تطوّر رواتب القضاة في ليبيا: أسئلة حول إقرار ونفاذ الزيادة الأخيرة


2024-06-10    |   

تطوّر رواتب القضاة في ليبيا: أسئلة حول إقرار ونفاذ الزيادة الأخيرة
رسم رائد شرف

رواتب القضاة في أيّ دولة مستقرّة يعدّ موضوعًا مهمّا وحساسًا في ذات الوقت كونه يؤثر بشكل مباشر على نزاهة واستقلالية السلطة القضائية.  كما تلعب مرتبات القضاة دورًا حيويًا في ضمان نزاهة واستقلال القضاء كونها توفر للقاضي حالة من الاستقرار المادي وتوفر احتياجاته الأساسية وتضمن له العيش بكرامة مما ينعكس إيجابا على حياده وموضوعيته ، كما تساهم الرواتب الجيدة  في جذب الكفاءات العالية إلى السلطة القضائية، مما يرفع من الكفاءة ويساهم في التطوير. وفي ليبيا التي تشهد حالة من عدم الاستقرار السياسي ووضعا اقتصاديا متقلبا ومعقدا، يواجه القضاة فضلا عن ذلك عدم انتظام في صرف مرتباتهم وتأخّرها في كثير من الأحيان. هذا الوضع يؤثر سلبًا على معنويات القضاة وأدائهم، حيث يعتمدون على هذه المرتبات لتغطيّة احتياجاتهم الأساسية. سنتناول في هذه المقالة تحليل رواتب القضاة في ليبيا من خلال دراسة أهميتها وانعكاساتها المالية والاقتصادية المرتبطة بها.

رواتب القضاة في عهد القذافي

في عهد النظام السابق كانت رواتب القضاة متدنّية وضعيفة مثلها مثل كلّ رواتب الموظفين في القطاع العام، حيث كانت مجمل هذه المرتبات تخضع لقانون موحّد هو قانون رقم (15) لسنة 1981 بشأن نظام المرتبات للعاملين الوطنيين. وقد نصّت مادته الأولى على أنه يستهدف نظام المرتبات للعاملين الوطنيين في الجماهيرية العربية الليبية الشعبية الاشتراكية، وإقرار مبدأ المرتبات المتساوية للأعمال والمسئوليات المتكافئة، وذلك في إطار إشباع الحاجات الأساسية لمن يخضعون للنظام المذكور. واستمرت المرتبات على هذا النحو حتى منتصف التسعينات عندما تقرر منح القضاة علاوة تمييز تساوي 40% من المرتب مما أدى إلى تحسن نسبي لدخل القضاة  مقارنة بقطاعات وظيفية أخرى. بعد ذلك، صدر القانون رقم 6 لسنة 2006 بشأن نظام القضاء والذي عدل من رواتب مرة جديدة بزيادة أخرى متوسطة وحدد لأول مرة جدول رواتب خاصا بأعضاء الهيئات القضائية.

تطورات مرتبات القضاة بعد 2011

واستمرّ وضع رواتب على حاله وفق القانون رقم 6 لسنة 2006 إلى أن طالت تغييرات 2011 كل القطاعات، بخاصة على مستوى رواتب والدخل الشهري. وبعد تعديل تركيبة المجلس الأعلى للقضاء واستبعاد وزير العدل من رئاسة المجلس وجعله مجلس قضائيا خالصا يترأسه رئيس المحكمة العليا وعضوية رؤساء محاكم الاستئناف في سنة 2012، أصدر المجلس الأعلى للقضاء القرار رقم 76 لسنة 2012 بتقدير علاوة تمييز لأعضاء الهيئات القضائية.

وقد بلغت علاوة التمييز للقضاة 50%من إجمالي الراتب في موازاة منح 40% لأعضاء الهيئات القضائية. إلا أن كلّ هذه الزيادات لم تكنْ في مستوى تطلّعات القضاة وأعضاء الهيئات القضائية باعتبار أنها تستند أصلا على مرتبات متدنية أساسا.

لذلك قدم وزير العدل صلاح المرغني (وهو محام وحقوقي) جدول رواتب جديدا للقضاة وأعضاء الهيئات القضائية. وقد حاول إصداره بقانون من البرلمان ولم ينجح في ذلك نظرا للأزمة السياسية القائمة آنذاك بين الحكومة والمؤتمر الوطنيّ العامّ والتي انتهت فيما بعد بإقالة رئيس الحكومة. لذلك قدم وزير العدل المقترح لمجلس الوزراء الذي تبنّى الجدول وأصدر القرار  521 لسنة 2013 الذي أحدث أكبر زيادة في رواتب القضاة. ولئن نص القرار على تنفيذه في 1/1/2014 إلا أنه تأخر تنفيذه حتى بداية عام 2015 نظرا للحرب التي اندلعت في منتصف 2014.

أما عن رواتب مستشاري المحكمة العليا، فقد حدثت أول زيادة فيها سنة 2012عندما أصدرت الجمعية العمومية للمحكمة العليا القرار رقم 5 لسنة 2012 بتقرير زيادة في رواتب مستشاري المحكمة العليا. وقد نص القرار في مادته الأول على زيادة بنسبة 60% من إجمالي الراتب ثم حدثت زيادة أخرى سنة 2020 رفعت سقف الرواتب وإن بقي من المتعذّر الاطلاع على قرار الزيادة الذي لم يُنشر حتى الآن وإن كان تمّ تنفيذه.

ولعل أبرز زيادة على الرواتب، هي التي اكتسبها أعضاء المجلس الأعلى للقضاء بناء على قرار رئيس حكومة الوحدة الوطنية رقم 41 لسنة 2021 بتكريس مبدأ معادلة  رواتب رئيس وأعضاء المجلس الأعلى للقضاء بمرتّبات رئيس وأعضاء مجلس النواب.

قانون جديد يتضمن زيادة غير مسبوقة

أصدر مجلس النواب القانون رقم 18 لسنة 2023 بشأن قانون رواتب الموظفين من الجهات الممولة من الخزانة العامة، مستثنيا منها أعضاء الهيئات القضائية، فضلا عن  أعضاء وموظفي السلطة التشريعية والجهات الخاضعة لإشراف ديوانه. واستغلّ المجلس الأعلى للقضاء هذا الاستثناء بخاصة بعد الزيادة غير المسبوقة التي تحصّل عليها رئيس وأعضاء المجلس في مرتباتهم ليقدّم مشروع قانون جديد لمجلس النواب خاص بالمعاملة المالية لأعضاء الهيئات القضائية يتضمن جدولا جديدا للمرتبات بزيادة كبيرة لجميع الدرجات بلغت في بعض الأحيان أكثر من 100%. وهي تعتبر أعلى زيادة تحصّل عليها القضاة وأعضاء الهيئات القضائية منذ استقلال ليبيا سنة 1952. وبتاريخ 24 يناير 2024 عبرت اللجنة التشريعية بمجلس النواب عن دعمها مشروع القانون حيث أيدت اللجنة إصداره نظرا لأهمية الوظيفة القضائية ولتحصينها من الفساد والرشوة. وقد أعلن المجلس الأعلى للقضاء عن صدور واعتماد  قانون زيادة رواتب أعضاء الهيئات القضائية من دون أي تفاصيل أخرى، وذلك على صفحته الرسمية على موقع التواصل الاجتماعي «فيسبوك».[1]

وبالفعل، صدر القانون رقم 5 لسنة 2024 بشأن المعاملة المالية لأعضاء الهيئات القضائية ونص على أن تكون المعاملة المالية وفقا للجدول المرفق بالقانون مضاف اليها كافة المزايا المقررة.

ووفقا للجدول، يناهز الراتب في بداية التعيين لعضو الهيئة القضائية وعضو النيابة العامة  6000 دينار بينما القاضي  لا يعين في الوظيفة وفقا لقانون نظام القضاء في ليبيا  إلا بعد سبع سنوات من العمل كعضو هيئة قضائية أو عضو نيابة عامة وتبلغ بداية راتب القاضي 7200 دينار على أن تحتسب زيادة سنوية تتراوح بين 200 و300 دينار حسب الحالات. بينما  يبلغ راتب القاضي في أعلى درجة 13600 دينار. وإذا عادلنا المرتبات بالدولار لا نجدها مرتفعة، حيث يبلغ مرتب القاضي في أعلى درجة حوالي 2000 دولار تقريبا. لكن قياسا بمرتبات الوظيفة العامة في ليبيا مثل مرتبات المدرسين والأطباء وأساتذة الجامعات، فتعتبر هذه المرتبات مرتفعة.

 إلا أنه حتى تاريخ كتابة المقال، لم يتمّ تعميم القانون ونشره بالجريدة الرسمية مما يعني أنه لم ينفذ بعد، خاصة بعد صدور قانون آخر خاصّ بهيئة مكافحة الفساد في 9 مايو الماضي حمل نفس الرقم وجعل البعض يشكك في صدور القانون رغم التطمينات التي تصدر من المجلس ووزارة العدل. يضاف إلى ذلك مشكلة أخرى لإنفاذ القانون وهي تتمثل في ازدواجية السلطة التنفيذية ووجود حكومتيْن: واحدة في طرابلس غير معترف بها من البرلمان والأخرى في بنغازي وتابعة للبرلمان.

الأزمة الاقتصادية في البلاد وتأثيرها على ميزانية الدولة

يمرّ الاقتصاد الليبي بمرحلة صعبة نتيجة للصراعات المستمرة وعدم الاستقرار السياسي. هذا يؤثر بشكل مباشر على ميزانية الدولة وعلى قدرة الحكومة على تخصيص موارد كافية للقطاعات المختلفة، بما في ذلك القضاء. كما تعاني البلاد من تضخم مرتفع وضعف في العملة المحلية، مما يؤثر على القوة الشرائية لمرتبات القضاة. وبالطبع، يرتقب أن تحفّز هذه الزيادة  في مرتبات القضاة مطالبة العاملين في القطاعات الأخرى كالأطباء والرقابة الإدارية وغيرها بزيادة مماثلة، مما سيزيد من الضغوط على البرلمان والحكومة. وبالواقع، زادت الأزمة اقتصادية حدّةً هذا العام نتيجة ارتفاع سعر الدولار أمام العملة المحلية ووجود عجز في توفير النقد الأجنبي. وهو ما دفع محافظ مصرف ليبيا المركزي لدقّ ناقوس الخطر بداية هذا العام عندما أشار إلى أن 95% من دخل ليبيا من البترول ولا توجد مصادر دخل بديلة وأن حكومة الوحدة الوطنية لا تراعي هذه العوامل حيث صرفت الحكومة 420 مليار دينار خلال ثلاث سنوات أغلبها موجّه للإنفاق الاستهلاكي. كما تحدث محافظ المصرف المركزي عن مرتبات الوظيفة العامة مشيرا إلى أنها قفزت من 33 مليار عام 2021 إلى 65 مليار دينار عام 2023 لتشكل المرتبات 60% من إجمالي الدخل القومي. وأضاف أنّ الدّعم زاد بما يعادل 20 مليار دينار، مما شكّل ضغوطا إضافية على سعر الصرف أمام الدولار مؤكّدا أن سياسة الصرف الحالية تتعارض مع مبدأ الاستدامة المالية مطالبا بالإدارة الرشيدة للمال العامّ. كما حذر من الإنفاق الموازي مجهول المصدر في إشارة مبطّنة لطبع العملة خارج ليبيا وبدون رقابة مصرف ليبيا المركزي، مطالبا بضرورة إصدار ميزانية موحّدة.

وقد فرض المصرف المركزي ضريبة تصل إلى نحو 27% على سعر صرف الدولار باستثناء القطاعات المموّلة من الخزانة العامة موضحا أن سعر الصرف مضافا إليه الضريبة سوف يكون ما بين 5.95 و6.15 دينار للدولار الواحد على أن تخفض أو ترفع حسب ظروف الإيرادات، و يمكن تحصيل إيرادات إضافية بنحو 12 مليار دينار تستخدم في سداد الدين العام ومشروعات التنمية وذلك لمواجهة صعوبة في توفير احتياجات السوق المحلي من النقد الأجنبي منذ سبتمبر 2023 في ظل تزايد حجم الإنفاق العام.[2]

خاتمة

يظل تحسين مرتبات القضاة في ليبيا عنصرًا حيويًا لتعزيز استقلالية وكفاءة القضاء. ولئن سعت التعديلات الأخيرة في جدول الرواتب لتحقيق هذا الهدف ، إلا أن التحدّيات الاقتصادية والسياسية المستمرة قد تؤثر على تحقيق هذه الأهداف. إذ أن تحسين مرتبات القضاة في ليبيا ليس مجرّد مطلب ماليّ بل هو ضرورة لتحقيق العدالة وتعزيز سيادة القانون. يجب على الحكومة الليبية أن تعي أهمية هذا الموضوع وأن تتخذ خطوات فعالة لضمان استقرار ونزاهة القضاء، مما يساهم في تحقيق التنمية والاستقرار في البلاد.


[1] بوابة الوسط https://alwasat.ly/news/libya/433388

[2] مقال منشور في المفكرة ( إنشاء صندوق للإعمار بصلاحيات واسعة ورقابة شبه معدومة: مخاوف من الفساد وتسييس التنمية)

انشر المقال

متوفر من خلال:

قضاء ، استقلال القضاء ، مقالات ، ليبيا ، المهن القانونية



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني