تمر مصر حالياً بحالة من التخبطات السياسية غير المفهومة التي قد تؤدي إلى تغيير المشهد السياسي الحالي في مصر. فبعد سنوات من القمع شهدت بعض الميادين في عدد من محافظات مصر وعلى رأسهم ميدان التحرير في يوم 20-09-2019 مئات من المتظاهرين للمطالبة برحيل الرئيس عبد الفتاح السيسي. فمزق المواطنون صور ولافتات تأييد الرئيس عبد الفتاح السيسي المنتشرة بالشوارع في مشهد يعيد إلى الأذهان بداية أحداث ثورة 25 يناير مرة أخرى؛ حيث مُزقت حينها صور مبارك؛ وسط هتافات من قبيل “الشعب يريد إسقاط النظام”، “أرحل…يا سيسي”، “قول.. متخفش.. بلحة لازم يمشي”، و”عيش.. حرية.. عدالة اجتماعية”. جاءت تلك التظاهرات استجابة للدعوة التي أطلقها عبر وسائل التواصل الاجتماعي الممثل والمقاول محمد علي[1].حيث دعا المصريين للنزول إلى الشوارع للتعبير عن رفضهم لفساد الرئيس وأسرته وإهدار موارد الدولة المالية لبناء قصور رئاسية واستراحات. أدت الاستجابة للتظاهرات والتي ما زالت مستمرة حتى الآن في بعض المحافظات كالسويس والمحلة، إلى إعادة تقييم الأمور السياسية مرة أخرى ومحاولة فهم مُجرياتها في ظل الغموض والتعتيم. وبمتابعة الآراء على وسائل التواصل الاجتماعي، نلاحظ أن البعض فسر الاستجابة السريعة للتظاهرات والنزول إلى الشوارع بعد دعوة محمد علي بوجود صراعات سياسية بين أجهزة الدولة السيادية وقادة القوات المسلحة غير المُعلن عنهم حول استمرار الرئيس الحالي في منصبه؛ خاصة وأن شهادات بعض المتظاهرين والفيديوهات الموثقة على وسائل التواصل الاجتماعي توضح أن قوات الأمن تعاملت مع المتظاهرين بقليل من القمع على غير المعتاد منذُ تولى السيسي إدارة البلاد. أما البعض الآخر فقد استبعد هذا الاحتمال، مفسراً ما جرى بأن الناس قد فاض بها الكيل. هذا المقال يسلط الضوء على دور وسائل التواصل الاجتماعي في كسر حاجز الخوف لدى المواطنين بعد صمت دام لسنوات، خاصة وأن دعوات التظاهر كانت عبر هذه الوسائل، كما تمت تغطية التظاهرات من خلالها. وما هي ردود أفعال الجان الدولة الإلكترونية والإعلامية لاحتواء الموقف وتعزيز صورة الرئيس عبد الفتاح السيسي مرة أخري أمام المواطنين.

تأثير وسائل التواصل الاجتماعي في تحريك الجماهير وردود فعل أجهز الدولة

لقد بدأت وتيرة الأحداث تتسارع بعد نشر المقاول محمد علي أول فيديو له على مواقع التواصل الاجتماعي، يتحدث فيه عن فساد قيادات القوات المسلحة وتورط الرئيس الحالي وأسرته في إهدار المال العام لبناء قصور رئاسية واستراحات فارهة. نُشر ذلك الفيديو على نطاق واسع بين مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي وتفاعل معه العديد من المواطنين بإعادة نشره على صفحاتهم الشخصية. مما دفع الأجهزة الأمنية إلى الضغط على إدارة فيس بوك وتويتر لحذف الحساب الشخصي للمقاول محمد على[2]. بدأ من بعدها المقاول محمد علي بسلسلة من الفيديوهات لكشف  الفساد داخل القوات المسلحة ومؤسسة الرئاسة تجاوزت مشاهدة تلك الفيديوهات المليون مشاهد. مما فتح المجال أمام الكثير من النشطاء والمعارضين المقيمين خارج مصر إلى التفاعل ببث فيديوهات تحليلية ونقدية لسياسات الرئيس الحالي وتورط الجيش المصري في قضايا فساد منذُ أحداث 30 يونيو. في نفس الوقت ظهر الناشط السياسي وائل غنيم بسلسلة من الفيديوهات الشبيهة التي تحدث فيها عن فساد لواءات المخابرات العامة أثناء وبعد الثورة المصرية، وعن فساد نجل السيسي محمود الذي حصل على ترقية استثنائية لدرجة عميد وأصبح نائب رئيس المخابرات العامة[3]. في وسط هذا السيل من الفيديوهات والآراء المختلفة، بدأ المواطنون في إعادة نشر تسريبات صوتية بين الرئيس عبد الفتاح السيسي ومدير مكتبه اللواء عباس كامل، وكذلك مقطع من فيديو اللواء كامل الوزير الذي يشغل منصب وزير النقل والمواصلات حالياً وهو يتحدث مع أهالي سيناء ويؤكد فيه على موافقته على “التهريب وغسيل الأموال” ولكن بشرط أن يكون للقوات المسلحة نصيب من حصيلة التهريب[4].

في المقابل، تعاملت الأجهزة الأمنية مع الأحداث بشكل تقليدي، حيث بدأت اللجان الإلكترونية في إعادة ترويج بعض الفيديوهات التي توضح الجانب الإنساني من شخصية الرئيس، مثل الزيارات المفاجئة لكمائن الضباط، ومقاطع الفيديو التي تجمعه بأهالي الشهداء. فضلاً عن التغني بنشر الأغاني الوطنية واتهام جماعة الإخوان المسلمين وأجهزتها الإعلامية بإحداث بلبلة لزعزعة استقرار الوطن، وفبركة الحقائق من خلال فيديوهات مزيفة لا تمت للواقع بصلة. فبدأ الإعلاميون في تكذيب حقيقة وجود فساد مالي داخل المؤسستين العسكرية والرئاسية. كما طُلب من الفنانين بث فيديو دعم للرئيس عبد الفتاح السيسي لمكافحة الإرهاب، وفيديوهات تحليلية مضادة ترد على اتهامات المقاول محمد علي ونشطاء مواقع التواصل الاجتماعي. كما جاء مؤتمر الشباب الأخير يناقش تأثير نشر الأكاذيب على الدولة في ضوء حروب الجيل الرابع؛ حيث تمت مناقشة كيف استطاعت التكنولوجيا والوسائط الحديثة تسهيل إدارة العمليات الإرهابية[5]. فتم شرح بشكل عملي كيف يتم تزييف محتوى الفيديو لتزييف الحقائق باستخدام التكنولوجيا. إلا أن اعتراف الرئيس بإهدار مئات الملايين على مشاريع غير ضرورية كالقصور الرئاسية ساعد في زيادة مصداقية المقاول محمد علي. فرد عليه على بهاشتاج #كفاية_بقى_يا_سيسي، والدعوة للتظاهر يوم الجمعة الموافق 20 سبتمبر لإسقاط نظام السيسي. نجحت لجان الدولة الإلكترونية في حذف هاش تاج “كفاية بقى يا سيسي” من على موقع تويتر ليحل محله هاش تاج #أحنا_معاك_يا_سيسي[6]. ولكن مع نزول المواطنين للشوارع، بدأت الأجهزة الإعلامية بالعودة إلى استراتيجية تضليل الرأي العام وتكذيب حقيقة مشاركة المواطنين في تظاهرات على مستوى الجمهورية، سواء بتصوير ميدان التحرير على القناة الأولى الرسمية فارغ من المواطنين، أو الترويج أن المواطنين تحتفل في الشوارع لفوز فريقهم في مباراة لكرة القدم.

تعامل قوات الأمن والأجهزة الأمنية مع الموقف

وفقاً لشهود العيان فإن حضور قوات الأمن في المشهد مختلف إلى حد كبير عن المعتاد، حيث كان التعامل الأمني متفاوتا في المناطق المختلفة. فقد انتشر مقطع فيديو لأحد الضباط يأمر أفراد الأمن المركزي بعدم الاعتداء على المواطنين، ومقطع آخر مضاد يظهر فيه بعض أفراد الأمن أثناء الاعتداء على المتظاهرين بالقوة، وفض المظاهرات باستخدام قنابل الغاز المسيلة للدموع. وألقت قوات الأمن القبض على مئات المتظاهرين بمختلف المحافظات، حيث أكد المحامون أن الأجهزة الأمنية أفرجت عن بعض المقبوض عليهم بعد فرزهم داخل مقرات الاحتجاز إلى مجموعتين؛ المجموعة الأولى ليس لها أي نشاط أو انتماء سياسي ويتم إطلاق سراحهم، والمجموعة الثانية مجموعة لها انتماءات سياسية أو رأي سياسي يتم توجيه تُهم التظاهر والتجمهر إليهم[7]. كما بدأت قوات الأمن بعد مظاهرات 20 سبتمبر في التشديد من إجراءات حالة الطوارئ وحملات الاعتقال بكافة محافظات الجمهورية وخاصة بمحيط ميدان التحرير ووسط القاهرة، عن طريق توقيف المارة وتفتيشهم وفحص هواتفهم بحثاً عن دليل اتهام بالانتماء إلى فكر سياسي.

وبدأت نيابة أمن الدولة فجر يوم 23-09-2019 التحقيق مع 370 متهم من جميع المحافظات في القضية رقم 1338 لسنة 2019 حصر أمن الدولة بتهمة مشاركة جماعة إرهابية في تنفيذ مخططاتها، بث ونشر أخبار كاذبة على وسائل التواصل الاجتماعي، إساءة استخدام وسائل التواصل الاجتماعي، وأخيراً التظاهر بدون تصريح. في نفس الوقت بدأت قوات الأمن باعتقال بعض النشطاء السياسيين أمثال المحامية الحقوقية والناشطة ماهينور المصري عقب خروجها من نيابة أمن الدولة لحضور التحقيقات مع المتهمين، وشقيق الناشط السياسي وائل غنيم، وكذلك عبد الناصر إسماعيل نائب رئيس حزب التحالف الشعبي الاشتراكي،  و عبد العزيز الحسيني نائب رئيس حزب الكرامة[8].

بعد مظاهرات 20 سبتمبر خرج المقاول محمد على مرة أخرى على مواقع التواصل الاجتماعي يشكر المواطنين على الاستجابة لدعوات النزول إلى الشوارع ويشكر قوات الجيش والشرطة على عدم استخدام العنف في مواجهة المتظاهرين، وجدد دعوات التظاهر مرة أخرى بجميع ميادين مصر يوم الجمعة القادم 27 سبتمبر 2019.

ولكن مازال التصعيد مستمراً من جانب الأجهزة الأمنية التي تستمر في حملة اعتقالاتها الواسعة بجميع المحافظات، وقطع خدمات “الماسنجر” عن مصر لحجب فيديوهات المقاول كمحاولة للسيطرة على الموقف، وقد يكون استعداداً لقطع خدمات الإنترنت بالكامل في حالة فشل الأجهزة الأمنية السيطرة على الموقف في المستقبل القريب.

خاتمة

من المؤكد أن تظاهرات 20 سبتمبر حققت بعض المكاسب التي تعتبر بمثابة بداية لحركة شعبية جديدة، حيث نجحت في كسر حاجز الخوف لدى المواطنين من النزول إلى الميادين والمطالبة بإسقاط النظام مرة أخرى بعد أكثر من 5 سنوات من القمع. كما فشلت الأجهزة الإعلامية ولجان الدولة الإلكترونية في تخويف المواطنين من النزول إلى الميادين بحجج الإرهاب والخطابة الوطنية. مما لا شك أيضاً أن فيديوهات المقاول محمد علي عن ملفات فساد رئيس الجمهورية وأسرته ساعدت بشكل كبير على التأثير في وعي الجماهير بحقائق كانوا على دراية بها ولكن لم يجرؤ أحدهم على الحديث عنها أو تأكيدها. فقد نجح محمد علي في استقطاب عدد كبير من المواطنين بسبب حديثه عن فساد وسرقة المؤسسات والأشخاص للمال العام لبناء قصور واستراحات وسيارات فارهة، في الوقت الذي يتحدث فيه رئيس الجمهورية دائمًا عن نقص الموارد المالية وفقر الدولة. من الممكن أن يكون هناك عدد من القيادات واللواءات غير متحمسين لبقاء الرئيس الحالي في منصب رئيس الجمهورية ولكن لا نعلم الأسباب الحقيقية وراء ذلك، ولكن ربما بسبب سياسات الرئيس الحالي التي جعلت من استثمارات الجيش مشاعا لحديث العامة أو بسبب حرمان هؤلاء القيادات من الامتيازات التي يتمتع بها الآن الموالين للرئيس، أو لاعتبارات تتصل بالصالح العام.

في كل الأحوال فإن مواقع التواصل الاجتماعي بدأت في نشر مطالب الشعب في حال نجاح محاولات الإطاحة بالرئيس الحالي وهي تتمثل في الإفراج عن كافة المعتقلين، التحقيق في وقائع الفساد وإهدار المال العام، إلغاء التعديلات الدستورية الأخيرة، وأخيراً مراجعة السياسات الاقتصادية ومنع سياسات الاحتكار. أما في حالة فشل تلك المحاولات فمن المتوقع أن تزيد الأجهزة الأمنية من حالة القمع، وقد يتخذ رئيس الجمهورية قرارات اعتقال لبعض القيادات السابقة بالقوات المسلحة، أو تغيير بعض القيادات الحالية.

  • مقالات ذات صلة:

القبض على المحامية ماهينور المصري تبعا لحضورها تحقيق مع متهمين بالتظاهر

  • لقراءة المقال بالللغة الانجليزية اضغطوا على الرابط أدناه:

Egypt’s September 20 Protests: Towards Change or More Repression?


[2] بلوك تويتر يعاقب المقاول الهارب محمد على بسبب التزييف والكذب، موقع صوت الأمة، 21-09-2019.

[3] محمد مغاور، أبناء السيسي يصنعون إمبراطورية بالرقابة والمخابرات، موقع عربي 21، 22-07-2018.

[4] فيديو متداول على اليوتيوب تحت اسم” كامل الوزير رئيس الهيئة الهندسية يوافق على التهريب وغسيل الأموال في مشروعات الجيش” https://www.youtube.com/watch?v=gIUnUoI5hbk

[5] فيديو متداول على اليوتيوب تحت اسم كلمة المخرج تامر الخشاب ضمن جلسة تأثير الأكاذيب على الدولة في ضوء حروب الجيل الرابع، بتاريخ 14-09-2019. https://www.youtube.com/watch?v=qZLxCdLarno

[6] حرب هاشتاغات في مصر وسر اختفاء كفاية بقي يا سيسي، موقع الحرة، 18-09-2018.

[7] انتفاضة سبتمبر الإفراج عن العشرات واحتجاز آخرين بمصر، موقع العربي 21، 21-09-2019.

[8] عاجل القبض على الناشطة الحقوقية ماهينور المصري، القاهرة 24، 22-09-2019.