حول الزواج المدني والمادّة التاسعة من الدستور


2019-03-15    |   

حول الزواج المدني والمادّة التاسعة من الدستور

أستأذنكم في الإشارة أوّلاً إلى هذا الكتاب الصغير الذي أصدرتُه عن “دار النهار”، سنة 1999، وعنوانه “تسعَ عشرةَ فرقَةً ناجية: اللبنانيّون في معركة الزواج المدني” وذلك على أثر جولة تلك المرحلة من المعركة التي لا نزالُ في مَدّها وجزرها إلى اليوم. يقدّم الكتابُ بعضَ التفصيل لمسائل سأُجملها الآن ولأخرى لا يسمح الوقتُ المُتاحُ ولا الموضوع المحدّدُ لنا بطرحها أصلاً.

وأمّا أفضل المداخل لفهم منطوق المادّة التاسعة من الدستور وتحديد نطاقها فهو، في ما أقدّرُ، إجمالها في قراءةٍ واحدة مع المادّة العاشرة وتفسيرهما معاً في ضوء المقصد العامّ المفترض للمشترِع وهو لا يمكن إِلَّا أن يكون واحداً، من حيث الأساس، في الحالتين[1].

التوازي والتكامُل واضحان بين المادّتين إذ تتناول التاسعة، في مقطعها الأخير، حقوق الأهلين، على اختلاف الملل، لجهة أحوالهم الشخصيّة. وتتناول العاشرة، في مقطعٍ منها أيضاً، حقوق الطوائف لجهة إنشاء مدارسها الخاصّة.

وأوّل ما يلحظ، في ما يتّصل بالتكامل، أنّ الأحوال الشخصيّة، وهي نظُمٌ للعائلة أساساً، تشترك اشتراكاً عضويّاً مع نظم التنشئة التي تحمل همّها العائلةُ والمدرسة معاً وأنّ ضمان حقّ الطوائف في الأمرين إنَّما هو ضمان لحقّها في بذل المستطاع لحفظ ولاء أفرادها للدين والمذهب. فهذا الحفظ هو، من وجهة نظر الطوائف، بمثابة الأصل المشترك لعمل الفرعين: العائلة التي ترعاها مذهبيّةُ الأحوال الشخصيّة والمدرسة التي ترعاها حرّيةُ التعليم الطائفي.

وأمّا التوازي بين المادّتين التاسعة والعاشرة من الدستور فيُظْهِرُ، عند التأمّل، حدودَ النطاق الذي تشغله الصلاحيّة الطائفيّة في الحالتين: حالة العائلة أو الأحوال الشخصيّة وحالة المدرسة أي التربية والتعليم.

تُسْتهلّ كلّ من المادّتين بذكر “الحريّة”. وهذا الاستهلال العالي النبرة أصلٌ محكّمٌ تحكيماً كلّياً في ما يليه. فما يليه ليس سوى تفصيلٍ له يعيّنُ حالةً خاصّةً من حالاته أو هو استثناءٌ منه أُثْبِتَ لمجافاته معنى الحُرّية المتعارف عليه، مع احتمال حصوله واقعاً ووجوب الاحتياط منه لهذا السبب. يُرْسي استهلال المادّة التاسعة مبدأً عامّاً أو سامياً إذ يُعْلن أنّ “حرّيةَ الاعتقاد مُطْلقة”. ويُرْسي استهلال المادّة العاشرة مبْدأً عامّاً أو سامياً آخر، موازياً للسابق وموائماً له في مرجعيّته الأعمّ (وهي قيمة “الحرّية”) إذ يعلن أنّ “التعليمَ حرٌّ”. الحُرّية إذن هي الأصل المشترك للمادّتين: هي المبدأُ أو المصدر المعتبر في الاستهلالين.

بَعْدَ إرساءِ الأصلِ – أي الحرّية – تَنْزلُ المادّةُ التاسعةُ درجةً في العُموميّة فتُعْلِنُ إجلال الدولة لِلّه وتشتقُّ من هذا الإجلال احترامَ الدولةِ الأديانَ والمذاهبَ جميعاً. ثُمّ إنّها تَنْزِلُ درجةً أخرى في العموميّة لتنتقلَ من صعيدِ المبدإ إلى الصعيد العمليِّ المترتِّب عنه (وهو موضوعُها الفِعْليّ إذ لا معنى لإعلان المبادىء في الدستور ولا في أيِّ نَصٍّ اشتراعِيٍّ آخر ما لم تتَرتّبْ عنها أعمالٌ) فَتَضْمَنُ أمرين: الأوّلُ حُرّيةُ إقامةِ الشعائر الدينيّة (مُسْتَبعِدةً من هذه الحرّية – وهذا استبعادٌ ذو مَغْزىً سنعود إليه – ما كان من هذه الإقامةِ مُخِلّاً بالنِظام العامّ) والثاني احترامُ نظامِ الأحوال الشخصية والمصالح الدينيّة لسائر المِلل.

هذا عن المادّة التاسعة في تدَرُّج بنيتها من عمومِ حُرّيّةِ الاعتقاد إلى خصوصِ الحُرِيّاتِ الدينيّة فإلى الظهور العمَلِيّ لهذه الحُرّيات في إقامة الشعائر وفي لُزوم الملل أحوالاً شخصيّةً خاصّةً بكلٍّ منها. وتُفِيدُ العبارةُ المتَعَلّقةُ بالنظامِ العامّ حفظاً لحقوق الغير المخالف، عند إقامةِ الشعائر، فلا يُفْرَضُ على هذا الغيرِ ما يَصِحّ، في تقدير السلطة العامّة، اعتِبارُهُ استِفْزازاً غير مشروعٍ له. وفي الاستثناء الذي تعلنه العبارةُ المشارُ إليها ما فيه من تَفَوُّق يقرّهُ الدُستور تكراراً لما هو حقٌّ عامٌّ (وهو هنا “النظام”) على ما هو حقٌّ خاصٌّ (وهو هنا أسلوبٌ أو مَظْهَرٌ ما من مظاهر الشعائر وأساليبِ إقامتها فيه طعنٌ في مُعْتَقَدِ الغيْر أو في حقٍّ آخر من حقوقه وتَحَدٍّ مباشرٌ له).

في المادّة العاشرة، نقع على التدرّج نفسه من المبدإ إلى العَمَل ومن الأعمّ إلى الأخصّ ونقعُ على المُباح المكفول الإجراء وعلى حَدّه بالحقّ العامّ أو بحقّ الغير، فتتوقّف الإباحة على لزوم هذا وعدم الإخلال بذاك. ذاك ما سمّيناه التوازي ما بين المادّتين. وبيانُه أنّ المادّة العاشرة أيضاً تُسْتهلّ بما سبق ذكره من إرساءٍ للأصل الذي هو الحُرّية. “التَعْليمُ حرٌّ”، تقول العاشرةُ، في مُفْتَتَحِها، وهذا واضحُ المُماشاة لحرّيةِ الاعتقاد المطلقة التي تُفْتَتَحُ بتوكيدها التاسعة. بعْدَ ذلك تعمِدُ العاشرة إلى استثناءٍ من هذه الحُرّية يتناول كُلّ تعليمٍ من غير حاجةٍ إلى تعيين طبيعته أو مرجِعِه. فتستبعدُ ما يُخلّ من التعليم “بالنظامِ العامّ أو ينافي الآدابَ أو يتعرّضُ لكرامة أحد الأديانِ أو المذاهبِ”. وهذا استبعادٌ فيه تعليةٌ للحقّ العامّ على حقّ الفئةِ ولحقِّ الغير على ما يمسّه من مَسْلكِ غيره. وهو ما وقعنا على ما يُماثله في المادّةِ التاسعة.

وأمّا الموضوعُ العَمَليُّ أو الإجرائيُّ للعاشرة فهو ضمان “حقوق الطوائف” في “إنشاءِ مدارسها الخاصّة”. هذه “الحُقوق” (وكان الأَوْلى أن تُعْتَبَرَ حقّاً واحداً ولكن سلامة العبارةِ في دستورنا مسألةٌ أخرى…) تجعل لها المادّةُ نفسها حَدّاً آخرَ عمليّاً هو سير العمل في هذه المدارس “وفاقاً للأنظمة العامّة التي تصدرها الدولة في شأن المعارف العُموميّة”. وعبارة “الأنظمة العامّة” ههنا عبارةٌ شاملة النطاق تندرج في ما صدقها مناهج التعليم وبرامجه، بطبيعةِ الحال، ولكنّها تنتشر إلى أمورٍ أخرى من قبيل معاملة التلاميذ والبدلات الماليّة وحقوق العاملين وأوصاف المباني والتجهيزات، إلخ. وفي هذا المقطع من المادّة أيضاً صونٌ لتفوّق العامّ الذي ترعاه الدولة على الخاصّ بالفئة وفيه الحفظ نفسه الذي عاينّاهُ في المادّةِ التاسعة لحقوق الغير.

هل يترتّب على الإلزام الدستوري بحقّ الملل في اتّباع أنظمتها للأحوال الشخصيّة (أي على المادّة التاسعة) وهل يترتّب على الإلزام الدستوريّ بحُرْمة المَسّ بحقّ الطوائف في إنشاء مدارسها حصرٌ لنُظم الأحوال الشخصيّة في الملل اللبنانيّة القائمة وحَصْرٌ آخر لمهمّة التعليم والتنشئة في المدارس الطائفيّة؟ هذا هو السؤال الأكبر في موضوعنا اليوم.

الإلزامان المشار إليهما صريحان في الدستور. وأمّا الحصر فهو بعيدٌ جدّاً عن منطوق المادّتين. هو بعيدٌ أوّلاً لتأسيس أحكامهما على الأصل الواحد الذي هو الحرّية ولتعليتهما ما هو عامٌّ على ما هو خاصٌّ بفئة. وحرّيةُ الاختيار في ما لا يُخِلُّ بالنظام العامَّ ولا يمسّ حقوق الغير أَوْلى الأمور بأن تعتبر مبدأً عامّاً. فما بالك بها إذا كانت تتعلّق بأخصّ ما في الحياة الخاصّة أي باختيار الشريك وبحقوق الزوجيّة والبنوّة وبالطلاق والحضانة والتوريث… وبتنشئة الأولاد وتعليمهم وما إلى ذلك من شؤون العائلة؟ وإذا نحن عدنا إلى نصّ المادّتين اللتين اتّخذناهما موضوعاً فإنَّ أوّلَ ما نلاحظه، بصدد الحصر، هو الغياب المدوّي لأيِّ عنصرٍ نصّيٍّ في أيٍّ منهما يدلُّ على الحصْر أو يَشي به. حتّى إذا وقفنا عند ما هو محتملٌ من تأويل للنصّ في اتّجاه الحصر يعْمِد إليه من له مأربٌ فيه وجدنا الواقع يصدّ بلا إبطاءٍ إمكان هذا التأويل…

أقرّت المادّة العاشرة الطوائف على حقّها في إنشاء مدارس خاصّةٍ بها. ولكنّ هذا الإقرار لم يحجب، في أيّ وقتٍ، حقَّ الدولة في إنشاء مدارسَ غير طائفيّة تلي الدولةُ أمورَها ولايةً مباشرة. فنشأت في البلاد شبكةُ تعليمٍ رسْمِيٍّ طويلةٌ وعريضة. تردفُ هذا القطاع الرسميّ في نزع صفة الحصريّة الطائفيّة عن التعليم مدارسُ في القطاع الخاصّ تَنْشَأُ غيرَ منتميةٍ إلى طائفةٍ أصلاً ويُعْلِنُ بعْضُها في اسمِهِ صفةَ العَلْمانيّة. وتُسْهِمُ في هذا النَزْعِ، أخيراً، حرّيةُ اللبنانيّينَ القائمة في إرسالِ أولادهم إلى مدرسةٍ تعود الولايةُ عليها إلى طائفةٍ غير طائفتهم. ولا يجِدُ المرجِع الطائفيّ الراغبُ في الاعتراض، في هذه الحالاتِ كُلّها، سنداً في الدستور أو في القوانين الأخرى لاعتراضه… بل هو يَجِدُ ما يردَعُ الاعتراض. وحينَ نفطَنُ إلى كَوْنِ المَدْرسةِ تُشاطِرُ العائلة أجَلَّ مَهامّها على الإطلاق، وهي تَنْشِئةُ الأولاد، نُدْرِكُ وجاهةَ ما أردناه من مقايَسةٍ للاحصريّةِ الصفة الطائفيّة لبعض التعليم بلاحصْريّة الأحوال الشخْصيّةِ الطائفيّة. نقولُ هذا مع العلم أن الهيئات الطائفيّة، من دينيّة وسياسيّة، تقاوم التعليم غير الطائفي مقاومتها الأحوالَ الشخصيّة المدنيّة. فهي بذلت وتبذل جهوداً دائبة لتسخير المدارس الرسميّة والجامعة اللبنانيّة للمنطق الطائفي في توزيع الهيئات الطلاّبيّة ومضامين التعليم والنشاطات الأخرى المختلفة. لا هدنة إذن هنا ولا هناك…

مهما يكن من شيْءٍ، لم تنُصّ المادّة التاسعةُ من الدستور، بالتحديد، على نظامٍ مَدنيٍّ للأحوال الشخصيّة. ولكنّ المادّةَ العاشرةَ لَمْ تنُصّ، بالتَحْديد، على وجود قطاعِ المدارس الرَسْمِيّةِ وما جرى مجراها اللاطائفيّ ممّا ذَكَرْنا. غيرَ أنّ هذا وذاكَ يجِدانِ ما يُؤصّلهما قانوناً في مبدإِ الحُرّية بما هو أصلٌ في أحكامِ الدستور وفي سُمُوّ حقّ الدولة في تقدير الصالحِ العامّ وتنظيمه على حقّ الطوائف وسواها من الجماعاتِ الجُزئيّة. يَجدُ المبدأُ اللاطائفيّ ما يؤصّلهُ في واقع التعليم والأحوال الشخصيّةِ أيضاً. وقد سبقت إشاراتٌ إلى واقع التعليم. فماذا عن واقع الأحوال الشخصيّة؟

توجَدُ واقعةٌ تاريخيّةٌ مستمرّةُ الشرعيّة هي واقعة جماعات الحقّ العادّيّ، أي اللاطائفيّ، (communautés de droit commun) التي أنشأها القرار ٦٠ LR في سنة ١٩٣٦. أنشأها بعد عشرِ سنواتٍ من إقرار الدستور، بمادّته التاسعة التي لم يطرأْ عليها تعديلٌ قبل ذلك ولا بعده. وكان معنى لحاق هذا النوع غير الدينيّ من الجماعات بالحقّ العاديّ أن يرعى أحوالها الشخصيّة قانونٌ مدَنيّ لم يصدُر ولا صدَر أيُّ نصٍّ تنظيميّ آخر يرعى نُشوءَها واقعاً بعد أن أنشِئت قانوناً. بل إنّ المسلِمين، في سوريّا ولبنان، أُخرجوا بعد ٣ سنواتٍ تقريباً، من دائرة الإمكان الذي رسَمَهُ هذا القرار، بعد أن عَنُفَ احتجاجُ مَراجعهم عليه. فأصبَحَ القَرار اللاطائفيّ الذي انحصَرتْ لاطائفيّته في طوائف دُونَ أخرى عِبْرةً لمَن اعتبَر!

مع ذلك بقيت طائفةُ أو جماعةُ الحقِّ العادِيّ قائمةً في القانون إلى اليوم، لا يعتَرضها الدستورُ بل هي تُسْهِمُ، على غير ميعادٍ، في تفسير المادّة التاسعةِ منه. تُستبعدُ الحصْريّةَ الطائفية بمجرّدِ استبعاد الحاجةِ إلى تعديل المادّةِ التاسعة تمهيداً لإصدار القرار المُشارِ إليه وبَقائها على حالِها أيضاً بعْدَ أن أُخْرِجَ المسلمون من دائرة القرار نفسه. يُمَثّلُ الاستِمرارُ القانونيّ لجماعة الحقّ العاديّ هذه، بما يُفْترضُ لها حُكْماً من أحوالٍ شخصيّةٍ مدَنيّة، سَنَداً واقِعِيّاً له صفةُ السابقة التاريخيّة لإمكان التشريع المدَنيّ للأَحوالِ الشخصيّة من غير مَسٍّ بالدستور أو تعديلٍ له. ويمثّلُ بالمثابة نفسِها دحضاً لصفة الحصريّة الطائفية في المقطع المتعلّق بالأحوال الشخصيّة من المادّةِ التاسعة.

السنَدُ الواقعيُّ الآخرُ لهذا الدحض هو مئاتُ آلافٍ من الزيجات المدنيّة عقَدَها ولا يزال يعقدها لبنانيّون في مشارق الكوكب ومغاربِه وتُقِرّهم الدولة عليها وتعامِلها المحاكم المدنيّة بموجبات القوانين المختلفةِ التي انعقدَت أو تنعقد بموجبها مُعَوّلةً في ذلك على صمتٍ مشكورٍ أو ضيقٍ مكتوم من جانب المراجع الطائفيّة. هذه واقعةٌ كبْرى تُظْهر أنّ القانون المدنيّ للأحوال الشخصيّة خيارُ لبنانيّين كثيرين جدّاً يجدون فيه صيَغاً تناسب إرادَتَهم الحرّة لتنظيم عوائلهم وحُلولاً لمشكِلاتٍ خطيرةٍ تطرحها عليهم قوانين الطوائف. من هذه المشكلاتِ ما هو عَملِيّ أو مادّيٌّ ومنها ما هو عاطفيّ ومنها ما هو سياسيٌّ أو اعتقاديٌّ على الأعَمّ، إلخ. ولا أتبسّطُ في عرضها ههنا إذ التبسّط يُخْرجنا من نطاق البحث في الدستور وفي المادّةِ التاسعة منه…

أكتفي بملاحظتين في هذا المعرض. الأولى أنّ إيكالَ الدولةِ اللبنانيّة أمْرَ قسمٍ من اللبنانيّين المقيمين على أرضهم إلى قوانين أجنبيّة أمرٌ يطعَنُ في كرامة هذه الدولة (أو في ما لا نزال نسمّيه سيادتها) فضلاً عن إلحاقه الضررَ البالغ بلبنانيّين لا يسع القانون الأجنبيّ أن يعالجَ غيرَ جانبٍ من مشكلاتهم التي يفتَرَض أن يعالجها قانونٌ مدنيٌّ لبنانيّ. هذا إلى كونِ لبنانيّين آخرين يريدون استظلال أحوالٍ شخصيّةٍ مدنيّة ولا يجدونَ سبيلاً إلى قانونٍ أجنَبيّ أو ينفرون عن هذا السبيل. الملاحظةُ الثانية أنّ سَنّ قانونٍ اختياريّ لجماعةٍ كبيرةٍ من المواطنين ترى فيه صالحاً لها لا يخضع لمنطق الأكثرية والأقليّة على نطاق الدولة ومؤسّساتها بل يخضع لمنطق الحرّية والحُقوق الأساسيّة التي أقرّها الدستور أصلاً سامياً للتشريع: أي لمنطق الحقّ في الاختيار ما دام هذا الحقّ لا يفضي إلى إتيانِ كبيرةٍ من الكبائر، على ما زعَمَ بعضُ مراجعنا الطائفيّةُ أحياناً، بل هو حقٌّ مُقَرٌّ لملياراتٍ من البشر يغطّون خريطة الأديان في عشراتٍ من الدول الكبيرة والصغيرة.

القانون الاختياريّ شبيهٌ لهذه الجهة بأيٍّ من القوانين الطائفية، وهي عديدةٌ، وبعضها يسري على قلّةٍ قليلةٍ من المواطنين لا غير. في أيّ حالٍ، يسع القانون الاختياري أن يبقي بابَ الزيجة الدينيّة مفتوحاً لمن يرغب في جمع المجد من طرفيه ولكن يحجبُ مفاعيلها القانونيّة. ولا أقولُ من جهتي بالقانون المدنيّ الإلزامِيّ ولا أستبعد عن بعض القائلين به شبهة التعجيز. وهذا مهما يكن من أمر طموحي إليه، فإنّ هذا الطموح ليس بحجّة. الحجّة هي المبدأُ الديمقراطيّ الذي يجعل القانون الإلزاميّ خاضعاً حكماً، بخلاف الاختياريّ، لمنطق الأقليّة والأكثريّة ما دامَ سيسري على جماعة المواطنين برمّتها، وقد يَلْزَمُ إدراجُ لُزومِه في الدستور.

تبقى إشارةٌ واجبةٌ في هذا المعرض إلى المادّة التاسعة عشرة من الدستور وهي تمنح رؤساء الطوائف المعترف بها الحقّ في مراجعة المجلس الدستوريّ “في ما يتعلّق حصراً بالأحوال الشخصيّة وحرّية المعتقد وممارسة الشعائر الدينيّة، وحرّية التعليم الديني”. هذه مادّةٌ أحدثُ عهداً من التاسعة والعاشرة إذ هي منبثقةٌ من اتّفاق الطائف. ومن الواضح أنّ كلّاً من هؤلاء الرؤساء له أن يراجع، في أيّ من الأمور المذكورة، في ما يخصّ طائفته حصراً إذ لا يُعْقل أن ينصّب نفسه وصيّاً على الطوائف الأخرى ولا على خيارات الأفراد. هل يسري حقّ المراجعة هذا في موضوع قانونٍ مدنيّ اختياريّ للأحوال الشخصيّة تسنّه الدولة؟ لا أراه يسري لأن هذا القانون يستجيب لحريّة شخصيّةٍ يكفلها الدستور في مادّتيه الثامنة والتاسعة خصوصاً ولا تَتَعرّض بالمسّ أو بالتضييق لحقّ طائفةٍ من الطوائف في أحوالها الشخصيّة وتُقدم عليها الدولة إقدامَها على تعهّد قطاعٍ غير طائفيّ في التعليم، منطلقةً من حقّها السامي في التشريع. وهذا حقٌّ لا يمكن للطوائف مصادرته إذ هي ممتّعة برعاية الدولة لتشريعاتها الخاصّة، المختلفة في ما بينها واللاحصريّة في مضمار الأحوال الشخصيّة شأنها في مضمار التعليم. في كلّ حالٍ، يبقى المجلس الدستوريّ حرّاً في ردّ المراجعات أو قبولها ايّاً يكن المصدر والموضوع، في ضوء الدستور وتفسيره له.

أسألُ أخيراً: ما الذي يجعلُ الهيئاتِ الطائفيةَ من دينيّةٍ وسياسيّة تناهض القانون المدنيّ وإن يَكُنْ اختياريّاً هذه المناهضة؟ تُذْكَرُ كثيراً مصالحها “المؤسّسيّة” من مادّيّةٍ وغيرها، وهذه علّةٌ لا يُسْتَهان بأثرها وإن يكُن التدقيق في وجوهها لازماً. العلّة العميقة، في ما أرى، هي الخِشْيةُ من حُرّيّةِ الاختيار أي التوجّس ممّا أسميته، في الكتاب المشار إليه في أوَّل الكلام، “سُوسةَ الطوعيّة”. تلك سوسةٌ يدلّ نشاطها على قيامِ الأفراد بذواتهم ويؤذن بتفضيل الانتساب بالحرّية على الانتماء بالتقليد… وتجدون وصفاً لعملها في آخر الكتاب المذكور…

كلمة أعدّت للندوة التي عقدتها “المفكّرة القانونيّة”، في بيروت، تحت عنوان “أوّل النقاش حولَ الزواج المدني على الأراضي اللبنانيّة: ما معنى المادّة 9 من الدستور؟” وذلك في 12 آذار 2019.


[1] المادّة التاسعة: حرّية الاعتقاد مطلقة والدولة بتأديتها فروض الإجلال للّه تعالى تحترم جميع الأديان والمذاهب وتكفل حرّية إقامة الشعائر تحت حمايتها على أن لا يكون في ذلك إخلال في النظام العامّ وهي تضمن أيضاً للأهلين على اختلافِ مللهم احترام نظام الأحوال الشخصية والمصالح الدينية.

المادّة العاشرة: التعليم حرّ ما لم يخلّ بالنظام العامّ أو ينافي [كذا] الآداب أو يتعرّض لكرامة أحد الأديان أو المذاهب ولا يمكن أن تمسّ حقوق الطوائف من جهة إنشاء مدارسها الخاصّة، على أن تسير في ذلك وفاقاً للأنظمة العامّة التي تصدرها الدولة في شأن المعارف العموميّة.

انشر المقال

متوفر من خلال:

لبنان ، مقالات ، دستور وانتخابات ، حريات عامة والوصول الى المعلومات



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني