حرب تحقيق جندوبة على الفساد: هل لنا أن نستفيد من حكاية إيقافات صاخبة انتهت بسراح صامت؟


2019-03-16    |   

حرب تحقيق جندوبة على الفساد: هل لنا أن نستفيد من حكاية إيقافات صاخبة انتهت بسراح صامت؟

نقلا عن وكالة تونس إفريقيا للأنباء، تداول يوم 29-01-2019 الإعلام التونسي خبرا مفاده أن قاضي تحقيق بالمحكمة الابتدائية بجندوبة أصدر مساء اليوم السابق بطاقة إيداع في حق “رئيس دائرة بالمجلس الجهوي لولاية جندوبة” في إطار قضية فساد سبق له أن أوقف فيها مقاولا اتهم بتدليس وثائق تتعلق بالمعدات التي يستغلها في نشاطه المهني وشهادة علمية ليفوز بصفقة عمومية. وبشر الإعلام نقلا عن مصدر قضائي بإيقافات أخرى منتظرة ستطال “إطارات بوزارة التجهيز وببلدية جندوبة وولايتها تعلقت بهم شبهة فساد”. لم يطل انتظار الإيقافات الموعودة طويلا: فخلال الثلاثة أيام الموالية، توسعت دائرة الإيقافات في ذات القضية لتشمل الكاتب العام لولاية جندوبة والمدير الجهوي للتجهيز بها ومراقب المصاريف الجهوية بها زيادة على موظف بالمجلس الجهوي.

حوّل إيقاع الإيقافات السريع “قاضي التحقيق” إلى موقع قيادة حرب على الفساد داخل القضاء وفي الفضاء العام، تلك الحرب التي يتحدّث عنها الساسة والقائمون على مؤسسات مكافحة الفساد كثيرا ولا يرى المتابعون لها أثرا في معيشتهم. كما لم يبلغ مسامعهم مواقع لمعارك تندرج في إطارها. وخلقت نجاعته في قيادة تلك الحرب حماسة في صفوف هؤلاء. وقد وصلت إلى حدّ مطالبة جمعية القضاة التونسيين “إلى التدخّل لضمان أمنه وسلامته وحمايته من أي ضغوطات تمارس عليه لدى كل الجهات المسؤولة فيما يتولاه من مسؤولية جسيمة في الكشف عن جرائم الفساد قصد تتبعها ومنع الإفلات من العقاب بشأنها”. كما دعت جمعية القضاة المجتمع المدني بجندوبة لأن ينضم بتاريخ 04-02-2019 لوقفة احتجاجية أمام المحكمة مساندة لقاضي التحقيق. إلا أن قاضي التحقيق هذا عاد وأصدر بعد عشرة أيام من هذا التاريخ قرارا بالإفراج عن المدير الجهوي للتجهيز والموظف المنتمي لذات الإدارة”. وبخلاف الإيقاف الذي أثار ضجيجا كبيرا، فإن الإفراج حصل تحت جنح الصمت.

استأنفت النيابة العمومية مقررات الإفراج الأولى التي صدرت فكان أن تعهدت دائرة الاتهام باستئنافها كما باستئناف بقية المتهمين لقرار قاضي التحقيق الإفراج عنهم. فكان أن أيدت الدائرة قراري الإفراج وزادت على ذلك بأن أفرجت عن كل من الكاتب العام لولاية جندوبة  ومراقب المصاريف العمومية بها.

غيّبت قرارات الإفراج وتوقف أخبار الإيقافات حرب تحقيق جندوبة على الفساد بعدما كانت جمعية “مراقبي المصاريف العمومية” قد زرعت الشك خلال ندوة صحفية عقدتها يوم 12-02-2019 في وجود فساد مالي في القضية بادعاء القائمين عليها أن الصفقة موضوع التتبعات لم يتم إبرامها أصلا بعد تفطن الإدارة للتدليس الذي صدر عن المقاول الذي فاز بها.

تمنع سرية التحقيق والالتزام بانتظار فصل القضاء في النزاع المعروض من التطرق لحقيقة وجود أدلة فساد جدية من عدمه. لكن النظر في سرعة الإيقاف ومن بعده سرعة قرار الإفراج يوجب السؤال حول الدور المحتمل للتغطية الإعلامية في إصدار قرارات الإيقاف. كما يدفع للتساؤل حول ما إذا كان إصدار قاضي التحقيق لقرار في إيقاف المدير الجهوي للتجهيز في قضية فساد يفترض أنها كبرى ويبدو فيها فاعلا رئيسيا وإفراجه عنه أياما قليلة بعد ذلك تسرعا في الإيقاف أو خضوعا لضغط في الإفراج أو هو فقط إيقاف كان مبررا في وقته وقابله إفراج كان بدوره مبررا في توقيته.

يصعب هنا تقديم جوابا عن الأسئلة المطروحة اعتبارا لكون التحقيق مازال جاريا. ولكن ما يبدو في حكم المؤكد أن مجريات الأحداث تؤدي بالضرورة للمسّ بالثقة العامة في القضاء وعمله. ويظهر من المهم طلبا لتلك الثقة وسعيا للتعلم من التجربة تجاوز حالة الصمت التي تعم الآن الفضاء العام فيما تعلق بحرب تحقيق جندوبة على الفساد طلبا لاستثمار المخرجات المبكرة لمعركتها الأولى في صياغة تصورات تصلح القضاء.

تذكّر إيقافات تحقيق جندوبة المتواترة وقرارات الإفراج السريعة التي تلتها بما يصطلح على تسميته بقضية أوترو “L’affaire d’Outreau” التي عرفتها فرنسا بداية الألفية الثانية. وقد تمثلت وقائعها في كون قاضي تحقيق تولى تحت تأثير سلطته المطلقة في الإيقاف وبدفع من المزاج الشعبي والإعلامي إصدار عددا هاما من قرارات الإيقاف في قضية اغتصاب لأطفال ليتبين لاحقا أن تلك الإيقافات لم تكن مبررة. دفعت هذه الواقعة السلطة السياسية الفرنسية إلى استشعار الأزمة وإلى أن تصلح نظامها القضائي في اتجاه يمنع تحكم فرد واحد في حريات الأفراد ويفرض أن يكون قاضي الحريات من يختص لوحده بنظر جدية طلب إيقاف شخص من عدمه. فكان هنا أن استفاد القضاء الفرنسي من أزمته وهي استفادة كان مردها التعاطي الإيجابي للقوى السياسية والاجتماعية مع خطأ قضائي. ونأمل تاليا أن تشكّل هذه القضية، بما شابها من تسريب وحراك حولها، مدخلا لتفكير جدّي في كيفية إصلاح نظام الإجراءات الجزائية، في اتجاه ترسيخ دور القضاء في حماية الحقوق والحريات.

انشر المقال

متوفر من خلال:

مقالات



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني