قضاة لبنان مستمرون باعتكافهم بالأكثرية: هكذا تغيرت بيئة الجسم القضائي بانتظار تعزيز ضماناته


2019-06-12    |   

قضاة لبنان مستمرون باعتكافهم بالأكثرية: هكذا تغيرت بيئة الجسم القضائي بانتظار تعزيز ضماناته

أعلن القضاة المعتكفون الاستمرار باعتكافهم بعد عقد جمعية عمومية صباح الأمس الإثنين 10 حزيران 2019، وتم في ختامها التصويت عبر طريقة الاقتراع السري، بمشاركة نحو 231 قاض وقاضية. وكانت نتيجة التصويت بغالبيتها مؤيدة للاستمرار بالاعتكاف. وفيما أعلن القضاة في بيان مساء أمس بأن الوضع يبقى على حاله مع “استثناء الموقوفين “، يلحظ أنه تمّ توسيع الاستثناءات لتشمل “الحالات الضرورية والأمور الملحة التي يخشى أن تحدث ضررا للمواطنين لا يمكن تداركه”.

عند الساعة العاشرة صباحاً، بدأ القضاة، الذين أتوا من مختلف المحافظات اللبنانية، بالتجمع في قصر العدل في بيروت، أمام قاعة محكمة التمييز. كان الهدف من التجمع المُشاركة في الجمعية العمومية أولاً، ثُم تلبية دعوة مجلس القضاء الأعلى لإحياء ذكرى استشهاد القضاة الأربعة الذين قضوا على قوس المحكمة في صيدا خلال إطلاق نار قبل عقدين من الزمن.

وكانت “الدردشة” التي تحصل خارجاً قبل انعقاد الجمعية العمومية، تُرجح تعليق الاعتكاف والبحث في حلول بديلة. والحال أن الاعتكاف الذي بدأ في أول شهر أيار حاز على تأييد مئات المحامين اللبنانيين، وهم “المحامون” الذي وصفهم نادي قضاة لبنان ب “الأحرار”. كذا فإن “ممارسة الديمقراطية” التي يعتبرها القضاة من أهم مكتسباتهم، التي تحققت عبر المجاهرة بمواقفهم، بالإضافة إلى تحريك الرأي العام لدعمهم في حراكهم، تُعد من أبرز الإنجازات التي حققها هذا الاعتكاف، بحسب القضاة. وقد وصف نادي قضاة لبنان في بيان قرأته رئيسة النادي القاضية أماني سلامة، خلال الجمعية العمومية، نتاج هذا التحرك بأنه “خلق واقعا ديمقراطيا رائعا في العدلية”، على المستوى الداخلي. فضلاً عن ذلك، قد يكون الاعتكاف أسهم في “بدء البحث بمشروع قانون استقلالية القضاء”، الذي أعدته المفكرة القانونية وتبناه الائتلاف المدني لاستقلالية القضاء ووقعه 9 نواب، كما أعلن مؤخراً رئيس لجنة الإدارة والعدل النائب جورج عدوان.

نقل بعض القضاة بأن أجواء الجمعية العمومية كانت “إيجابية”، حيث تم التباحث بالحلول البديلة عن الاعتكاف، مثال أن يتم تعليق الاعتكاف بشكل مؤقت ريثما يتم الانتهاء من دراسة مشروع قانون الموازنة في لجنة المال والموازنة. وكان أبرز الداعين لهذا الاقتراح الرئيس الأول في بيروت القاضي سهيل عبود، الذي في المقابل أكد تأييده للقرارات النهائية التي تصدر عن غالبية قضاة الجمعية العمومية. وبعد مناقشة الحلول المقترحة وتقييم الاعتكاف والتطورات التي استجدت بعد انقضاء أكثر من شهر على انطلاقته، استعان القضاة بصندوق الاقتراع لأجل التصويت عما إذا كان القضاة راغبون بالمضي بالاعتكاف أم تعليقه. ولجوء القضاة إلى طريقة الاقتراع هذه إنما يتمّ للمرة الأولى، إذ درجت العادة في الجمعيات العمومية السابقة على التصويت برفع الأيدي. ورست نتيجة التصويت، بعد فرزها يدوياً، على الاستمرار بالاعتكاف، بتأييد 142 مقترع. وكان قد شارك في التصويت 231 قاض وقاضية، التزم نحو ثلاثين منهم تفويض التصويت عبر زملائهم.

من جهته، شرح أحد القضاة للمفكرة، بأن مؤيدي الاعتكاف هم أكثر من المصوتين ورقياً، إذ أن العديد من القضاة لم يتمكنوا من المشاركة في الجمعية العمومية. ولفت القاضي إلى أننا “رصدنا تأييدا كبيرا على مجموعات الواتساب إنما اتجهنا لتحديد هذا التأييد عبر الاقتراع لتكريس الديمقراطية والشفافية”.

الديمقراطية أصبحت عرفاً

بعد انقضاء شهر من انطلاقة الاعتكاف، لا يزال القضاة لم يصلوا إلى المرحلة التي يصبون إليها، أي برفع أي تعدّ عن حقوقهم المعنوية والمادية، والمضي في طريق تحقيق استقلالية السلطة القضائية، إلا أنهم سلكوا نصف الطريق. وهذا ما أوضحته كلمة نادي قضاة لبنان التي ألقتها رئيسة النادي القاضية أماني سلامة. فقد قالت القاضية سلامة متوجهة إلى القضاة، أنه “بفضل كل واحد منكم، تكريسا” لممارسة ديمقراطية أرسيتموها عرفا” في القضاء، رافضين منطق الترهيب الذي لم ولن يلقَ صداً لدينا، نحن قضاة لبنان”. وحيّت القاضية سلامة “كل من جاهر بموقفه وبرأيه طيلة فترة الاعتكاف بما يتلاءم مع قناعته الراسخة وأخلاقه العالية وصلابته التي لا تتزحزح”، وخصّت بالتحية “الرئيس سهيل عبود”. والأخير ماضٍ بالاعتكاف مع سائر القضاة، وشارك في نشاطات نادي قضاة لبنان وآخرها الندوة الإعلامية في 31 أيار.

القاضية سلامة شرحت بأن “الاعتكاف لم يشلّ مرفق العدالة بتاتاً كما حاول البعض توصيفه، إذ بقي القضاة يقصدون مكاتبهم بشكل طبيعي ويسيرون قضايا الموقوفين وكل القضايا التي يكون ضرر تأجيلها وعدم البت بها غير قابل للتعويض سواء بالقضايا المدنية أو الجزائية”.

وفي إطار تقييم ما نتج عن هذا الاعتكاف الذي بدأ في أول شهر أيار 2019 ويستمر رفضا لمشروع الموازنة الذي مس بحقوقهم المعنوية والمادية، أشارت سلامة إلى أن الاعتكاف حقق نتائج إيجابية عدة.

وهذه النتائج التي يتحدث عنها النادي تُشكل إنجازات معنوية هامة على مستوى القضاء. كما أنها ترتبط بشكل كبير بممارسة الديمقراطية التي تُشكل النقطة الفارقة في هذا الحراك القضائي. فقد وصفت سلامة نتاج الاعتكاف بأنه “خلق واقعا ديمقراطيا رائعا في العدلية”. ويتأتى ذلك من “الجمعيات العمومية التي يعقدها القضاة وهي المرة الأولى التي يلجؤون إليها، ويتخللها تصويت يلتزم الجميع بنتيجته”. وشرحت سلامة أنه تبعا” للاعتكاف “أرسى القضاة، عرفا” جديدا” مآله التأكيد على أنه يعود للقاعدة القضائية القرار في الأمور المفصلية التي تهدد حقوقها واستقلالية سلطتها وهيبتها وذلك بالتوازي مع مجلس القضاء الأعلى المكلف قانونا” بإدارة عمل المحاكم”.

البيان ركز على أن الاعتكاف “أتاح للقضاة الإدراك بأنهم يمثلون السلطة القضائية المنصوص عنها بالدستور واستلموا زمام القرار بدلا من تحميل مجلس القضاء عبء المواجهة منفردا”. كما أن الاعتكاف “كسر حاجز الخوف لدى القضاة”. وبالتالي فإن القضاة “تمسكوا بقناعاتهم، وانتفضوا لعنفوانهم لدى محاولة ترهيبهم من قبل أهل البيت أم ممن هم خارجه، بتدبير من هنا وآخر من هناك، لثنيهم عن الاعتكاف”. وهنا نلفت إلى الإجراءات الداخلية التي يقوم بها مجلس القضاء الأعلى عبر إصدار مذكرات ترفض شرعية نادي قضاة لبنان، أو محاولة ثني القضاة ببيانات تطلب منهم “تحمل المسؤولية” في حال الاستمرار بالاعتكاف.

القاضية سلامة تابعت مفنّدة إنجازات الاعتكاف، واعتبرت أنه “كسر حاجز الصمت وأعاد مفهوم موجب التحفظ إلى حجمه الطبيعي”، وشرحت بأن القضاة مارسوا حقهم بالتعبير عن رأيهم في “الجمعيات العمومية وعبر مواقع التواصل الاجتماعي وعبر إطلالة نادي قضاة لبنان على الرأي العام بندوة نظمها لشرح الأسباب الموجبة لمطالب القضاة وللاعتكاف”.

أما على المستوى الخارجي، فإن الاعتكاف بحسب البيان ساهم في “تحويل مطالب القضاة إلى قضية رأي عام”، وأدى إلى ” تغيير في مقاربة المعنيين بشؤون السلطة القضائية، للمطالب وسقفها واسبابها الموجبة، تجلى بتصريح كل من فخامة رئيس الجمهورية الأخير ورئيس لجنة الإدارة والعدل ومن تواصل معهم النادي لهذه الغاية”.

وكان النادي قد اقترح خُطة لمواكبة الاعتكاف قبل البدء بالتصويت، تضمنت أن يتم انتخاب “هيئة قضائية مؤلفة من قضاة من النادي ومن خارجه (٧ ام ٨ أعضاء)، للمشاركة في نقاشات لجنتي الإدارة والعدل والمال والموازنة بخصوص مشروعي الموازنة واستقلالية السلطة القضائية، بعد موافقة مجلس القضاء ووزير العدل ورئيس كل من اللجنتين على ذلك وقد تشكل هذه الموافقة سببا” لتعليق الاعتكاف إذا ما استمر”. أيضاً، أن يتم متابعة الانفتاح على الرأي العام، ليكون شريكاً أساسياً في معركة استقلالية القضاء. كما، رأى النادي ضرورة في “مواكبة اقتراح قانون استقلالية السلطة القضائية المعد من قبل المفكرة القانونية”.

ومن أبرز ما تضمنته هذه الخطة ” متابعة التشكيلات القضائية المرتقبة وفضح كل ما يخالف معايير الكفاءة والنزاهة”، بالإضافة إلى “تقديم النادي اقتراحاته التي يعمل عليها فيما يتعلق بقوانين الاثراء غير المشروع والحصانات الوظيفية والسرية المصرفية والتي تعيق مكافحة الفساد”.

ذكرى الشهداء الأربعة: استقلالية السلطة القضائية

في هذا النهار، كان قصر العدل يستعدّ لإحياء ذكرى القضاة الأربعة الذين قضوا على قوس المحكمة في صيدا في تاريخ 8 حزيران 1999 بدعوة من مجلس القضاء الأعلى وبمشاركة وزير العدل ألبرت سرحان. ولدى انتهاء الجمعية العمومية عند الساعة الواحدة ظهراً، انضمّ القضاة المعتكفون إلى الوقفة التي دعا إليها مجلس القضاء الأعلى لإحياء ذكرى استشهاد القضاة الأربعة. وفي هذه المناسبة، أكد رئيس مجلس القضاء الأعلى القاضي جان فهد على ضرورة استقلال السلطة القضائية، خلال كلمة ألقاها مستحضراً ذكرى الشهداء. واعتبر فهد أن “قطاعات المجتمع وقطاعات الدولة تحتاج إلى القضاء المستقل، من دون أن يكون هناك مجال للتفريق بين أحوال طمأنينة وأحوال شقاء”. ورأى بأن هذه القطاعات، “يصيبها كل إهمال للشأن القضائي، ويصيبها أيضا كل تلكؤ أو انكفاء يصدر عن الجسم القضائي نفسه”.

من ناحية موازية، طالب فهد “تعزيز استقلال السلطة القضائية”، لافتاً إلى أن “مجلس القضاء الأعلى شكّل لجنة لوضع مقترحات تتناول قانون القضاء العدلي وتعزيز استقلاليته وقمنا ونقوم بالتنقية الذاتية”. وأضاف، أن “عمل التفتيش القضائي مستمرّ بكل جدية، خلافا لكل ما يشاع وبسرية تامة كما يفرض القانون تنقية للجسم من الشوائب وحماية لصيت قضاتنا المنزّهين، ولكي نكون على مستوى آمال شهدائنا وشعبنا الطيب”. وصرح فهد أمام الوسائل الإعلامية بأن “المجلس كان يتمنى على الزملاء المعتكفين العودة عن الاعتكاف ومتابعة العمل، إذ أن الرسالة المرجوة منه قد وصلت”1.

أما القضاة فكان لهم موقف مغاير من تدهور أحوال الجسم القضائي في هذه الذكرى. فقد أصدر نادي قضاة لبنان نهار السبت الفائت، بيانا ذكر من خلاله بانعدام الأمن في قصور العدل. فبمرور عشرين عاماً على حادثة الاغتيال، وجد القضاة أنفسهم “متكلين على الله وحده، على الرغم من أن أحدا لم يعقل مسألة الأمن قبل التوكل”. ولفت البيان إلى أنه “وبدلا من أن نشهد انتفاضة لتأمين قصور آمنة متطورة تريح الحاكم وتطمئنه إلى حياته، نجد السلطة في كل سنة تمد يدها لتأخذ من العُزّل”. ومن هنا كانت مناسبة للتوقف عند ممارسات السلطة التنفيذية تجاه القضاة، إذ رأى البيان أن السلطة تُريد من القضاة التضحية لأنه” زمن التقشف وليس زمن الرخاء الذي عاشوا فيه مرتاحين في القصور كما يتراءى لمن لا يعلم”. واعتبر البيان أن السلطة “تغضب إذا رفض القضاة المساهمة في ردّ المنهوب من خزنة الدولة، طالما لم يُحدد ناهب واحد ولم نره سجينا أو تُصادر أملاكه لسد ما تسبب به من عجز”.

1 شهر وأسبوع على اعتكاف نصف قضاة لبنان تقريباً، المؤسسة اللبنانية للإرسال، 10 حزيران 2019، https://bit.ly/2IvQAZo.

انشر المقال

متوفر من خلال:

استقلال القضاء ، لبنان ، مقالات



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني