مشروع قانون المصالحة: قراءة في إدارة الصراع


2017-06-21    |   

مشروع قانون المصالحة: قراءة في إدارة الصراع

في أول تصريح إعلامي في إثر انتخابه رئيساً للجنة التّشريع العامّ بمجلس نواب الشعب التونسي للدورة البرلمانية 2016-2017، أفاد الطيب المديني أن مشروع قانون المصالحة لن يكون من أولويات عمل لجنته[1] بالنظر للإنقسام السياسي حول أحكامه. ثلاثة أيام فقط بعد ذلك، عاد المديني ليقول "بأنّ مشروع القانون يحظى بأولوية نظر لجنته" مبرراً ذلك بأنه المشروع الوحيد الذي استكملت لجنته نقاشه العام"[2]. عكس تناقض مواقف المديني بأمانة اضطراب مسار مشروع القانون الذي يهدف لإرساء مصالحة مع من يتهمون بفساد مالي وإداري خلال حقبة الجمهورية الأولى. فهذا المشروع قسم الساحة التونسية إلى شقين: أولهما مؤيد له وتتزعمه رئاسة الجمهورية بصفتها الجهة التي اقترحت نصّه وهي ترى أن المصالحة المقترحة شرط ضروري لإنعاش الإقتصاد التونسي ولإعادة الإعتبار لكفاءات دولة الاستقلال. أما الشق الثاني فتتزعمه رئيسة هيئة الحقيقة والكرامة سهام بن سدرين والتي ذهبت إلى حدّ وصف المشروع على أنه "جريمة في حق الشعب التونسي لكونه سينسف مسار العدالة الإنتقالية ويعيد إنتاج منظومة الفساد"[3].

خرج الخصمان عن ثقافة التوافق التي حكمت الخطاب السياسي التونسي بعد الثورة وبحث كلّ منهما عن كيفية حسم الصّراع لفائدة طرحه، من خلال استعمال ما توفر له من أسلحة.

الجولة الأولى: الإفتاء القانوني سلاح الحسم

 بمجرد إيداع رئاسة الجمهورية عن مشروعها للمصالحة في المجال الإقتصادي لدى مجلس نواب الشعب التونسي بتاريخ  16-07-2015، كشفت المعارضة السياسية وطيف هام من منظمات المجتمع المدني عن رفضهم له وتوجههم للشارع طلبا لإسقاطه. لم يتوصّل المعارضون لصناعة حراك في الشارع يكون قادراً على التأثير على المجلس التشريعي[4]. وفي ذات الحيّز الزمني، طلبت هيئة الحقيقة والكرامة الرأي الإستشاري للجنة البندقية، التي تحظى بتقدير واسع بتونس لدورها في صياغة الدستور، في مشروع القانون. وقد أعلنت اللجنة بتاريخ 26-10-2015 رأيها الذي أكد على عدم دستورية الجانب الأكبر من أحكام مشروع القانون. أحرج الرأي الإستشاري جهة الإقتراح التشريعي التي باتت في حال إصرارها على مشروعها، متهمة بمحاولة خرق الدستور علاوة على اتهامها بالإنقلاب على مسار العدالة الإنتقالية. فكان أن اضطرت وحزامها النيابي على التراجع عن قرارها بإتمام نظر مشروع القانون قبل العطلة النيابية.

لم تكن هزيمة أنصار المشروع حاسمة: فالرأي الإستشاري وإن أفتى بعدم دستورية أحكامه، إلا أنه أكد أن الفكرة التي انبثق منها دستورية. وقد أضاف هذا الرأي أن تشعّب مهام هيئة الحقيقة والكرامة ومحدودية مدة عملها يبرران التفكير في مسار يضمن تحقيق العدالة الإنتقالية في خصوص الإنتهاكات المالية خارج قانونها[5]. وهذا الجانب من الرأي الاستشاري فرض على أطراف الصراع البحث عن سلاح الحسم استعدادا لجولة ثانية لم يطل انتظارها.

الجولة الثانية: حسابات الإستفادة والخسارة سلاح يسقط المشروع

في منتصف سنة 2016، نجحت كتلة حزب نداء تونس في مجلس نواب الشعب في إعادة الحياة لمشروع قانون المصالحة بعد أن خصصت لجنة التشريع العام خلال الفترة الفاصلة بين 29-06-2016 و28-07-2016 ثماني جلسات  لنظره[6] و تعهد حينها رئيسها بإتمام عملها بشأنه قبل نهاية الدورة النيابية. حاولت رئاسة الجمهورية خلال هذه الجولة رفع المؤاخذات الدستورية عن مشروعها لكن محاولتها اصطدمت بموقف سلبي من حزب حركة النهضة شريكها في الحكم. لم يكشف نواب الحركة باللجنة عن مواقف موحدة: فكان أن تمسك بعضهم بعدم دستورية المشروع، فيما طلب الآخرون مزيد إخضاعه للنقاش[7]. وكشف الحراك السياسي خارج قبة المجلس التشريعي أن طرح راشد الغنوشي رئيس الحركة لمشروع المصالحة الشاملة كبديل عن المصالحة الإقتصادية كان سبب الرفض الناعم للمشروع. فقد قبلت  حركة النهضة فكرة المصالحة، لكنها سعت لفرض ثلاثة إشترطات لقبولها وهي الآتية:

أولا: أن تكون المصالحة شاملة بمعنى أنها لا تخص الإنتهاكات المالية وتشمل مختلف الإنتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان.

ثانيا: أن تكون المصالحة في إطار مسار العدالة الإنتقالية.

ثالثا: أن تضمن المصالحة الحق في التعويض وجبر الضرر لضحايا الإنتهاكات.

وكما خضع طرح مشروع المصالحة للحسابات الانتخابية لرئيس الجمهورية ومن دعموا رحلة وصوله وحزبه لسدة الحكم، تمت صياغة الفكرة البديلة بشكل يلائم حسابات شريكه في الحكم. فتمسكت حركة النهضة بمسار العدالة الإنتقالية التي كان نوابها من فرضوا التنصيص بالدستور على وجوب احترامه لكي لا تفقد مصداقيتها أمام قواعدها. واعتبارا لمصالح هذه القواعد، اشترطت قيادة الحركة أن يكون التعويض لهم عما لحقهم في الحقبة الإستبدادية من حيف مقابلا لازما للمصالحة[8]. لم يقبل أصحاب المشروع جرهم لخانة دفع التعويضات. وسجل في خضم هذا النزال دخول كتلة الجبهة أي المعارضة اليسارية على خط صراع المشاريع: فقد تقدم نوابها بمقترح قانون ينقح القانون الأساسي للعدالة الإنتقالية، حددوا كهدف له تيسير المصالحة مع رجال الأعمال دون سواهم وبرروا ذلك بكونهم الفئة الوحيدة في منظومة الفساد التي  تحقق المصالحة معها فوائد عامة[9]. لم يكن الإتفاق على مبدأ المصالحة بين الكتل النيابية الثلاث كافيا لإنجاح مشروع القانون، فانتهت الدورة النيابية ووضع المشروع في رف لجنة التشريع العام مع توقع معاودة طرحه بمجرد توافق الأحزاب الحاكمة على تقسيم مكاسبه السياسية، بما سيفرض على معارضيه خوض الجولة الثالثة للصراع معولين على مجهودهم الذاتي.

الصراع في محطته الختامية: صناعة الرأي العام .. الشعارات البراقة  

نشر موقع نواة الإستقصائي تسريبا لمخطط رئاسة الجمهورية الدعائي فيما تعلق بمشروع قانون المصالحة.  كشفت الوثيقة أن الديوان الرئاسي كوّن فريق عمل عهد له بالدعاية لمشروع القانون في وسط منظمات المجتمع المدني والمؤسسات الإعلامية. وقد تم اختيار هؤلاء من بين الأشخاص الذين لهم قدرة على التأثير في الرأي العام. كما تبين من جلسة يوم 26-04-2017 للجنة التشريع العام أن رئاسة الجمهورية  اختارت ألا تطرح التعديلات التي تتصورها لمشروع القانون للنقاش العام تاركة أمر تمريرها الصامت لعدد من نواب الأغلبية بلجنة التشريع العام. وأكدت في ذات الإطار تصريحات نواب حركة النهضة وقياداتها أن شريكهم في الحكم قد أمدهم بتلك التعديلات فيما تبين من تصريحات غيرهم من نواب المعارضة أنها حجبت عنهم[10]. كشفت هذه المؤشرات مجتمعة اعتماد رئاسة الجمهورية التعتيم على المعلومة التفصيلية في معركة اختارت الإعلام ساحة لحسمها. فيما كشف خطاب حركة النهضة أن قيادتها حسمت أمرها وقررت مساندة مشروع القانون وإن كانت تتجه لفرض تعديلات على مشروع القانون كثمن لذلك.

من جهتها، اختارت المعارضة الشارع كساحة  للصراع  فلوح حزب التيار الديموقراطي بالعصيان المدني  في صورة تمرير مشروع القانون، فيما تداول الاعلام تهديدا باستقالة جماعية لنواب من مجلس الشعب[11].

وازاء هذا التصعيد، لم يطل إنتظار رد رئيس الجمهورية الذي اختار في كلمته بتاريخ 10-05-2017  انتهاج سياسة الهجوم، فاتهم خصومه بمحاولة الإنقلاب على المسار الديموقراطي. وقد تزامن تصعيده هذا مع تسريب دوائر مقربة منه لأخبار ترجح توجهه لطرح مشروع القانون على الإستفتاء الشعبي إثباتا لعدم معارضة الشارع له خلافا لادعاءات خصومه.

اختارت في الجهة المقابلة "هيئة الحقيقة" أن تدير الصراع بذات آلياته الدعائية. فكان أن صاغت في مرحلة أولى خطابا مغرقا في العمومية والتبسيط يصورها كخير جهة تحقق المصالحة لتنتهي في مرحلة ثانية لبث شهادة كانت سلاحها الحقيقي في جولة الحسم. فقد دخلت الهيئة الجولة بحملة تسويقية سلاحها بيانات وتصريحات إعلامية ذكرت فيها معلومات عامة هدفها إبراز نجاحها في المصالحة. ويلاحظ هنا أنها حرصت على التعميم. فقد رفضت أن تنشر طوعيا تفاصيل اتفاق المصالحة المبدئي الذي أبرمته مع سليم شيبوب، صهر الرئيس السابق زين الدين بن علي. واكتفت فيما تعلق باتفاقات المصالحة ببلاغين مقتضبين عددا إنجازاتها. ويبدو هذا الإختيار محاولة منها للتغطية على تعثر منهجية عملها. فكان أن حجبت التفاصيل تجنبا لانكشاف أن اتفاقها مع شيبوب كان مجرد اتفاق إطار يتعلق بقضايا جارية بما يخدم مصالح من طلب الصلح ولا يمضي قدما في كشف الحقيقة. كما تجنبت نشر أول إتفاق صلح أبرمته لكي لا يكتشف العموم أنه إتفاق تعلق بقضية جمركية كان بالإمكان إمضاء إتفاق في شأنها طبق القوانين الجارية دون حاجة للمرور بمسار العدالة الانتقالية. كانت دفاعات الهيئة  في هذه المعركة وعند هذا الحدّ "ضعيفة" بشكل مكن خصومها من المضي قدما في الدعاية لمشروعهم. إلا أن هذا الضعف  كان مرحليا. فبتاريخ 19-05-2017 عادت الهيئة لتشهر سلاحها الخاص بالجولة الحاسمة، وذلك حين بثت تسجيلا لشهادة صهر الرئيس الأسبق عماد الطرابلسي. صدمت الشهادة الرأي العام الذي استذكر أن  عدداً من الفاعلين في الساحة السياسية اليوم هم من المتورطين في الفساد.

وفي تطور غير منتظر، بدا رئيس الحكومة وكأنه يقلب الطاولة مجددا مع الإعلان عن حملة اعتقالات لشخصيات من عالم المال متهمة بالفساد. وأصدرت في هذا الاطار لجنة المصادرة قرارات مصادرة بتاريخ 26-05-2017 تشمل عدداً من هؤلاء. وبذلك، انتهى مشروع قانون المصالحة في جولته الثالثة إلى قرارات مصادرة لأملاك أصحاب أعمال وإلى حملة شعارها مقاومة الفساد تقودها الحكومة التي كانت تنادي بالمصالحة.

اقترنت نهاية الجولة الثالثة من الصراع حول مشروع قانون المصالحة بإعلان كتلة حزب نداء تونس عن كونها وبمباركة من رئاسة الجمهورية جهة المبادرة التشريعية تتجه لاقتراح حذف الباب المخصص للمصالحة مع رجال الأعمال من مشروع القانون مع تمسكها بالمصالحة مع الموظفين الذين بمناسبة عملهم تورطوا في قضايا فساد لم يستفيدوا منها ماليا[12].

أطاحت بالتالي قرارات المصادرة بما كشفته من ارتباط بين المال الفاسد قبل الثورة وذاك الفاسد بعدها بالأطروحات التي كانت تسوق لطلب المصالحة مع من استفادوا ماليا من فساد النظام قبل الثورة. وأعلنت نهاية سريعة لصراع طويل على قانون أثار كثيرا من الجدل. وتؤكد هذه  النهاية  المفاجئة حركية المشهد السياسي والحقوقي التونسي، هذه الحركية التي تظل الضمانة الأساسية لتحقيق الانتقال الديمقراطي الذي ما كان ليستمر دونها في ظل ما تعانيه مؤسسات الدولة وهيئاتها من قصور وظيفي سببه تسرب الفساد لدواليبها.

 


[1] الطيب المدني: مشروع قانون المصالحة الاقتصادية والمالية لن يكون من أولويات لجنة التشريع العام، 18-10-2016 موقع واب مانجير.
[2]  تراجع تدخلات النواب بجلسات لجنة التشريع العام كما نشرتها جمعية بوصلة بموقعها الالكتروني. رئيس لجنة التشريع العام بالبرلمان :"قانون المصالحة الاقتصادية والمالية يحظى بالأولولية في أعمال اللجنة"، 21-10-2016، موقع إذاعة شمس اف أم.

[3]  سهام بن سدرين: مشروع قانون المصالحة الاقتصادية سيعيد إنتاج منظومة الفساد، وكالة تونس إفريقيا للأنباء، نشر بموقع حقائق اون لاين بتاريخ  16-08-2015   
[4] لم يشارك في التظاهرة التي دعت لها المعارضة يوم 12—09-2015 ضد مشروع القانون الا عدد من المتظاهرين لم يتجاوز  الف وخمسمائة متظاهر وكان  دون توقعات الداعين للتظاهر
[5] للكاتب، الرأي الاستشاري للجنة البندقية حول مشروع قانون المصالحة: فكرة المشروع دستورية، أما أحكامه فلا … موقع المفكرة القانونية، 29-10-2016.     
[6]  يراجع توثيق جمعية بوصلة للنقاشات التي تمت بلجنة التشريع العام حول مشورع قانون المصالحة بموقعها الالكتروني
[7] محمد صالح الربعاوي –  تحفظوا على مبادرة المصالحة الشاملة للغنوشي –النهضة في مواجهة شركائها في الحكم – الصباح 06-05-2016
[8] راشد الغنوشي المصالحة الشاملة ليست مشروع شخص او حزب انما مشروع وطن والنهضة متمسكة بها – 20-05-2016 صحيفة الشاهد     
[9] مقترح قانون أساسي عدد 45/2016  يتعلق بتنقيح وإتمام القانون الأساسي عدد 53 لسنة 2013 المؤرخ في 24 ديسمبر 2013 المتعلق بإرساء العدالة الانتقالية ورد بشرح أسبابه " يتبنى مشروع القانون  الرأي الغالب  في المجتمع السياسي والمجتمع المدني و المتمثل في معالجة ملف رجال الأعمال بصفة مخصوصة وكذلك الإسراع في إنهائه  والأساس في ذلك أنهم  الفئة الوحيدة في منظومة الفساد التي  تحقق المصالحة معها فوائد عامة …"
[10]" النسخة الجديدة للمصالحة : نقاش بين النهضة والنداء واقصاء للاتحاد والمعارضة وهيئة الحقيقة    – 27-04-2017 موقع نواة     يراجع مقال ياسين نابلي
[11] حقائق اون لاين –توفيق الجملي: إمكانية استقالة نحو 40 نائبا من البرلمان؟ موقع حقائق اون لاين  10-05-2017
[12] تصريح  الطيب المديني رئيس لجنة التشريع العام بمجلس نواب الشعب في برنامج اكسبريسو   يوم 26-06-2017 اذاعة اكسبريس أف أم

انشر المقال

متوفر من خلال:

مقالات ، تونس ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني