الخشية من “تأنيث القضاء”


2012-02-20    |   

الخشية من “تأنيث القضاء”

لماذا الخشية من تزايد اعداد القاضيات؟ هذا هو السؤال الذي تطرحه الباحثة في هذا المقال، الذي كتب على خلفية الندوة التي عقدتها "المفكرة القانونية" بشأن تأنيث القضاء (يراجع ايضا العدد 2 من المفكرة). واللافت ان هذه الخشية لا تتأتى عن اسباب دينية كما يظهر في بعض الدول العربية انما لاسباب ذكورية بحتة مفادها ان المرأة منهمكة بادوارها النثوية (حبل، ولادة، رعاية اطفال..). ولربما تهدف هذه الخشية الى ايجاد حجة سهلة لتبرير تراجع اداء القضاء: فالمسألة ليست مسألة فساد او تراجع قيمي او علمي (وكلها مسائل يصعب الاعتراف بها عملا بهيبة القضاء)، انما هي مسألة حبل المرأة وميلها الى تغليب واجباتها العائلية على واجباتها المهنية. وبالطبع، هي حجة تقارب العبثية ولا تصمد ولو لحظة، ولا سيما في ظل الازمة الاخلاقية الحاضرة والمتمثلة في استقالة احد اكبر القضاة غسان رباح على خلفية اتهامه بتلقي رشوة (يراجع محمد نزال، الاخبار 16-2-2012) (المحرر). 
الخشية وتعبيراتها
للخشية من تزايد اعداد النساء في السلك القضائي تعبيرات صريحة واخرى مضمرة.  ولعل اللجوء الى صفة "التأنيث" لوصف احوال القضاء يشير الى تلك الخشية مواربة؛ فتأنيث مهنة بعينها يعني وجود غَلَبة نسائية عددية ونسبية – كما هي حال التعليم الابتدائي الرسمي في لبنان، مثلا؛ فيما نسبة النساء في سلك القضاء ما زالت في حدود الـ40%، وهي لم تصل الى النصف بعد. هكذا يبدو استخدام العبارة من قبيل "التهويل" للتعبير عن الشعور بـ"الهول" من تلك الزيادة ومن تضميناتها. ويعزز ما نقوله بطلان الحجج المتقادِمة التي اطلقها المتحفظون على التزايد المذكور اسنادا لتحفظهم. هذه الحجج تمحورت على كون النساء  منهمكات بادوارهن الانثوية، وبكونهن يجعلنها اولوية على سلم انشغالاتهن، الامر الذي يعكر على انجازهن المهني-  اي، يعيق عمل القضاء. وهي حججٌ رفعها المناهضون لعمل المرأة، بل لتعليمها اصلا، في وجه المصلحيِن النهضويِين العرب في اوائل القرن الماضي. ان بؤس هذه الحجج يظهره واقع النساء المعاصر الموثق في الدراسات الجندرية المتكاثرة التي ترصد الاداء المهني للنساء والرجال، والتي خلُصت جميعها الى غياب الفروق في الاداء بين الفئتين في معظم المهن وفي مختلف المواقع فيها. لكن ما هو اهم من بلاغة ما تثبته الدراسات وينطق به الواقع، هو ان اشهار هذه الحجة، في معرض التحفظ على تكاثر النساء في القضاء، ما عاد قائما في المجالات المهنية الاخرى التي تشهد تكاثرا[1] في اعداد النساء تبعا لتقدم احوال النساء في الاعداد المهني في كل المجالات في مجتمعاتنا. لكن يبقى ان المسالة مطروحة في دائرة الحقوقيين[2]، وتناولها الاعلام، بل ان احد كبار القضاة اسر الى باحث في المجال الحقوقي، بان "تكاثر الاناث في القضاء هو احد مشاكله الاساسية"[3]!
في القضاء تخصيصا
لماذا في سلك القضاء، اذا، دون غيره؟
تحتل مؤسسة القضاء، وفي كل المجتمعات، موقعا استثنائيا في المخيال العام؛ فهي مؤتمنة على احقاق العدالة بين الناس وينبغي، اذا، توفير الشروط التي تسمح لاشخاصها بالرقي الى الصفاء العقلاني والموضوعية الصارمة والى الاخلاقية المجردة عن كل الاهواء، من اجل جعل السعي نحو تحقيق هذه العدالة ممكنا.  
صحيح ان القانون يشكل المعيار الضابط لجعل احكام المؤتمنين على مؤسسة القضاء عادلة، لكن  القاضي يحكم بما "يملي عليه ضميره"، او وفق "ما له الحق في التقدير"؛ وذلك، خاصة، في حال قصر القانون عن اشتمال الحالة، قيد النظر، صراحة في محكمته. فتعين، تبعا لذلك، صفات اساسية تصلح للحكم على جدارة المرشح الشخص لتبوؤ تلك المكانة. فهل يسع المرأة ان تصل الى هذه المرتبة من السمو مما يجعلها قادرة على الحكم بعقلانية صافية وبموضوعية صارمة وباخلاقية مجردة؟ اي، ان تكون عادلة؟ 
المسألة، برايي، تكمن هنا:  في مواءمة موقع القضاء ووظيفته في المخيال العام مع الصورة التي تسكن اذهان الناس عن المرأة.
المرأة وصورتها
لكن ما هي تلك الصورة؟
كتب الكثير عن الصورة النمطية الساكنة في الاذهان عن المرأة، والتي تجد تعبيراتها في الامثلة الشعبية وفي الاساطير المتوارثة،  كما في احكام الاديان وتأويلاتها الفقهية؛ وكلها يحيل الى المرأة "الكيد" و"الشر" و"القصور الذهني والاخلاقي" و"الطفولة الابدية" المتضمنة في حاجتها الى وكالة ذكور عائلتها ووجوب طاعتهم وتخويلهم تأديبها، وفي كونها محتاجة الى امرأة ثانية "تذكرها ما قد تنساه"  كي تصبح شهادتها مقبولة في المحكمة الخ. والحال، ان هذه الصورة مستقرة الملامح في اذهان الناس الى حد ليس بقليل، وقلما تخضع للتعديل لتصبح متناسبة مع واقع تكاثر نماذج مغايرة من النساء في ايامنا المعاصرة.
فاذا اشاء احدهم ان ينأى بنفسه عن هذه الصور النمطية وعن الاحكام المرتبطة بها، وحاول الاحتكام الى "العلم" المعني بالمسألة، الى علم النفس، مثلا، فما الذي سيجده؟ 
انشغل علم النفس منذ بداياته بهذه المسألة ولجأ الى العلم "المضبوط" ليثبت الشائع: كون المرأة سجينة قدرها البيولوجي/ الانجابي ومترتباته، فلا يسعها التحرر من ذلك القدر الى الفضاء الاسمى- ذلك المتمثل بالضمير الانساني وصنوه العدالة المجردة. و فرويد  Freudكرس هذه الفكرة لدى صياغته مفهوم "الانا الاعلى". ففي وصف دينامية تشكله، بين فرويد التصاق مصير هذا الركن من الشخصية بتمثل الجسد ليأتي قصوره وضعفه لدى الانثى حقيقة مترتبة عن "قصور ودونية" الجسم الانثوي، ( بالمقارنة مع جسم الذكر).
وفي محطة تالية، ومن منظور علم النفس المعرفي، قدم كولبرغ  Kohlberg– استكمالا لعمل بياجية Piaget  – نظريته في التطور الاخلاقي ووقع، امبيريقيا، على نتيجة شبيهة: من ان النساء لا يسعهن الوصول الى مراحل متقدمة من النمو الاخلاقي – العدالة المطلقة / المجردة،  بل تراهن يراوحْن في المراحل الادنى من ذلك النمو.
نكتفي بهذين المثلَين من كبار علماء النفس. هذه النتائج "العلمية" كانت مؤثرة في المعايير التي اعتمدها القضاء في البلدان التي انتجت هذا العلم. وهو ما حفز اكثر من باحثة في علم النفس، وفي سياق حركة تحرر المرأة، الى مراجعة هذه النتائج "العلمية" ووضعها تحت مجهر نسوي. وغيليغان Gilligan  من هؤلاء؛ فهي زعمت ان ايلاء العدالة المطلقة/ المجردة مرتبة اعلى في سلم التطور الاخلاقي انما يتم من المنظور الذكري، واستيفاء لضرورة تحقيق الانفصال/ التفرد/ الفردانية مثالا لاكتمال نمو الشخص، ولتحقيق رشده في المجتمعات الغربية، وحضارتها القائمة على التنافس والهيكلة الهرمية. لكن الاناث، وتبعا لعوامل تتعلق بوظائفهن وتنشئتهن على الاستجابة لمتطلباتها، يَمِلْن الى اعلاء اخلاقيات الارتباط والتعلق والاعتماد المتبادل على اخلاقيات العدالة المطلقة والمجردة.
لماذا الخشية؟
اعود الى الخشية من تانيث القضاء عندنا. وازعم ان المتحفظين على تكاثر النساء في هذا السلك يجدون فيه غضا من سمو موقعه وتشويشا على وظيفته. هؤلاء، ومن بينهم حقوقيون واعلاميون وسياسيون، يأنفون، على الارجح، ان يحيلوا موقفهم الى المعتقدات والاساطير السائدة حول المرأة، ولست متأكدة انهم على معرفة باحكام مدارس علم النفس الكلاسيكية عن "حدود التطور الاخلاقي" الضيق لدى المرأة. ما هو سند خشيتهم، اذا؟ البداهة؟ "الحس العام المشترك"common sense  الذي يفترضون ان متلقي حججهم يشاركونهم فيه؟  كيف توصلوا الى القول بصعوبة الجمع بين مكانة القضاء ومكانة "المرأة"/ الامومة، خاصة؟ هل استنطقوا الواقع –واقع القاضيات في السلك ومستوى ادائهن[4] بالمقارنة مع مستوى اداء القضاة الرجال منهم، فتكون حججهم  قائمة على قاعدة صلبة، كما ينبغي لها ان تكون، قبل اطلاق العنان لخشيتهم؟
بعيون النساء… والرجال ايضا
افترض، وافتراضي محتاج لإثبات، ان لهؤلاء مسوغا لخشية لعلهم "غير واعين" لمصدرها. اتكلم عن خشية مصدرها تعديل نوعي قد ينجم عن التعديل العددي في تواجد النساء في القضاء؛ اي، عن ان تداعيات تكاثر القاضيات في السلك الذي سيفضي، على الأرجح، إلى ضرب من "التأنيث" للقضاء سيتجلى تأثيره على صعيد حرِج: في المعايير التي تحكم اخلاقيات القضاء وفي معاني العدالة التي يتظلل بها. اي ما يتمثل بإدماج معيش النساء في المعاني المسبغة على العدالة.  ولعل هؤلاء واقعون، كما هي حال اكثر الناس، تحت وطأة  النظرة "الأصولية"التي تعزو الى النساء ( والى الرجال يضا) بنية نفسية ثابتة ناجمة عن ثبات البيولوجيا والأدوار الاجتماعية المرتبطة بها ويميلون، كما يفعل  اكثر الناس ايضا، إلى النظر إلى المركبات الثقافية cultural constructsبمنظار الثنائية-  الاستبعادية؛ اي، في  في اعتبار  المفهومين النسائي والرجالي للعدالة، مثلا، واقعين على قطبين متضادين. فإذا برزت "العلائقية وأخلاقيات العنايةethics of careالخ" بوصفها  من بعض مكونات هذا المفهوم،  فإن ذلك سينفي "العقلانية والتجرد الخ" منها.  
والحال، فإن الأبحاث في المجتمعات الغربية، مثلاً، تشير الى ان"الرفاه النفسي"well being، على الصعيد الثقافي- الاجتماعي بات مشروطا  باشتمال معاشات النساء،  جنبا إلى جنب مع معاشات الرجال، في كل المركبات الثقافية، المجال الحقوقي منه، ايضا. فهذه ما عادتتقتصر على الذكرية منها، بل هي تنحو لأن تكون اشتمالية على شكل توليفة من كل مواصفات العقلانية والموضوعية الخ التي تطلق عليها راهنا، من جهة، ومن "اخلاقيات العناية"التي وسمت حيوات النساء بفعل الامتداد البعيد في التاريخ لقيامهن بالأدوار الأنثوية المعيّنة لهن، من جهة ثانية. "اخلاقيات العناية" هذه قد جرى تفعيلها في المجالات العامة، وباتت من المفاهيم المتداولة في الخطاب الحقوقي في المجتمعات التي تنحو نحو المساواتية الجندرية.
نشير الى انه، وفي اجتماع[5] ضم حقوقيين وإعلاميين وباحثين في العلوم الاجتماعية، استعرضت احدى القاضيات تجربة النساء في السلك القضائي اللبناني؛ وكان ان لمسنا  -نحن المستمعون- تجليات هذه الأخلاقيات في امثلة من احكام قضت بها هؤلاء النساء، في القانون المدني خاصة. هل نستشرف ان تكاثر اعداد القاضيات سيفضي الى تراكم هذه الأحكام؟ وهل  ستؤسس هذه الأحكام الى توسيع دائرة مفهوم العدالة لتشتمل على رؤية النساء واختباراتهن لهذا العالم؟
ألا تصبح أحكام القضاء- و"العدالة"  ضمناً- اكثر عدالة إذا ما اسهمت النساء في صوغ مفهوم اكثر اشتمالا لمعيش النساء والرجال؟ ام انها ستكون اقل عدالة بعيون بعض من لا تزال تغشى عيونهم  خشية  "تأنيث القضاء"؟
 
 
 



[1] يستثنى من التكاثر المذكور  في لبنان، مثلاً، المجالات التي لا تتطلب إعداداً مهنياً، ولا يتم الحصول عليها وفق كفاءات شخصية محددة، إنما تبعاً  لموقع في الولاءات الطائفية والسياسية والحزبية وتبعاً لتوازناتها غير الخاضعة لأية معايير يسع الفرد المواطن تحصيلها. نتكلم كما لا يخفى على المجالات ذات الطابع السياسي الفج. 
[2] عقدت "المفكرة القانونية" لقاء حول طاولة مستديرة تحت عنوان "تأنيث القضاء" استعرض فيها باحثون إحصائيات جندرية في سلك القضاء تمهيداً لإصدار بحث أشمل، وعقبت عليها قاضية فقدمت شهادة مبنية على ملاحظاتها الخاصة.
[3] ملاحظة دونتها كاتبة هذه السطور في الاجتماع المذكور في  هامش رقم (2)
[4] وفي ما يختص القضاء اللبناني، تحديداً، فإن الملاحظات الأولية تشير إلى اجتهاد القاضيات في إنجاز الملفات المعهودة إليهن، ما يُفضي، وبعكس ما يزعم المتحفظون، إلى تسريع أعمال القضاء. ( من شهادة القاضية في الاجتماع الذي ذكرنا سابقاً).
[5] أنظر هامش رقم 2.
انشر المقال

متوفر من خلال:

لبنان ، مقالات



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني