الصامدون جنوبًا: يتحايلون على الغارات تارةً وعلى صعوبة العيش طورًا


2024-05-10    |   

الصامدون جنوبًا: يتحايلون على الغارات تارةً وعلى صعوبة العيش طورًا
الدمار في بليدا

منذ أكثر من 60 عامًا ومصدر رزق أبو علي وأم علي من قرية دير سريان الجنوبية لم يتغيّر، فهما مزارعان يعتاشان من زراعة التبغ وتربية الماشية وبيع الألبان والأجبان، ولطالما كان أبو علي، قبل العدوان الإسرائيلي الذي بدأ في شهر تشرين الأول الماضي، منهمكًا في عمله اليومي، إما في علف الأبقار وحلبها، أو في زراعة الأرض، وفي ساعات العصر غالبًا ما يستلقي على “الدشك” الذي يتوسّط مصطبة منزله أو يلف سجائر من الدخان العربي. أما أم علي فغالبًا ما كانت تسارع لملاقاة الضيوف المارّين وفي يدها أواني الحليب المفوّر أو المروّب لبنًا بلديًا. اليوم ومع توسّع رقعة الاستهدافات الإسرائيلية لتشمل قرى بعيدة عن الشريط الحدودي المحاذي لفلسطين المحتلة، ومنهم قرية دير سريان، يرفض أبو علي وأم علي مغادرة منزلهما وأرضهما على الرغم من الصعوبات الأمنية والمعيشية التي يعيشانها، بخاصّة وأنّ مصدر رزقهما من بيع الألبان والأجبان متوقف. 

عائلة أم علي وأبو علي هي واحدة من الكثير من العائلات التي لا تزال في القرى الجنوبية حيث تعيش تحت وابل القذائف الإسرائيلية. عائلات تضاعفت أعدادها مع اتساع دائرة القرى المستهدفة إذ لم يعد القصف والغارات تطال القرى الحدودية أو الواقعة في الخط الثاني للمواجهة فحسب مثل (عيترون، بليدا، حولا، الظهيرة، كفركلا، ميس الجبل، عديسة، الطيبة) بل تعدتها إلى القرى الأبعد والمصنفة كخط ثالث ورابع من قرى المواجهة مثل دير سريان مثلًا.

كما أنّه في بعض القرى المتاخمة للحدود والتي سوّيت معظم منازلهم بالأرض، لا يزال هناك بعض الأهالي الصامدين من بينها بليدا حيث لا يزال الحاج معين فرحات يحرس ذكريات أهلها الذين دفعوا حتى الآن عشرات الشهداء بينهم الشقيقات الثلاثة الطفلات ريماس وتالين وليان شور وجدتهنّ سميرة أيّوب.

ويعاني الأهالي في تلك القرى الحدودية من غياب المقوّمات الأساسية للحياة من مواد غذائية وحاجيّات أساسية من بينها الأدوية حيث يضطرّون إلى التوجّه إلى أماكن آمنة نسبيًا لشراء ما يحتاجون إليه أحيانًا سيرًا مع ما يعنيه ذلك من خطر تعرّضهم للاستهداف. كما يعاني سكان بعض المناطق الحدودية من انقطاع كلّي للكهرباء مع بعض ساعات تغذية من المولّدات حيث تتوفّر ومن انقطاع المياه نتيجة استهداف الغارات للبنية التحتية في العديد من المناطق من دون إمكانية لإصلاحها نتيجة كثافة القصف. في منطقة حولا مثلًا تنقطع الكهرباء منذ آذار من دون قدرة للشركة على إرسال فرق صيانة، وفي نبع الطاسة تعرّضت المنشآت لضرر كبير جرّاء استهداف محيطها بغارة إسرائيلية ما دفع مؤسسة مياه لبنان الجنوبي إلى الطلب من المشتركين استخدامها فقط في الخدمة وليس للشرب أو الطهي. 

ومعظم الصامدين في القرى الجنوبية يرزحون تحت البطالة والضغط والإرهاق النفسي نتيجة القصف المستمرّ، كما أنّ التلامذة والطلاب في العائلات الصامدة خسروا سنتهم الدراسية نتيجة عدم تمكّنهم من ارتياد المدرسة أو حتى المشاركة افتراضيًا في الدروس لانقطاع الإنترنت أحيانًا أو ضعف الشبكة في أحيان كثيرة أخرى. 

وبحسب معظم النازحين والصامدين في منازلهم في القرى المتاخمة الذين تواصلت معهم “المفكرة” فإنّ مدخولهم المالي اليوم يقتصر على مساعدات حزب الله الذي يقدّم لكلّ عائلة نازحة أو صادمة 225 دولارًا، إضافة إلى حصة غذائية واحدة. وأفاد بعضهم أنّ الحزب يدفع بدل إيجار منازلهم واشتراكات المولّدات الكهربائية، مؤكدين أنّهم لم يتلقوا أيّ مساعدات تذكر من الدولة اللبنانية

علي يتنقل سيرًا في الوديان نظرًا لغياب وسائل النقل

لا يزال أبو علي وعائلته إذًا صامدين في قرية دير سريان، يتحايلون على الغارات الإسرائيلية تارة وعلى صعوبة العيش وعدم توفّر المواد الغذائية ولا المردود المادي تارة أخرى.

ويروي علي (20 عامًا) في اتصال مع “المفكرة” أنّ “الوضع الأمني والمعيشي يزداد سوءًا يومًا بعد اليوم، حيث تراجع مردودهم المالي إلى الصفر منذ بدء العدوان، فهم في أيام السلم كانوا يعتاشون من بيع الحليب واللبن وكان مدخولهم في اليوم يتراوح بين ثلاثين وأربعين  دولارًا، أما اليوم ومع نزوح معظم العائلات  من المنطقة وإغلاق جميع المحال التجارية التي كانت تصرّف إنتاجهم وانعدام الزوار الذين غالبًا ما كانوا يأتون من بيروت في نهاية الأسبوع، وصل مردودهم إلى الصفر. “صرلنا من نهار العيد ما بعنا سطل حليب واحد، الحليب كلّه عم نطعمية للعجول الصغار”، يقول علي. ولشراء حاجيّات المنزل يضطرّ علي في معظم الأحيان إلى السير لمدة ساعة ونصف من دير سريان إلى قعقعية الجسر وهي قرية آمنة نسبيًا “ما في عنّا سيارة، أنا بس بدي اشتري اغراض بنزل مشي على القعقعية، بمشي بالوديان والـ إم كا فوقي، بتوكّل على الله وبمشي”.

من جهة ثانية تقول والدته أم علي إنّها لم تتمكّن وزوجها من زراعة التبغ هذا الموسم “نحن كلّ سنة منزرع سبع دونمات، اليوم زرعنا شوي حد البيت”، ما يعني أن دخلها سينخفض كثيرًا في العام المقبل. وتؤكد أنّ جزءًا أساسيًا من معيشتها كان يعتمد على زراعة التبغ ومردوده السنوي، مضيفةً أنّها اليوم تعتاش من المساعدة المالية التي يعطيها الحزب للعائلة وهي عبارة عن 225 دولارًا، وهو مبلغ يذهب لشراء دواء لابنتها التي تعاني من مرض عصبي تحتاج من أجله إلى علاج دائم “أنا بنتي كلّ شهر بدّي أمّنلها الدواء هيدا قبل الأكل والشرب، أنا عندي دواء الضغط بس إذا ما معي ما بشتري”. وتقول إنّ غذاءهم بات يقتصر على البطاطا والبيض ومنتجات الأبقار لديهم، وإنّها عادت لتطبخ على الحطب كونها لا تريد استهلاك الغاز. وتؤكد أنّ شركة كهرباء لبنان تغذي القرية بحوالي ثلاث ساعات يوميًا إلّا أنّه وعند حدوث غارة يضطرون إلى انتظار عمال الصيانة لإصلاحها، أما المولد الكهربائي الخاص بالقرية فهو يعمل لمدة ثلاث ساعات فقط. 

غياب مقوّمات الحياة في المنطقة من طبابة ووسائل نقل كادا أن يتسبّبا لها بإعاقة جسدية، بسبب الغارة التي نفذها العدو على مقربة من منزلها، حيث كانت في الحقل القريب من المنزل، ومع حدوث الغارة راحت ابنتها تصرخ فركضت أم علي لتهدئتها ما أدى إلى تعثّرها ووقوعها. ومع إقفال مركز هيئة الرعاية الصحّية الأوّلية القريب منهم والذي كان أهالي القرية يستعينون به لمداواة أمراضهم، بات عليها التوجّه إلى النبطية ما اضطرّها للانتظار لأيام لحين تدبّر سيارة تقلّها وابنها.

تقول إنّها رغم كلّ هذه المعاناة ترفض ترك المنزل “بدناش ندشّر البيت، لوين بدنا نروح، اللي عم يعطونا إياهم عم نعيش فيهم ، ما فيناش ننذل، يا منموت يا منعيش”.

من جهة ثانية كلّف الصمود علي وشقيقته اللذين كانا قبل الحرب يرتادان مهنية في النبطية، خسارة عامهما الدراسي لعدم توفّر الإنترنت والقدرة على متابعة دروسهما عن بعد، “ما عنّا إنترنت شو منعمل وما قادرين نروح ونجي عالنبطية كلّ يوم، ما معنا سيارة وما في نقليّات”.

من حولا إلى بيروت رحلة مخاطرة يومية 

“شغلي عالمرفأ، لما بقدر إنزل بنزل، لما بغيب بيخصمولي”، يخوض مهند دياب الذي لا يزال مقيمًا في بلدته حولا رحلة بقاء يومية للوصول إلى عمله في مرفا بيروت، بعد أن رفض الخروج من قريته ومنزله. “صرلي 7 شهور قاعد ببيتي أنا وعيلتي، أنا مش وجه بهدلة ولا وجه ذلّ، بدي روح اقعد عند العالم وانا ما معي مصاري؟ لأ بضلّ ببيتي باكل شو ما كان”. تتألّف عائلة دياب من زوجة وأربعة أولاد أكبرهم لم يتجاوز الثانية عشرة من عمره، إضافة إلى والدته (63 عامًا) التي رفضت أيضًا الخروج من المنزل. تعيش العائلة تحت القصف والغارات اليومية التي كانت في بداية العدوان تستهدف أطرافها إلّا أنها أصبحت تستهدف داخل القرية. يروي محمد أنّ أطفاله اعتادوا أصوات القذائف والغارات، فبعدما كان ينتابهم الفزع مع بداية الحرب وكانوا يهرعون للاختباء، هم اليوم يخرجون إلى الباحة لتفقّد مكان سقوط الصواريخ بعد وقوعها. يضيف أنّه مضطرّ كعامل في المرفأ أن يخوض أكثر الأيام رحلة ذهاب وإياب الى بيروت، يعبر خلالها في الأودية والجبال وغالبًا ما يتعرّض للخطر جرّاء وقوع غارات قريبة. ففي إحدى المرّات وقعت غارة على الطريق أمامه وكانت طائرة الاستطلاع تحلّق فوق سيارته فلم يتوقف خوفًا من استهدافه وتقدّم بسيارته على الحجارة المتطايرة والطريق المكسّرة “ما كنت قادر وقّف بخاف يفكّروا شي، صرت إطلع بسيارتي على الحجار والدبش”، يضيف. وعلى الرغم من الظروف التي يمرّ بها، إلّا أنّ الشركة التي يعمل لصالحها تخصم أيّام غيابه من راتبه الذي هو في الأصل لا يكفي لتغطية كلفة معيشة عائلته.

بدورها تقول زوجته إنّ تحدّيات عدّة تعاني منها كزوجة وأم صامدة تحت القصف والغارات، وفي ظل غياب زوجها المستمرّ لساعات طويلة في العمل. تقول إنّها تعيش حالًا من الخوف والقلق المستمرّ بخاصة عندما تكون الغارات قريبة. “بتعرفي لما يكون الرجّال غير، ما بتكوني لحالك حاملة الولاد وخوفهن وملبّكة وين تروحي، بيحملهم معي، بيعرف لوين بدنا نهرب، يعني بغيابه بحس بخوف كبير”.

من جهة ثانية ونتيجة تراجع مدخول زوجها بسبب تغيّبه عن العمل أحيانًا وفي ظلّ الغلاء الفاحش للسلع، أصبحت الكثير من الحاجيات غائبة عن المنزل، وأصبحت البطاطس هي الطبخة التي تتكرّر أكثر أيام الأسبوع. وأكثر ما يحزنها هو عدم قدرتها على تنفيذ طلبات أولادها وتلبية رغباتهم، فهم مثلًا يحبون البيتزا إلّا أنّها تحتاج إلى مكوّنات عدّة، فانتظرت الزوجة طويلًا حتى وفّرت ثمنها، وعندما خبزتها لهم ساد شعور في المنزل كأنّه يوم عيد، “بتعرفي الجبنة غالية والمرتديلا والصلصة”.

وأكثر ما يحزنها هو عدم تمكّن أطفالها من إكمال عامهم الدراسي “ما كان عنّا إنترنت، حاولنا نشتغل على التشريج بالكارت ما مشي الحال، هلق الأولاد راحت عليهم السنة”.

صامد في بليدا فوق الركام

يروي كثر من الذين  تمكّنوا من زيارة قرية بليدا مؤخرًا، أنّ معظم منازلها هدمت بالكامل أو أصيبت بأضرار جزئية نتيجة الغارات شبه اليومية التي تتعرّض لها، وأنّها باتت شبه خالية من السكان. ربما وحده الحاج معين فرحات (70 عامًا) بقي صامدًا في بليدا رافضًا النزوح عن بيته وأرضه. يروي أحد أقاربه في اتصالٍ مع “المفكرة” أنّهم عبثًا حاولوا إخراجه من البلدة إلّا أنّه رفض ذلك رفضًا قاطعًا، على الرغم من إصابته بشظية سطحية في وجهه، حيث حضر مسعفون من الهيئة الصحية الإسلامية وعرضوا عليه مغادرة القرية خوفًا على سلامته إلّا أنّه رفض. وهو اليوم صامد في قريته حيث يعيش على الحصص الغذائية “ورحمة الله” على ما يقول قريبه. 

وكان الحاج معين انتقل من بيروت إلى بليدا قبل ثماني سنوات حيث قرر الاستقرار، وكان يمضي معظم أوقاته في المطالعة وقراءة الكتب، وهو يعيش بلا اشتراك مولّد كهربائي ولا إنترنت ولا يملك هاتفًا خلويًا.

منهم من صمد ومنهم من خرج مرغمًا على أمل العودة

وإن كان البعض لا يزال صامدًا رغم المخاطر، فإنّ كثيرين غادروا مرغمين يتمنّون العودة كلّ دقيقة وينتظرون انتهاء الحرب بفارغ الصبر.

تروي أم حسين (75 عامًا) أنّها خرجت من قريتها العديسة مرغمة وأنّها كانت تودّ البقاء إلّا أنّ أولادها رفضوا وأحضروها إلى بيروت. تعبّر أم حسين عن شوقها لتراب أرضها ولمنزلها الذي عادت إليه فور تحرير القرى الجنوبية في العام 2000. يومها ظنّت أنّها لن تغادره ثانية. تستذكر القرية وكأنّها تروي قصة من الماضي الجميل “كنت إقعد تحت اللوزة أو تحت الصنوبرة أو أبرم بالحقل، هلّق  قاعدة بين أربع حيطان  وع هالكنباية”. صحيح أنّها في منزل ابنها ومع أحفادها وأولادها، إلّا أنّ قلبها في القرية وتتمنى العودة سريعًا.

الحاج علي (70عامًا) أُرغم أيضًا على الخروج من قريته القنطرة حسب ما يقول لـ “المفكرة” ويشعر أنّه يعيش اليوم في مدفن بعدما كان يعيش في النعيم. “كل حجر بالقنطرة بيسوى الدنيا كلّها، ما في شي أغلى من الأرض والتراب”. ويضيف أنّه كان يحلم بتقاعد هادئ وشيخوخة سعيدة كالأيام التي أمضاها في القرية منذ التحرير لغاية اندلاع الحرب في تشرين الأول الماضي. “نحن صرنا كبار، تعبنا بحياتنا وانحرمنا فترة طويلة من أرضنا لي احتلتها إسرائيل، أيمتى منعيش ومننبسط بحياتنا”. ويعتبر أنّ الجنوبيين الذين نزحوا من قراهم باتوا متعبين ومرهقين وهو يريدون العودة سريعًا.

أم حسين نحلة ولدت وترعرعت في الطيبة ولم تغادرها حتى خلال الاحتلال، غير أنّ العدوان واشتداد القصف على الطيبة دفعاها إلى النزوح إلى بيروت حيث تشعر بـ “الغربة”. قصف منزل أم حسين مؤخرًا منزلها الفسيح الذي أشرفت على  تفاصيل بنائه بنفسها، واليوم تعيش في غرفة صغيرة عند أحد أقاربها. تقول إنّها حزينة على منزلها ومنزل ابنها حسين الذي كان ينوي الزواج فيه الصيف المقبل. اليوم بات بلا منزل، وعليه تأجيل العرس لحين انتهاء الحرب وإصلاح منزله من جديد، متمنية أن ينتهي العدوان قبل بدء موسم الصيف “نحن طول عمرنا بالضيعة، مش معوّدين على بيروت انشالله تخلص الحرب قريبًا ونطلع عالضيعة ولو بدنا ننصب خيمة”.

يقول ابنها حسين (30 عامًا) في اتصال مع “المفكرة” إنّه يشعر بالملل معظم الوقت في بيروت، ويقارن كيف كان يمضي أيامه في القرية “كنت من الصبح ل عشية اشتغل ما إزهق أبدًا، كان عنّا تراكتور مننقل في مي وعنّا جرّافة إشتغل عليها، والصبح إشتغل بالزراعة، هيدا القعود كنّاش نعرفه”. 

انشر المقال

متوفر من خلال:

تحقيقات ، الحق في الحياة ، لبنان ، مقالات



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني