اليوم الأول لإعتكاف القضاة… قصور العدل خالية إلا من “الضروري”

،
2017-03-15    |   

اليوم الأول لإعتكاف القضاة… قصور العدل خالية إلا من “الضروري”

شهد قصر العدل يوم الثلاثاء حركة متقاضين ومحامين خفيفة إثر التوقف عن عقد الجلسات وقبول المراجعات. فاقتصرت الأعمال على القضايا الملحة مثل إخلاءات سبيل الموقوفين وحفظ المهل القانونية. وأمام غرفة القاضي الجزائي في قصر العدل في بيروت تجلس عائلة أحد الشبان الموقوفين منذ مدة. “لم يؤجل القرار المتعلق بإخلاء سبيل أخي” يجيب الشاب عن سؤال المفكرة القانونية حول سير معاملته أمام القضاء في ظل إعتكاف القضاة عن مهامهم. ذلك أن هذه العائلة هي “بإنتظار توقيع المستندات من قبل القاضي”.

الأمر نفسه في قصر العدل في جديدة المتن. فالباحة الداخلية التي لطالما كانت مكتظة بالمحامين وأصحاب الدعاوى، خلت إلّا من قلة قليلة من الأشخاص معظمهم من الموظفين. القضاة في مكاتبهم، يسيرون ماهو ضروري حصراً. من هذا المنطلق، يرفض قاضٍ يفضل عدم ذكر إسمه، توقيع مستند لا ينطوي على إخلاء سبيل. يقول لـ”المفكرة” قاصداً توضيح ما آل اليه وضع القضاة في ظل المزيد من التضييق عليهم: “سابقاَ كان الأشخاص يحسبون حساب التعرض لقاضٍ. أما اليوم، فلا إعتبارات في هذا المجال، أي شخص يقول أي شيء”. يضيف “المسألة ليست حديثة، بل تدريجية، بدأً من منع الشارات على نمر السيارات، فباتت الـ(بهدلة) عادية في الشارع، وصولاً إلى تناولنا في الإعلام من دون حسابات وأخيراً اليوم سنصبح موظفين فئة ثالثة أيضاً، فماذا بعد؟”. يعبر القاضي عن إستغرابه إزاء المساعي المستمرة للتضييق على إستقلالية القضاء، “فهذه السلطة هي المخولة حماية النظام والدولة، ومصلحة الجميع من مصلحتها”. أخيراً، وبصدد سؤاله عن تحرك القضاة بمواجهة مشروع قانون السلسلة، فيما لم تجرِ تحركات للضغط باتجاه تحصيل القضاة لحقهم بالتجمع والتعبير الحر كضمانة لباقي حقوقهم على سبيل المثال لا الحصر، يجيب: “نحن مقصّرون بحق حالنا”.

وكان مجلس القضاء الأعلى أصدر بيانا مساء الإثنين، في أعقاب جمعية عمومية تداعى إليها القضاة. وقد أعلن في البيان إعتكاف القضاة عن حضور جلساتهم إعتراضاً منهم على مضمون إقتراح القانون الوارد بالمرسوم رقم 10416 الذي أقرته اللجان المشتركة ويمس بإستقلاليتهم. وقد استنكر المجلس في بيانه “تكرار عدم أخذ رأيه في شأن مشاريع القوانين المتعلقة بالقضاء (…) وعدم التجاوب مع الطروحات المحقّة التي يُبديها ولا سيّما لجهة وجوب التعامل معه على أساس أنه ممثل للسلطة القضائية المستقلة تجاه السلطات الأخرى”. بالتالي، ركّز البيان على “وجوب عدم المساس بالمفترضات اللازمة لنهوض هذه السلطة بدورها، ومنها صندوق تعاضد القضاة والعطلة القضائية وسائر الحقوق الأخرى العائدة للقضاة”. هذا وقد أجاز مشروع القانون للحكومة، فيما يتعلق بصندوق التعاضد، “وضع نظام موحد للتقديمات الإجتماعية يشمل جميع العاملين في القطاع العام يطبق في تعاونية موظفي الدولة وصناديق تعاضد القضاة”[1].

بالعودة إلى باحة قصر عدل بيروت، أكدت المحامية بشرى الخليل للمفكرة على تضامنها مع القضاة قائلةً: “القاضي يجب أن يتمتع برفاهية مادية، وموقع اجتماعي معزز، كونه يتعامل مع قضايا حساسة مختلفة ومنها مالية تصل إلى ملايين الدولارات. فكيف يتعامل مع هذه القضايا في الوقت الذي يفكر بوضعه المعيشي؟”. وأوضحت الخليل أن “من واجب المجلس النيابي أن يستشير القضاة بالتشريع” مشيرةً أن “السلطة هي بقايا الميليشيات ومن يملك ثقافة الدمار لا يمكن أن يملك ثقافة الإعمار”. وخلصت الى القول: “على نقابة المحامين أن تتخذ موقفاً وليس الالتزام بالتضامن فقط”.

أما الموظفون الذين حضروا إلى أقلامهم كالمعتاد، فقد أوضحوا للمفكرة كيفية سير العمل في ظل إعتكاف القضاة. تشير موظفة في أحد الأقلام أنه “تمّ إعلام أصحاب الدعاوى بإعادة المراجعة نهار الخميس”. أما بالنسبة لليوم (الثلاثاء)، فتؤكد أن “الأقلام تستمر بالتعامل مع قضايا الموقوفين، ملتزمةً بعدم عرقلة أمورهم”. أما لناحية “الشؤون الإدارية فنمتنع عن توقيعها كونها تحتمل التأجيل”. موظفة أخرى تعبر عن إحتجاجها على حرمانهم من العطل القضائية: “نحن الموظفون نتناوب خلال العطلة القضائية على العمل في مراكزنا بهدف تسيير العمل في المحاكم. بالمقابل، لا نتمتع بعطلة سنوية بالتساوي مع موظفي سائر المؤسسات”. بالإضافة إلى ذلك، إن “عدد الموظفين ضئيل مقارنة مع ضغط الملفات القضائية”. خلافاً لحالة الأقلام في المحاكم المدنية، يؤكد أحد الموظفين في قلم تابع لمحكمة جزائية أن “لا تغيرات نشعر بها اليوم على صعيد عملنا، إنه كأي يوم عمل عادي”.

لا بد أن لإعتصام القضاة إرتداد سلبي على أصحاب الدعاوى، لناحية إرجاء جلسات اليوم لشهور أو أيام إضافية. إلا أن الدفاع عن القضاء وإستقلاله بما ينطوي عليه من حفظ لحقوق المتقاضين أمامه، يحتم إتخاذ خطوات حاسمة. هذا ينعكس تفاؤلاً عبّر عنه القضاة والموظفون آملين الحفاظ على حقوقهم من ناحية دوام العمل، والعطل القضائية وصندوق التعاضد.

على خط موازٍ، يجتمع القضاة في مجلس القضاء الأعلى مع مكتب مجلس شورى الدولة ومكتب ديوان المحاسبة، والهيئة الإدارية لرابطة القضاة القدامى، وذلك كجزء من حراكهم المندد بما ينطوي عليه مشروع قانون سلسلة الرتب والرواتب من مساس بإستقلالية السلطة القضائية. وأعقب الاجتماع بيان حاسم لناحية رفض السلطة القضائية التعاطي معها على “أساس أنها ليست سلطة بفعل تنظيم أمورها بدون الوقوف على رأيها، فضلا عن إيراد ذلك في قانون لا يعنيها بل يعني الموظفين، ومن ثم عبر التعامل مع أفرادها وكأنهم يخضعون لدوام وظيفي محدد الساعات والعطل”. هذا وقد إعتبر البيان أن ” الحقوق التي حصل عليها القضاة عام 2011 تشكل الحد الأدنى ومن غير المسموح المس فيه أو الإنتقاص منه مادياً أو معنوياً”. ذلك أن “السلطة القضائية، لن تتمكن من ممارسة دورها  في بناء الدولة ما لم تكن هي صاحبة الرأي في مصيرها وفي آليات أدائها لعملها وفي المنظومات القائمة لديها الكفيلة بتحصينها ماديا ومعنويا، تمهيداً لتأدية الدور المطلوب منها على مستوى إحقاق الحق، وأيضا على مستوى المحاسبة إن لتنقية الذات، أو لتنقية المجتمع“.

على ضوء ما تقدم، ينتظر القضاة نتائج الجلسة التشريعية في صدد سلسلة الرتب والرواتب. والسلطة القضائية، وفقاً للبيان، “ستعمل مع رئيس الجمهورية ورئيس مجلس النواب ورئيس مجلس الوزراء ووزير العدل، ومع النواب من أجل سحب جميع البنود المتعلقة بها”.

وكانت المفكرة أصدرت بياناً تحت عنوان: “استباحة القضاة تهديد لكل مواطن”. وقد انتقدت فيه المفكرة الإجازة للحكومة إلغاء صندوق التعاضد، مما يسلط السلطة التنفيذية على القضاء وقد يؤدي إلى إنقاص إحدى الضمانات المالية الأساسية للقضاء من دون إعطائهم ما يوازيها خلافا لاجتهاد المجلس الدستوري ولمبدأ effet cliquet  والذي يمنع عملا كهذا. كما رأت المفكرة أن تحديد رواتب الفئة الأولى من الموظفين الإداريين بقيمة أعلى من رواتب القضاة، يشكّل رسالة إحباط للقضاة مؤدّاها فرض تصوّر دونيّ لوظيفتهم، ويدفع، في حال إقراره، أصحاب الكفاءة إلى تفضيل العمل في الإدارة العامة على العمل في القضاء. ومن شأن كل ما تقدم أن يُضعف أيّ جهد مستقبليّ لاستقطاب أفضل خرّيجي الجامعات في القضاء، وبخاصة في ظل التعديات المستمرة على استقلال القضاء والمساعي المتواصلة لاستتباعه. وفي نهاية بيانها، أملت المفكرة أن يشكل الحراك القضائي بداية لتشكيل هيكل قضائي قادر على الدفاع عن مصالحهم المعنوية والمادية، وتاليا عن استقلالهم، مذكّرة بأن أيّ مسّ باستقلالية القضاء المالية أو المعنوية يشكل تهديدا حقيقيا للمواطن. فالمسألة المطروحة ليست مسألة فئوية تخص القضاة أو كرامتهم وحسب، بل هي مسألة وطنية ودستورية تتصل بجميع المواطنين وحقهم بالكرامة والعدالة والحرية.

 


[1] – رضوان مرتضى، “القضاة يعتكفون: إنتفاضة ضد “السلسلة”، الاخبار، مجتمع واقتصاد العدد  3127، 14 آذار 2017.

انشر المقال

متوفر من خلال:

المرصد القضائي ، لبنان ، حقوق العمال والنقابات



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني