محامون لدعم استقلالية القضاء والمحاكمة العادلة في لبنان: العدلية تنهض بعيدا عن الفئوية… وتتحرّر


2019-06-07    |   

محامون لدعم استقلالية القضاء والمحاكمة العادلة في لبنان: العدلية تنهض بعيدا عن الفئوية… وتتحرّر

في ظهيرة هذا اليوم، أعلن قرابة 250 محاميا عن بيان حمل تسمية: “محامون لدعم استقلال القضاء والمحاكمة العادلة في لبنان”. يأتي هذا البيان في إثر خمسة أسابيع اعتكف خلالها غالبية القضاة اعتراضاً على مشروع قانون الموازنة العامة الذي تضمن وفقهم أحكاما تنتقص من حقوقهم المالية واستقلاليتهم. لم يكتفِ البيان بالتضامن مع القضاة، بل ذهب أبعد من ذلك في اتجاه الإنخراط الكامل في معركة استقلال القضاء، على خلفية أن هذه المعركة تعنيهم وتعني المتقاضين بقدر ما تعني القضاة. وقد تضمن البيان بنودا بالغة الأهمية، أبرزها شهادة المحامين وهم أعرف وأخبر الناس بما يجري في قصور العدل، فضلا عن إبراز تمسكهم بحرية إنشاء جمعيات للقضاة والمحامين وسائر المهن القانونية.

وفيما يشكل البيان من هذه الزوايا كافة أمرا استثنائيا يكاد يكون الأول من نوعه، فإنه يستدعي ملاحظات عدة، أهمها الآتية:

أولا، أنه يشكل انعطافة هامة على صعيد انخراط المحامين في الدفاع عن استقلال القضاء وحظوظ إصلاحه. ففيما ذهبت بيانات مجلسي نقابتي بيروت وطرابلس في الحقبة الأخيرة إلى التعامل مع القضاء على أنه شأن للقضاة وحدهم (مثال على ذلك بيان مجلس نقابة محامي بيروت 30 أيار)، جاء البيان ليعيد التذكير بما هو بديهي أي أن “استقلال القضاء ماديا أو معنويا ليس حقا أو امتيازا للقضاة وحدهم بل هو شرط ضروري لضمان المحاكمات العادلة وحق للمتقاضين باللجوء إلى قاض مستقل ومحايد وقادر”. وقد ذهب البيان أبعد من ذلك بقوله أنه لا يجوز أن يتم تظهير مسألة التعرض لاستقلال القضاء على أنها شأن محصور بالقضاة بل هو يهم كل العاملين في القطاعات المهنية المعنية بتحقيق العدالة وفي مقدمتهم ضمنا المحامين، ولا سيما المحامين الملتزمين بآداب مهنتهم والمترفعين عن اعتماد الوسائل الملتوية بالدفاع عن مصالح موكليهم.

وتأتي هذه الانعطافة لتتلاقى وتتكامل تماما مع انفتاح شريحة واسعة من القضاة على الرأي العام والمهن القانونية وبالأخص الدعوة التي وجهتها الجمعية العمومية للقضاة للمشاركة في معركتي استقلال القضاء ومكافحة الفساد في 8 أيار الماضي. وأهم ما في هذا التلاقي هو أنه يعزز الشعور بالحيز المشترك والأهداف المشتركة بين جسمي المحامين والقضاة بعيدا عن مشاعر الفئوية والتنافس أو التنازع التي غالبا ما وصمت علاقتهم في العقود الأخيرة.

ثانيا، أن بيان المحامين أظهر تقاربا كبيرا إلى حد التطابق مع الأهداف المعلنة من الجمعية العمومية للقضاة، على نحو يؤمل منه أن يعزز التشاركية في هذه المعركة. وقد تجلى ذلك بوضوح من خلال تحذير المحامين إزاء خطورة تعرّض السلطة الحاكمة للضمانات المالية للقضاة، وهو أمر اعتبره البيان مسا باستقلاليتهم المالية والتي تشكل جزءا لا يتجزأ من استقلالهم، وتاليا مخالفة دستورية. كما أكد البيان أن الاستقلال لا يتحقق عمليا من دون ضمانات واقعية وقانونية ليدعو المحامون أسوة بالقضاة أنفسهم، لإطلاق ورشة تشريعية تنتهي إلى إصلاح قطاع العدالة.

ثالثا، أن البيان شكّل شهادة هامة للمحامين الذين هم أعرف وأخبر الناس بالشؤون القضائية. وقد وضعت هذه الشهادة الأصبع على “جرح العدالة المزمن”: وفي هذا الاتجاه، ندد البيان بسواد التدخلات السياسية في عمل السلطة القضائية والفساد والتأخر في بت الدعاوى وضعف آليات المحاسبة وعدم فعالية التفتيش القضائي. وبذلك، بدت شهادة المحامين هنا أيضا وكأنها تكمل شهادة القضاة. فكما أن “القضاء ليس بخير” على حد تعبير نادي قضاة لبنان في ندوته المنعقدة بتاريخ 31 أيار الماضي، جاء البيان ليؤكد ضمنا أن المحاماة ليست بخير. بالمقابل، تأتي هذه الشهادة المزدوجة لتناقض بيان مجلس نقابة محامي بيروت والذي ذهب إلى حدّ تصوير وضع القضاء على أنه ينعم برعاية المسؤولين على اختلاف مناصبهم، تمهيدا لنسف أي مشروعية للحراك القضائي. وكان بيان مجلس النقابة ذهب إسنادا لهذا الخطاب إلى حدّ الإشادة بسياسات وزراء العدل المتعاقبين ومجلس القضاء الأعلى، ومحاباة هذين المرجعين، في مجافاة بديهية لواقع الأمور والانتهاكات والتدخلات الحاصلة في قصور العدل، بدءا من التشكيلات وانتهاء بالتدخلات اليومية في أعمال القضاة.

رابعا، من اللافت أيضا أن البيان ركز على وظيفة حريات التعبير والتجمع وإنشاء جمعيات داخل مكونات المهن العاملة في المجال القضائي. وفي هذا السياق، أثنى البيان أولا على أعضاء نادي قضاة لبنان الذي يشكل حتى اللحظة الجمعية الوحيدة التي تم تأسيسها في 2018 ضمن هذه المنظومة. ويرتدي هذا الثناء أهمية كبرى في ظل الضغوط التي تعرّض ويتعرّض لها النادي ككيان من مختلف المسؤولين في الشأن القضائي. وكان مجلس القضاء الأعلى بالذات نشر تعاميم عدة لإنكار حرية القضاة بالتجمع، خلافا لمواثيق الأمم المتحدة حول استقلال القضاء. وبما لا يقل أهمية من ذلك، جاء البيان بمثابة استنهاض للمحامين لتأسيس جمعيات مشابهة بهدف استيلاد مجموعات موازية قادرة على جمع المحامين وبناء رأي عام داخل جسمهم، بعدما كبر عددهم وتراجع دور النقابة في مجابهة السلطة والدفاع عن اعتبارات الصالح العام. ويؤمل من ذلك أن تنجح جمعيات المحامين في تعميم خطاب مختلف وإصلاحي داخل جسم المحاماة في انسجام مع الخطاب الجديد الذي نجح نادي قضاة لبنان في إرسائه داخل الجسم القضائي. ولم ينسَ البيان التنديد بمحاولات قمع الحريات عبر بيانات لا تخلو من التهديد أو عبر إطلاق مواقف تجافي الحقيقة وعلى نحو يسيئ إلى صورة لبنان، في إشارة واضحة وإن ضمنية منه للبيانات الصادرة عن مجلس القضاء الأعلى ونقابتي المحامين في 30 أيار 2019.

خامسا وأخيرا، يقتضي التنويه إلى أن البيان دعا للتعاضد والتضامن بين المواطنين اللبنانيين والمحامين من أجل إعادة تكوين حياة مدنية أكثر قدرة على تحقيق الأهداف الاجتماعية وعلى رأسها استقلال القضاء وإصلاح الشوائب السائدة في قطاع العدالة ومكافحة الفساد ومجابهة الأخطار التي تتهدد هذه الأهداف. وللغاية نفسها، دعا البيان المهن القضائية (وعمليا القضاء والمحاماة بشكل خاص) للخروج من حال الانكفاء، لإرساء أسس جديدة من التواصل الصادق والحوار الجدي فيما بينها. وفيما لم يتطرق البيان إلى الاعتكاف الذي بدأه القضاة لا تأييدا ولا إدانة، يستدلّ من ذلك أن موقعيه اعتبروه أمرا ثانويا ومجرد وسيلة من ضمن وسائل عدة لتحقيق غاية استقلال القضاء. فلم يدينوه بحد ذاته لاحتمال أن يكون ضروريا في حالات معينة، تماما كما فعل المحامون في 1950-1951 ولمدة سبعة أشهر للمطالبة بمحاكم مدنية في قضايا الأحوال الشخصية. كما لم يؤيدوه ربما أملا منهم أن يؤدي التواصل والتضامن بين مختلف المهن إلى ابتداع وسائل عمل ومجابهة أكثر فعالية من الاعتكاف وأقل كلفة على المواطنين. فما قد يصعب على القضاة وحدهم فعله من دون اعتكاف، ربما يصبح بمتناول اليد في حال اندرجت أهدافهم ضمن مساعي وطنية جامعة، للمحامين فيه موقع القلب.

انطلاقا من كل ما تقدم، أمكن القول أن البيان شكل مكونا جديدا من خطاب تحرري مستجد ومتصاعد داخل منظومة العدالة، شهد انطلاقته مع الحراك القضائي في 2017 وها هو يتوسع ليشمل شريحة واسعة من المحامين. وهو يكتسي أهمية مضاعفة عند مقارنته بالخطاب السائد في أوساط مجلس القضاء الأعلى ومجلسي نقابة المحامين، والذي بات على نقيض ذلك ممزوجا بالمحاباة والتماهي مع السلطة الحاكمة.

بكلمة أخرى، البيان نفسٌ جديد في مواجهة هيمنة تكاد تطبق على كل شيء، يؤمل منه أن يكون مقدمة لنهضة العدلية… وتحررها.

انشر المقال

متوفر من خلال:

المرصد القضائي ، استقلال القضاء ، لبنان



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني