دُفنت اليوم الطفلات ريماس وتالين وليان شور وجدتهنّ سميرة أيّوب في تراب قرية بليدا الجنوبيّة، في قبور ستجمع من اليوم زوّارًا من عيترون قرية والد الطفلات، وعيناتا قرية الجدّة وبليدا القرية التي عاشت فيها سميرة بعد زواجها والتي يحفظها ترابها، هي التي تفلح وتزرع وتعدّ المونة من إنتاجها. ودّع الجنوب الضحايا الأربعة في تشييع جمع المئات ممّن تحدّوا المدفعية الإسرائيليّة، وعلى وجوههم تعابير الصدمة الممزوجة بالغضب. وداع تصدّره وجه محمود شور الوالد المفجوع الذي أتى مباشرةً من ساحل العاج ليُودع بناته فيما والدتهنّ هدى لا تزال على سرير المستشفى مُصابة إصابتين، واحدة في جسدها وواحدة في أمومتها. وهو وداعٌ أعاد عائلة أيّوب إلى العام 1972 حين استشهد الجد علي أيّوب وهو يُجابه الدبابة الاسرائيليّة وحده، وعلى الطريق نفسه سارت زوجته زينب خنافر في حرب تمّوز عام 2006 بعد أن أبت ترك قريتها فاستشهدت واستشهد في الحرب نفسها شقيق سميرة، جميل أيّوب الذي بقي أيضًا في القرية أيّام الحرب.
وكما في غزّة حيث يُقتل طفلٌ كلّ ربع ساعة ذاق لبنان قبل يومين طعم قتل الأطفال، فأكّدت لنا إسرائيل مجددًا أنّها قادرة على كلّ أنواع القتل، وأنّها لن توفّر حتى الأطفال. ترك هذا القتل صدمة لن ننساها، كما لم ننسَ حتّى اليوم مجزرة المنصوري والوالد عباس جحا الذي حمل جثة طفلته مريم ذات الشهرين وابنه مهدي ذي السبع سنوات بعد قصف الطيران الإسرائيلي لسيارة إسعاف كانت تقلّ جرحى ونازحين، ولا مجزرة قانا حين احتمى النازحون بمبنى الأمم المتحدة وجميع الحروب والاعتداءات التي استهدفت فيها إسرائيل المدنيين في لبنان.
ولن ننسى أيضًا خال الفتيات سمير أيوب وهو يخبرنا أنّ الطفلات كنّ يصرخن قبل موتهنّ، وأنّه حاول إخراجهنّ من السيارة التي تشتعل ولكنّ النار كانت أقوى منه وأسرع. لن ننسى سمير وهو ينتقل من شاشة إعلاميّة إلى أخرى مساء الأحد بقميصه الملّطخ بالدماء ليروي كيف قُتلت الطفلات وجدّتهنّ. مرارًا وتكرارًا سأل سمير أمام الشاشات، كيف يُمكن قتل الأطفال وطائرة الاستطلاع الاسرائيليّة كانت تحوم فوقهنّ ورأت الطفلات يلهون أمام المنزل قبل صعودهنّ في السيارة.
خال الطفلات: “يا ريتهن تأخّروا”
يروي سمير أنّه “حين توجّهت إلى منزلهنّ كعادتي لأطمئن عليهنّ، وجدتهنّ في البيت وقد وضّبن أغراضهنّ ويتهيأنّ للنزول إلى بيروت وكنّ خائفات من الخروج فقلت لهنّ أنّه من الواضح أنّ السيارة فيها أطفال ولن تستهدفكنّ إسرائيل”. ويتابع: “قدت سيارتي أمامهنّ بينما هنّ في السيارة مع والدتهنّ هدى حجازي وكان الناس لا يزالون في الشارع ولا يوجد أي مظاهر مسلّحة”. وما إن وصل إلى منطقة غدماتا بين بلدتي عيترون وعيناتا حتى سقط صاروخ وراءه وشعر سمير أنّ سيارته انحرفت عن الطريق بفعل الانفجار. ويضيف: “نظرت خلفي ولم أرَ سيارة هدى، اعتقدت أنّها تأخّرت، ويا ريتها تأخرت”. حين خرج سمير من السيارة لم يجد سيارة هدى إلى أن انتبه أنّها قُصفت وقذفها الصاروخ إلى حقل أسفل الطريق. يقول سمير إنّه لحظة وصوله كانت هدى إلى جانب السيارة وهي واعية وقالت له “يا خالي البنات” لكنّ سمير لم ير سوى سيارة مشتعلة. ويقول: “سحبت أمّهنّ من السيارة وأبعدتها قدر المستطاع وكنت أسمع صراخ البنات لكنّي لم أكن قادرًا على فعل شيء”. وهكذا استشهدت سميرة (60 عامًا) وريماس (14 عامًا) وتالين (12 عامًا) وليان (10 أعوام).
صرخ سمير بملء حنجرته على إحدى الشاشات: “هذه سيارة فيها أطفال وليس إرهابيين”، ردًا على ما نُقل عن الإعلام العسكري الاسرائيلي بأنّه استهدف سيارة فيها “خليّة للإرهابيين”، وتابع “بالنسبة لهم أي مواطن صامد في الجنوب، إن كان طفلًا أو إمرأة أو رجلًا مسنًّا بالنسبة هو عسكري، هذه هي سياسة الإرهاب والإجرام”. وسأل “بأي حق قتلهنّ؟ بأي حق حرمهنّ من الحياة؟”. وأكدّ “أنا مستعدّ لوضع سيارتي بعهدة أي لجنة تحقيق للتأكد من محتوياتها”.
يقول مختار البلدة حسين خنافر لـ “المفكرة” إنّ “عيناثا تقع على بُعد 6 كيلومترات من الحدود مع فلسطين المحتلّة أي أنّها ليست على الحدود مباشرة، والقصف لم يطل القرية منذ بداية العدوان إلّا مرّة قبل هذه الحادثة وعلى خراج البلدة وليس داخلها كما حصل”. وهذا ما دفع أبناء عيناثا للبقاء في قراهم، إذ يلفت خنافر إلى أنّ “الناس أغلقت متاجرها والأعمال مشلولة لكنّ الناس لم تترك جميعها القرية ومن بقي يتنقل بشكل طبيعي”، ويؤكّد أنّ الطريق الذي قُصفت فيه سيارة هدى هو طريق أساسي يربط القرى ببعضها وأنّه لا يوجد أي مظاهر مسلّحة في القرية.
الخجولات الطيّبات والجدّة المجتهدة
يقول شقيق سميرة فوزي أيّوب إنّ “لحظة معرفتنا بالخبر كانت صعبة، وصلنا الخبر بالتدريج من أقاربنا لتهيئتنا، قالوا لنا إنّ أمرًا سيّئًا حصل وبعد نصف ساعة علمنا كلّ شيء، علمنا أنّ شقيقي سمير كان معهن وينوي أخذهنّ إلى عيناثا قبل نزولهنّ إلى بيروت”. يقول والألم يعتصر قلبه “لم يبق لهدى أحد، ماتت طفلاتها الثلاثة”. ويؤكد أنّ حالة هدى مستقرة وهي في مستشفى راغب حرب في النبطية. ويسأل فوزي “ألهذه الدرجة أجهزة إسرائيل غبية حتّى لا تُميّز الأطفال؟ أم أنّ الاحتلال يحاول استغباءنا”.
يسأل شقيق سمير الآخر كامل أيّوب “من كان في السيارة التي استهدفت؟ نساء وطفلات بريئات، ومعهنّ سطل لبن وخبز وكتب ودفاتر مدرسية”. لا يشكّ كامل أبدًا في أن يكون الاستهداف مقصودًا، يقول: “نعرف هذا العدو بتاريخه الإجرامي”. ويشدّد “نوجّه كلامنا لمن يُطالب بحقوق الطفل والعيش المشترك، لتصل هذه الرسالة للسفيرة الأميركية في لبنان، أليست هذه جريمة ضدّ الطفولة والإنسانيّة؟”. ويُضيف: “كلّ ما يتحدثون عنه كذب، نظام فاشل، لا تعنيه حقوق الإنسان حين يستهدف الاحتلال أطفالنا”. ويَصعُب على كامل التفكير بهدى الأُم التي لم يبق لها أي من أولادها.
تروي مريم غانم قريبة العائلة: “هدى كانت مع زوجها في ساحل العاج، وحين كبرت العائلة أتت مع بناتها ريماس وتالين وليان إلى لبنان لتربيهنّ وحدها وبقي زوجها في الغربة”. وتتابع مريم “عاشت هدى مع والدتها سميرة في بليدا جنوب لبنان، وكرّست كلّ حياتها لبناتها”. وتتابع “ابتسامة سميرة لا تفارق وجهها أبدًا”. وتتحدّث مريم عن الجدّة وروحها الشابة التي لم تتجاوز الستين من عمرها “كانت إمرأة عصامية ومزارعة قويّة”. وتؤكّد أنّ “سميرة، أو أم عدنان، أمضت أكثر من ثلاثين عامًا في الحقول، تزرع وتحصد وتصنع المونة وتبيعها في سوق الخميس في مدينة بنت جبيل وتُعيل أسرتها إلى جانب زوجها أبو عدنان”.
أمّا معلمة الفتيات في مدرسة القلبين الأقدسين في عين إبل مهى فرح فتتحدث عن الفتيات مشيرةً إلى أنّ “ريماس مهذبة وشديدة الخجل وغالبًا ما تتردد بالكلام، وتالين الابنة الوسطى مندفعة توزّع الحب طيلة الوقت وأحيانًا ترسم قلبًا وتهديني إياه، أمّا ليان صغيرة العائلة فتجمع بين الغنج والخجل بتصرّفاتها”، وتصفها بـ “دلّوعة البيت”. مهى التي رافقت الفتيات في المدرسة منذ تسجيلهنّ بعد قدومهنّ مع والدتهنّ هدى من ساحل العاج قبل ثلاث سنوات، تصف والدتهنّ هدى بـ “الأم المثالية” وتستذكر حين أتت مع زوجها محمود شور إلى المدرسة لتسجيل بناتهما، فتقول: “كانا يسألان عن أبسط التفاصيل، كانا يُريدان أن يطمئنا بالهما على البنات، وبعد تسجيل الفتيات كانت هدى تسأل باستمرار عن دراسة بناتها، كلّ فترة تتصل وتناقش متطلباتهنّ، أُم شديدة الحرص لا تسهى عن احتياجات بناتها أبدًا”.
تشعر مهى أنّها فقدت بناتها، فلا تستوعب ما حصل، وتسأل: كيف يُقتل الأطفال؟” ثمّ تستعيد شيئًا قاله سمير خال الفتيات على التلفاز: “كان يسمع صراخًا!”، ثم تسأل وهي تغصّ: “شو كانوا عم يقولوا!؟”. وتحاول مهى أن تتخيّل لقاءها زميلات وزملاء الفتيات في المدرسة بعد هذه الجريمة، لتسأل: “ماذا سأقول لهم، كيف سأنظر إليهم؟” بماذا سأجيب حين يسألوني لماذا قتلت رفيقاتهم”.
لعلّ الإجابة على هذا السؤال تكمن في شيء ممّا سمعناه ونحن صغار بأنّ العدو الإسرائيلي يخاف الأطفال، فهم استمرار للحكاية وهم المستقبل الذي لن يكون فيه احتلال ولا مجازر. وهو يخاف الجدّات أيضًا، لأنّ ذاكرتهنّ تحفظ تاريخ إجرامه وتنقله إلى الأجيال اللاحقة عبر أولادهنّ وأحفادهنّ ولأنّهنّ من يدفعن كثيرين منّا إلى العودة إلى قرانا وإلى الأرض تحديدًا.
إسرائيل قتلت 10 مدنيين لبنانيين بينهم 4 أطفال
تأثير قتل إسرائيل لسميرة وحفيداتها تجاوز قرى الجنوب ليضع كل لبناني ولبنانيّة في حالة حداد، بعد أن انضمّت الأربعة إلى ضحايا مدنيين سبقوهنّ منذ 8 تشرين الأوّل 2023 في جنوب لبنان، هم المصور الصحافي عصام عبدالله الذي قتلته إسرائيل في علما الشعب في 13 تشرين الأوّل، وعلي خليل وزوجته زباد العاكوم اللذين قتلتهما غارة إسرائيلية وهما في بيتهما في شبعا، والطفلحسينكوراني الذي أغارت عليه مسيّرة إسرائيلية في 31 تشرين الأوّل وهو على درّاجته النارية في بلدة ياطر، والراعيان أمجد محمد وربيع الأحمد اللذان قتلتهما إسرائيل في الأوّل من تشرين الثاني الجاري. وجميع هؤلاء التحقوا بأكثر من 10 آلاف شهيد في غزّة بينهم أكثر من 3900 طفل و2900 إمرأة منذ بدء العدوان الإسرائيلي على غزة. ليكون استهداف أطفال لبنان استكمالًا للجريمة التي ترتكبها إسرائيل كلّ يوم بحق غزّة وأطفالها. ولتكون الدماء على قميص سمير الذي ظهر فيه على وسائل الإعلام، استكمالًا لمشاهد أهالي غزّة الّذين تلطّخت قمصانهم بدماء أحبّائهم.
وأطفالنا كما أطفال فلسطين يستحقون الحياة. ولهم أحلام كثيرة. فريماس، كما يقول سالم ابن سمير “حلمت أن تكون طبيبة أطفال، وتالين كان طموحها أن تكون مهندسة ديكور مثل والدها أمّا ليان أصغر الفتيات فكانت تحب الرسم، وكان آخر ما رسمته “طفلان يتعانقان استوحتها من أخبار غزّة حيث يُقتل الأطفال”.
والخال سمير كان ينوي حمايتهنّ، أراد لهنّ حياةً جميلة، قال لهنّ سيروا خلفي وسأقودكنّ إلى طريق آمن، فجمعت الجدّة سميرة ما حضّرته من خبز ومونة ولبن وزعتر اجتهدت على صناعتها طيلة الصيف. وكانت تلك اللحظات الأخيرة التي سبقت انتقالهم إلى مكان آخر، حيث تحضن الجدّة حفيداتها إلى الأبد.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.