رزق في اول اسبوع من حزيران واحالهما النائب العام الاستئنافي القاضي عبدالله البيطار امام قاضي التحقيق الاول سعيد ميرزا بتهمة المس بهيبة الدولة عبر اذاعة اخبار كاذبة في الخارج. وكان البيطار اكد انه ثبت لديه ان الرجلين راسلا المنظمات الدولية بأخبار كاذبة مفادها ان السلطة تحاول قتلهما كما انهم اتهموها بهدر الاموال وشراء الاصوات والتدخل في انتخابات الاتحاد العمالي دون تقديم اي اثبات[4]. ويبدو أن توقيف نعمة المقرب من رئيس الوزراء آنذاك الرئيس الراحل رفيق الحريري أثار غضب هذا الأخير، فنسي فجأة خلافاته مع ابو رزق وقرر التحرك في اتجاه القضاء. وقد ادى هذا التحرك الى اخلاء سبيل نعمة وابو رزق بعد ايام من توقيفهما[5]. ترك الرجلان لكن الدعاوى بحقهما انتهت بعد سنوات. ففي الدعوى الاولى التي اتت على خلفية الكتب والشكاوى التي وجهاها الى مكتب العمل الدولي ومنظمة العمل الدولية في 1997، اشتكى ابو رزق ونعمه من تدخل الادارة والاجهزة الحكومية والامنية في مسار الانتخابات النقابية. وقد رد القاضي المنفرد الجزائي في بيروت غادة ابو كروم في 10 تشرين الثاني 1999 الدعوى بعدما بيّن ان “المقصود بالاذاعة تعميم الخبر بجعله شائعاً ومتاحاً امام جميع الناس دون تمايز بينهم.” وانه تالياً غير متحقق في القضية المذكورة طالما ان الكتب والشكاوى وجهت الى هيئات محددة من دون اي تعميم[6].انتهت فصول هذه القضية عام 2007 عندما أبطل الحاكم المنفرد الجزائي في بيروت القاضي زياد مكنّا التعقبات القائمة بحق أبو رزق ونعمة في دعوى الحق العام المقامة عليهما بجرم تزوير محضر انتخابات هيئة مكتب الاتحاد في 24 نيسان 1997 وذلك لعدم توافر عناصر جرم التزوير في هذه الدعوى[7]. وبالعودة الى احداث عام 1997، حاول الزغبي توحيد الاتحاد حوله لكنه فشل فقدم استقالته بعدما كان وعد بالانسحاب في حال لم ينجح في مهمته. ترشح ابو رزق مجدداً في تموز 1998 الى رئاسة الاتحاد وفاز. واذ اعتقد البعض ان ابو رزق قبل بتسوية سياسية اعادته الى منصبه، عاد هذا الأخير غداة اعادة انتخابه الى مواجهة السلطة. وبما انّ هذه الاخيرة لا تستسلم قبل تحقيق مآربها، فقد لجأت عام 2000 الى حيلة جديدة لمنع ابو رزق من الترشح. قررت الحكومة احالة مجموعة من موظفي تلفزيون لبنان ومن بينهم ابو رزق الى التقاعد. حلت الوظيفة في التلفزيون ومعها “نقابة موظفي تلفزيون لبنان” وبالتالي اوصدت الابواب امام ابو رزق نهائياً هذه المرة[8].

رفع ابو رزق شعارات كبيرة في وجه حكومات الحريري فطالب بتطبيق سياسات اجتماعية عادلة تساهم في سد عجز الخزينة وتؤمّن معيشة لائقة للعامل والموظف. كما طالب بوضع خطة شاملة تحفظ حق المواطن في تأمين الرغيف والطبابة والسكن والتعليم. لا يتوافق الجميع على مقاربة ابو رزق لمعالجة هذه المسائل، حتى ان البعض اتّهمه بالرضوخ الى نزعته السلطوية على حساب المطالب الاجتماعية خلال رئاسته الاخيرة للاتحاد. وفي موازاة ابعاد ابو رزق، تمكنت السلطة من ايصال غسان غصن، المقرب من رئيس مجلس النواب نبيه بري الى رئاسة الاتحاد العمالي العام عام 2001. ظهرت انعكاسات هذا الامر سريعاً على الساحة النقابية حيث بات الاتحاد حلبة التقاء للأحزاب السياسية تارة ومركزا لصراعاتها تارة اخرى، وفي كلا الحالتين منفذاً لاجندتها. وبالفعل، نجح تآمر الطاقم الحاكم في شلّ عمل الاتحاد كلياً ويكفي ان نحاول العودة الى آخر تحرك مطلبي قام به هذا الاخير للتأكيد على ما تقدّم.

غاب العمل النقابي كلياً عن الساحة اللبنانية الى حين انتخاب الاستاذ في التعليم الثانوي حنا غريب رئيساً لهيئة التنسيق النقابية. اعاد هذا الاخير والى جانبه نقيب معلمي المدارس الخاصة نعمة محفوض الوهج الى الحركة النقابية في لبنان. عادت المطالبة مجدداً بإقرار سلسلة الرتب والرواتب منصفة بعدما جاء اقرارها عام 1998 منقوصاً ولا يراعي تماماً حقوق الموظفين في القطاع العام. تمكن غريب على مدى سنوات من تحدي السلطة السياسية فأزعجها مراراً وتكراراً حتى بات “خصمها الاول.” نبش غريب الملفات التي كانت الطبقة الحاكمة قد حاولت محوها من ذاكرة اللبنانيين. ذكر هؤلاء بالتعديات على الاملاك البحرية، واجه المصارف فتحدث عن ضرورة فرض ضرائب على الريوع المصرفية. اعتبر انه يمكن تمويل السلسلة من خلال محاربة الفساد والهدر والسرقة، من دون حاجة الى اثقال المواطنين بضرائب جديدة. وبالاضافة الى ذلك، يسجل لغريب نجاحه في تحريك الشارع اللبناني مجدداً، هذا الشارع الذي كان دخل في غيبوبة ممنهجة. فقد نجح غريب في تنظيم اكبر مسيرة احتجاجية عرفتها الحركة النقابية منذ السبعينات في ما عرف بـ “يوم الزحف” في ايار 2014. وعلى الرغم من انتقاد الكثيرين لتعاطي غريب مع السلطة بعد هذه التظاهرة ولومه لأنه لم يمض في المواجهة، فقد اجبر غريب الدولة الى الاعتراف بوجود حركة عمالية حقيقية عليها التحاور معها. ومنذ ذلك الحين، اتخذت الدولة القرار بالقضاء على هيئة التنسيق النقابية. لم تلتفت الى العضو في الهيئة د. علي برو عندما اعلن الاضراب عن الطعام طوال عشرين يوما. كما لم تتوان عن مواجهة قرار الهيئة بمقاطعة تصحيح الامتحانات الرسمية عبر اصدار افادات نجاح لجميع الطلاب. كانت هذه الخطوة اول الضربات التي تمكنت الحكومة من دقها في جسم هيئة التنسيق والتي لم تعرف هذه الاخيرة كيفية التعامل معها. انكفأت بعدها الهيئة عن التحرك واحرج غريب الذي لم يستطع بلورة خطة يواجه بها قوة السلطة السياسية ومكرها. وبالفعل، فقد انتظرت الطبقة الحاكمة اللحظة المناسبة لإخراج غريب فحركت الاساتذة المنضوين في احزابها للتصويت ضد لائحة غريب. ومرة اخرى، نجحت السياسة في التفريق بين العمال الذين وضعوا احقية مطالبهم جانباً والتفّوا حول زعمائهم.

في 25 كانون الثاني 2015، قررت الاحزاب السياسية الالتفاف على بعضها متناسية جميع خلافاتها بهدف اسقاط حنا غريب. يؤخذ على غريب وابو رزق بأنهما لم ينجحا في تحقيق ايّ من المطالب التي ناديا بها طوال سنوات. لكن الرجلين حاولا على الاقلّ تحدي السلطة السياسية وفرضا في وقت من الاوقات منظومة جديدة في العمل النقابي. فأبو رزق وقف بوجه الترويكا الحاكمة (الهراوي – الحريري – بري) بالاضافة الى داعمها الاساسي المتمثل بالسلطة السورية. وقد تمكن من استنهاض الشارع في مراحل عديدة، متحدياً قرارات منع التظاهر. اما غريب، فكان له الفضل بإعادة الحياة الى الحركة النقابية في لبنان وبتحريك ملف سلسلة الرتب والرواتب مجدداً. تستعد اليوم الهيئات النقابية لانتاج هيئة تنسيق تولد هذه المرة بمباركة جميع الاحزاب اللبنانية وتكون صورة طبق الأصل عن الاتحاد العمالي العام. وبالطبع، من شأن ذلك ربما أن يمهّد لاقرار سلسلة توافق تماما أجندة الحكومة الاقتصادية.

نشر هذا المقال في العدد | 25 |شباط /فبراير/  2015 ، من مجلة المفكرة القانونية | لبنان |. لقراءة العدد اضغطوا على الرابط أدناه:
صناعة الهشاشة


[1]– تمكن غريب والاستاذ فيصل زيود من اختراق اللائحة.
[2]– كيف صار الاتحاد العمالي العام صفراً على الشمال؟ http://bit.ly/15Bk9D3               تمت زيارة هذا الموقع في 26 كانون الثاني 2015
[3]– جريدة الديار.الحسيني استغرب توقيف ابو رزق:نحمّل الحكومة مسؤولية الاساءة له. 31 ايار 1997
[4]– ميريام عواد. نعمة انضم الى ابو رزق .. وسؤال حول ما تبقى من هامش الحرية النقابية. جريدة الديار، 5 حزيران 1997
[5]– اخلي سبيل ابو رزق ونعمة في 8 حزيران 1997
[6]– نزار صاغية. سميرة طراد و”صورة لبنان في المرآة.” المفكرة القانونية، العدد الاول، 26 تموز 2011
[7]– جريدة الاخبار. تبرئة أبو رزق ونعمة من «تزوير” انتخابات الاتحاد العمالي. 1 شباط 2007
[8]– كيف صار الاتحاد العمالي العام صفراً على الشمال؟ المرجع المذكور اعلاه
انشر المقال

متوفر من خلال:

عمل ونقابات ، مجلة لبنان ، لبنان ، مقالات ، حريات عامة والوصول الى المعلومات ، حقوق العمال والنقابات



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني